أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


القدّيس موسى الحبشي البار (حياته – تجاربه – فضائله – أقواله)

كاتب القصة

إن أول من دون قصة موسى الحبشي الملقب بالأسود هو بلاديوس أسقف هلينوبليس (425+) الذي كان معاصراً له وعرفه معرفة جيدة (يخبرنا أنه كان حبشياً ولذلك يلقب بالأسود).

وقد نقلت هذه القصة إلى السريانية، ذلك أن علماء قد نقلوا، في العصور الأولى من اليونانية إلى السريانية تاريخ نساك مصر المعروف بكتاب فردوس الآباء من تأليف بلاديوس ومن جملة قصصه قصة موسى الحبشي.

نشأة موسى

ولد في الربع الأول من القرن الرابع ويخبرنا بلاديوس أنه كان حبشياً ولذلك لقب. ويظن غيره أنه كان من إحدى قبائل البربر. وعبداً لكبير القروم فيهم. وكان هؤلاء يعبدون الشمس. ونشأ شرس الطباع، حاقداً على اسياده، مشاكساً يلتذ بالعنف ويرهبه الناس ويتجنبونه، حتى أن سيده طرده اتقاء شره، وبلغ درجة من القوة والشراسة بحيث صار رئيس عصابة، للسرقة، والنهب، والقتل، تتألف من سبعين رجلاً، ويقال انه عبر النيل ذات مرة سباحةً والسيف بين فكيه ليقتل راعياً للانتقام، كان موسى أكثر أفراد القبيلة شراً، جباراً متجبّراً ويفتخر بقوته الجسمية، واتصف خاصة بالشراهة حتى قيل إنه كان يأكل خروفاً كاملاً ويشرب زق خمر في وقعة واحدة، وكان متمرغاً في الشهوات الدنيئة، لا يخجل من أحد.

اهتداؤه إلى المسيح

ما بين العنف والقوة بون شاسع. ومن الناس من يتلذذ بأذى غيره، فيقتل، ويدمر، ويعذب، ويظن أنه صار بذلك قوياً جباراً، هذا هو العنف، والعنف قوة، ولكن ليس في مكانها الطبيعي، كالقطار الذي يخرج عن القضبان الحديدية التي وجدت ليسير عليها، فيندفع بعنف من مساره الطبيعي المحدد له. هكذا الإنسان اذا سلك بالعنف يكون قد خرج عن شريعة اللّـه والنواميس التي سنها له اللّـه تعالى ليسلك بموجبها، وبخروج هذا الإنسان على شريعة الرب يتحول إلى آلة بيد الشر، فيدمر ويهلك ويهدم فينهدم.

مخاطبته للشمس ومن ثم ذهابه إلى رهبان البرّيّة

هكذا كان موسى انساناً قوي البدن جباراً، مرعباً مخيفاً وهداماً. ولكن اللّـه لم يتركه يخبط خبط عشواء في بيداء الخطية بل أيقظ ضميره، وجعله يبحث عن الإله الحقيقي وهو يخاطب الشمس التي كانت قبيلته تعبدها: «هل أنت الإله الحقيقي» ؟!

ويقال أنه رأى رؤيا فكانت على أثر ذلك توبة مفاجئة وصادف مرة أحد المزارعين ففرش له دخيلة أمره، وكشف أمامه سره، فأرسله هذا إلى الأنبا ايسيذوروس في برية شيهيت ليدله على الإله الحقيقي، فتقلد موسى سيفه واتجه نحو البرية وصادف شيوخاً عديدين ورهباناً وعبَّاداً قد تركوا العالم وفرزوا أنفسهم لعبادة اللّـه في زهد ونسك شديدين، وقابل الأنبا ايسيذوروس وارتعب هذا منه إذ رآه على تلك الحال وقد سمع عن جرائم كثيرة. ولكن موسى هدأ من روعه وطمأنه بأنه قد جاء إلى البرية مفتشاً عن الإله الحقيقي، ومما قاله: «لما سمعت أن رهبان وادي حبيب يعرفون اللـه لذلك أتيت إليك لتخبرني وتسأل اللّـه عني حتى لا يغضب علي لأجل شر أعمالي ولا يهملني لأجل قبائحي غير المحدودة»، وكان يقول هذا وهو يبكي بكاءً غزيراً ولما سمع الأنبا ايسيذوروس ذلك أيقن أن اللّـه أرسله اليهم فشرع يعلمه مبادئ الإيمان المسيحي، ويعظه بكلام الرب ويشرح له عن الخلاص بدم السيد المسيح، وعن عواقب الإنسان الثلاث: الموت والدينونة والسعادة الأبدية أو العذاب الأبدي. ثم أخذه إلى الأنبا مكاريوس الكبير فوعظه هذا بدوره أيضاً فذاب قلب موسى كما يذوب الشمع أمام النار، لقد أخذ اللّـه منه القلب الحجري، وأعطاه قلباً إنسانياً رقيقاً، وانكشف أمامه سر الحياة الأبدية، واستوعب معنى نعمة الخلاص بدم المسيح حيث حلت هذه النعمة في قلبه فتجاوب معها ورحب بالخلاص فناله.

اعترافه العلني بخطاياه:

وأذ أشرق نور الرب على موسى ملأ قلبه ضياء واحساساً بشناعة الخطية فأبغضها، وندم كثيراً على ما اقترفته يداه من جرائم كبيرة وآثام لا تحصى. وتاب عنها، وحتم أن لا يعود إلى عيشة الشر، وزالت رغبة العنف من رأسه وقلبه، واعترف علانية أمام المؤمنين في الكنيسة معدداً جميع خطاياه السالفة معلناً ندامته الصادقة. وكان الأنبا أبو مقار أثناء الإعتراف يشاهد لوحاً عليه كتابة سوداء وكلما اعترف موسى بخطيئة مسحها الملاك حتى اذا انتهى من الأعتراف وجد أبو مقار اللوح أبيض ناصعاً.

واختبر الآباء، مدة كافية من الزمن، صدق توبة موسى، ثم عمده الأنبا ايسيذوروس، وعملت نعمة اللّـه في قلبه فصار إنساناً جديداً «إذاً إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً» ( 2كو 5: 17) وهكذا ارتاح موسى من عناء الخطية إذ لبَّى نداء الرب القائل: «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم احملوا نيري عليكم وتعلموا مني. لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم لأن نيري هيِّن وحملي خفيف» (مت 11: 28).

واكتشف موسى أن العنف ليس قوة وإنما القوة تكمن في انتصار الإنسان على أهوائه الشريرة، وأن الإنسان ولئن كان ضعيفاً إذا اتكل على المسيح يسوع، بإمكانه أن يحيا حياة البر والقداسة لأن الرب يقول: «قوتي في الضعف تكمل» ( 2كو 12: 9) وهكذا أيقن موسى أن المسيح هو الطريق والحق والحياة، فآمن به سالكاً طريقه متمسكاً بحقه، وكان يحيا في المسيح فصار في سلام مع اللـه، ومع نفسه، ومع القريب.

صيرورته راهبًا

وطلب موسى من الأنبا ايسيذوروس أن يلبسه اسكيم الرهبانية، فنصحه هذا أن يرجع إلى المدينة ويعيش حياة نقية كسائر المؤمنين الصالحين فيها. لأن حياة الرهبانية والنسك في البرية قاسية جداً، ولا يمكنه أن يتحملها بالمقارنة مع ماضيه، كما أنه سيصير هزءاً وسخرية اذا بدأ ولم يتمكن من أن يكمل ويرجع حينذاك إلى عيشته السابقة. أما موسى فأصر على أن يحيا في البرية وتضرع إلى مرشده أن يلبسه الاسكيم الرهباني، ولما تأكد ايسيذوروس من صدق نيته وميله الشديد إلى حياة الزهد ألبسه الأسكيم الرهباني.

وأبدى موسى في حياته هذه الجديدة غيرة وقَّادة فكان يواصل الصلوات المقترنة بالسجود ليل نهار، مكثراً من الأصوام الصارمة، وإذا أكل فكان يكتفي بوجبة واحدة في اليوم يتناول فيها قليلاً من الخبز اليابس والماء، ساكباً الدموع السخينة والسخية التي وصفت بأنها كانت مثل الماء الصاقي. كما كان يسهر أحياناً طوال الليل وعيناه مفتوحتان من غير رقاد، ودون أن يجلس على الأرض لئلا تأخذه قوة النوم اغتصاباً. وكان يرعاه في البرية مرشدان روحيان خبيران في حياة الرهبنة وهما الأنبا مكاريوس الكبير، والأنبا ايسيذوروس، وكان يطيعهما خاضعاً لأوامرهما، فاستقرت قدماه على صخرة التوبة النصوح.

‏وهناك أدّى موسى اعترافاً علنيّاً كاملاً، بخطاياه، في الكنيسة ضمّنه كلّ ما فعل من قبائح في حياته الماضية. مكاريوس، أثناء اعترافه، كان يعاين لوحاً عليه كتابة سوداء. فكلّما اعترف موسى بخطيئة ارتكبها كان ملاك الرّبّ يمسحها له. وما إن انتهى من أداء اعترافه حتّى كان اللوح قد ابيضّ.

إثر ذلك وعظه مكاريوس وأعاده إلى إيسيدوروس فألبسه إسكيم الرهبانيّة وأوصاه قائلاً: اجلس، يا بنيّ، في هذه البرّيّة ولا تغادرها، لأنّك في اليوم الذي تخرج منها تعود إليك كلّ الشّرور. لذا أقم زمانك كلَّه فيها، وأنا أؤمن أنّ الله سيصنع إليك رحمة ويعطيك نعمة ويسحق الشّيطان تحت قدميك.

سكن موسى، أوّل أمره، بين الإخوة الرّهبان. لكنّه، لكثرة الزّوّار، طلب أن ينعزل فأرشده القدّيس مكاريوس إلى قلاّية منفردة عاش فيها مثابراً على الجهاد الرّوحيّ. وبقدر ما كان موسى مقبلاً، في ماضيه، على الشّرّ، صار مقبلاً، في حاضره، على التّوبة والجهاد. ذكّره الشّيطان بعاداته الآثمة القديمة فنصحه الأنبا إيسيدوروس بالثّبات في الجهاد لأنّ تلك العادات كانت قد تأصّلت فيه.

تجاربه

حاربه ابليس عدو الخير حرباً ضروساً لا هوادة فيها، فكان يزيِّن له لذة أهواء الجسد، وضرورة اتباعها، فهو كبشر، لابد من أن يأكل ويشرب جيداً ليغذي جسده، كما كان بدأ الصراع الداخلي العنيف بين حياته الأولى المليئة بالأثام وبين الحياة الملائكية الطاهرة التي يحياها في البرية بسلام مع اللّـه. وأخذ ابليس يثير في قلبه رغبة العنف حتى في ميدان محاربته ابليس ذاته، وكان يتوق إلى العودة إلى حياته الأولى عندما كان يلتذ بإيذاء الناس. ولما اشتدت عليه وطأة الأفكار الشريرة، وأنهكه الجهاد المستمر ضدها لدرجة أنه صار على قاب قوسين أو أندنى من السقوط باليأس والعودة إلى حياة الخطيئة، هرع إلى مرشده الروحي الأنبا ايسيذوروس طالباً اليه أن يخلصه من هذا المأزق الحرج، ويصلي لأجله لئلا يفقد النعمة التي نالها من الرب. فكان هذا يعزيه ويصلي معه ولأجله ويرشده قائلاً: «لا تحزن هكذا وأنت ما زلت في بدء الصعوبات ولمدة طويلة سوف تأتي رياح التجارب وتقلق روحك فلا تخف ولا تجزع وأنت إذا ثابرت على الصوم والسهر واحتقار أباطيل هذا الدهر سوف تنتصر على شهوات الجسد»، فضرب له إيسيدوروس مثَلاً في الثبات فقال إنّ شهوات الجسد كالكلب الواقف أمام الجزّار، إن لم يعطه شيئاً وأصرّ فسيتحوّل الكلب عنه إلى آخر.

حورب بالزنى بضراوة ولم يُطق الجلوس في قلاّيته، فرجاه إيسيدوروس أن يعود. قال: لا أحتمل ذلك يا أبت. أخذه وأصعده إلى السّطح وقال له: انظر إلى المغارب. فتطلّع فرأى حشداً من الشّياطين لا يُعدّ هائجاً يُحدث شغباً استعداداً للحرب. ثمّ قال له: انظر إلى المشارق. فتطلّع فرأى حشداً من الملائكة القدّيسين الممَجَّدين. فأردف: هؤلاء هم الذين يرسلهم الله لمساعدة القدّيسين. أمّا الذين في الغرب فهم الذين يحاربونهم. لكنّ الذين معنا هم أكثر من الذين علينا. فشكر موسى الله وتشجّع وعاد إلى قلاّيته. على نصيحة إيسيدوروس، حاول موسى أن ينهك قواه بالوقوف طويلاً في الصّلاة والصّوم والمطّانيات. قمعاً لجسده كان يطوف، ليلاً، بالقلالي يأخذ جرار الشّيوخ الرّهبان ويملؤها ماء. كلّ هذا جعل الشّيطان يضجر من فرط جهاده وحُسن رجائه فالتقاه، عند البئر، مرّة، وضربه ضرباً موجعاً وتركه غير قادر على الحركة. ولكنْ جاء إخوة إلى البئر وحملوه إلى الكنيسة، إلى الأب إيسيدوروس. بقي في الكنيسة ثلاثة أيّام ثمّ استردّ عافيته.

 عاد الراهب موسى إلى قلايته ولازمها بحياة انفراد صارمة، ملتجئاً إلى الرب يسوع. وهكذا غلب ابليس بعد جهاد روحي اقترن بالانسحاق أمام اللّـه والاتكال التام عليه تعالى. فتخلص الراهب موسى من الرذائل، وبدأ بممارسة الفضائل.

ومن فرط جهاده هاجت عليه الشّياطين فنصحه الأنبا إيسيدوروس بالإعتدال في نسكيّاته وشدّد عليه أن يسلّم أمره لله وهو وحده يرفع عنه القتال لئلا يظنّ أنّه بكثرة أعماله النّسكيّة يقهر الشّياطين، بل بالتّواضع يحارب اللهُ عنّا. 

التواضع ثمار التوبة

وأكثر ما تمسك به الراهب موسى هو فضيلة التواضع، ومن طريف أساليبه في ممارستها أنه كان يمر ليلاً بقلالي الشيوخ في الدير ويحمل جرارهم إلى البئر التي كانت تبعد عن الدير مسافة طويلة، ويملأ الجرار ماء ويعيدها إلى مكانها دون أن يعلم الشيوخ من فعل ذلك. وبعد سنين كثيرة، حسده إبليس وأبغضه كثيراً والتقاه مرة على البئر وضربه ضرباً مبرحاً كاد يودي بحياته، وتركه بين حي وميت. فجاء بعض الأخوة وحملوه ومضوا به إلى الكنيسة حيث أقام ثلاثة أيام، تماثل بعدها للشفاء. فعاد يمارس فضيلة التواضع كما فعل سابقاً متحدياً ابليس وجنده. ومرة اخرى ضربه ابليس بقرحة في رجله أقعدته طريح الفراش مدة ليست بقصيرة. ولما اكتشف أنها نوع من أنواع محاربة الشيطان له ازداد نسكاً، وزهداً، وعبادة، حتى صار جسده كخشبة محروقة. ومنّ عليه الرب بالشفاء لتحمله التجربة بتواضع وذلة وصبر جميل دون تذمّر أو ضجر.

ولمس مرشده الأنبا ايسيذوروس قوة ايمانه بالرب وأتكاله عليه في محاربة ابليس فقال له مرة: «وأنا أؤمن أيضاً بسيدي يسوع المسيح وأقول لك: باسم يسوع المسيح من الآن فصاعداً سوف تبطل الشياطين محاربتك»، وقال له أيضاً: «امضِ إلى البيعة المقدسة وتناول من الأسرار الإلهية»، وكان يواظب على تناول القربان المقدس. ومن ذلك الوقت عاش الأنبا موسى في سلام نسبي، وازداد حكمة، ونما في الكمال المسيحي والنعمة.

لصوص يهاجمونه

أتاه ‏مرّة أربعة لصوص يرومون سرقته فربطهم وحملهم وأتى بهم إلى الكنيسة. فلمّا علم اللصوص بأنّه موسى الذي كان رئيساً لعصابة اللصوص، تابوا ‏وترهّبوا. فوعظهم بكلام كثير وحرّك قلوبهم. 

سيامته كاهنً وصوت من السماء يقول له “مستحق”

بعد سنين عديدة اجتمع لديه نحو خمسمائة أخ فصار مرشداً لهم في حياة الرهبنة والزهد، وانتخبوه ليرسم كاهناً. فأراد الأسقف أن يمتحنه، فقال للكهنة: «اذا جاء الراهب موسى إلى المذبح اطردوه لنسمع ما يقول»، فلما دخل انتهروه وطردوه قائلين له: «اخرج أيها الأسود إلى خارج الكنيسة» فأطاع موسى وخرج. وسمعه أحد الشمامسة وهو يناجي نفسه قائلاً: «لقد فعلوا بك ما تستحق فأنت لست بإنسان، وقد تجرأت على مخالطة الناس وأنت أسود اللون فلماذا تجلس معهم؟».

ويقال أن الأنبا ايسيذوروس أخذه بعد هذه التجربة إلى مدينة الاسكندرية وقدمه إلى البطريرك ثاوفيلوس فوضع عليه اليد ورسمه كاهناً. وقيل أيضاً أنهم لما دخلوا به أمام المذبح وهمَّ البطريرك بوضع اليد عليه سمعوا صوتاً أتى من أعلى قائلاً: مستحق مستحق مستحق.

وقيل له بعد أن لبس ثوب الخدمة الكهنوتية الأبيض: «ها إنك قد صرت كلك أبيض يا أنبا موسى!»، أما هو فأجاب في اتضاع وقال: «ليت هذا يكون من الداخل كما من الخارج».

St Moses the black

‏هذا وقد مَنّ الرّبّ الإله على عبده بموهبة صنع المعجزات لحبّه وتواضعه وجهاده ونُسكه الشّديد.

القدّيس والحاكم

عاش كلّ أيّامه مُنكِراً لنفسه. سمع حاكمٌ بفضائله فرغب في أن يراه. فلمّا علم موسى بزيارته هرب. ولكنْ التقاه الحاكم بعيداً عن قلاّيته فسأله عن قلاّية الأب موسى فقال له: وماذا تريد أن تسأله؟ إنّه عجوز وغير مستقيم. فاضطرب الحاكم وقصد الدّير وأطلع أهله على ما سمعه من الرّاهب الغريب. فسألوه عن أوصاف الرّجل. فلمّا شخّصه لهم عرفوا أنّه الأب موسى نفسه.

القدّيس والراهب الذي زنى

اشتهر الأنبا موسى بهروبه من المجد الباطل، فكان يحب الجلوس في القلاية مدداً طويلة دون أن يخرج منها، وهو منهمك بالصلاة ونسج الخوص. وقد قال مرة لأحد الأخوة: «امضِ واجلس في قلايتك، والقلاية سوف تعلمك كل شيء صالح».

وكانت محبته للقريب فائقة جداً «والمحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبِّح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وتصبر على كل شيء» (1كو 13: 4 ـ 7 ) لذلك لم يدن موسى أحداً أبداً.

ويحكى أن أحد الأخوة في الإسقيط اخطأ مرة، فانعقد مجلس الآباء لمحاكمته، واستدعي الأنبا موسى ايضاً، فامتنع عن الحضور فجاءه أحد الآباء يكرر عليه الدعوة قائلاً: «إن الآباء كلهم ينتظرونك» فقام وحمل وراء ظهره كيساً مثقوباً ملأه رملاً وجاء ووقف في وسط المجلس. فلما رآه الآباء هكذا سألوه قائلين: ما هذا أيها الأب الموقر؟ فأجابهم قائلاً: إنها خطاياي الثقيلة وراء ظهري تجري دون أن أبصرها، وقد جئت اليوم لإدانة غيري. فلما سمعوا ذلك غفروا للأخ المذنب. ومن أقواله: «إياك أن تسمع سقطة أحد أخوتك لئلا تدينه خفية»، وقال أيضاً: «إنه الأفضل للإنسان أن يقدم ذاته للموت من أن يدين قريبه ويعيب عليه في أي شيء».

كرمه وحسن ضيافته

وطارت له شهرة في الأسقيط وفي نترا، وقصده زوار كثيرون، واتصف خاصة بمحبة الغرباء والإهتمام بهم وضيافتهم والأعتناء بخدمتهم بتواضع واستقبالهم ببشاشة، وفي هذا الميدان قيل ان رهبان الاسقيط فرضوا مرة أسبوعاً يصومونه جميعهم فاتفق في أثناء ذلك أن ضيوفاً نزلوا على الراهب موسى فجعل يطبخ لهم، فلما رأى الرهبان الدخان المتصاعد من قلايته شكوه لكبارهم وحاولوا تأنيبه أمامهم، ولكن هؤلاء أجابوهم أن محبة القريب أفضل من الصوم وقالوا لموسى: لقد عصيت أوامر الناس لكنك حفظت وصية اللّـه التي هي المحبة ( يوحنا 13: 34) بما يدعو للعجب.

هجوم البربر على الدير

وهبه اللـه مواهب عديدة منها طرد الشياطين باسم المسيح ربنا يسوع. ويقال أن الشياطين كانت كالذباب تهرب من أمام وجهه. وكان يصلي على المرضى فينالون الشفاء.

وكان مرة مع الشيوخ في زيارة الأنبا مكاريوس الكبير، فقال القديس مكاريوس: إني أرى واحداً له إكليل الشهادة. فأجابه الأنبا موسى متنبئاً عن نفسه قائلاً : لعلي أنا هو لأنه مكتوب: «الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون» (مت 26: 52) ولم يمض على هذه النبؤة مدة طويلة، حتى كررها الأنبا موسى بوضوح قائلاً للأخوة: «سوف يقبل البربر اليوم إلى البرية فأهربوا أنتم»،  قالوا له: «ألا تريد أنت الهرب يا أبانا؟» أجابهم قائلاً: «طوال هذه السنين وأنا أنتظر هذا اليوم»، قالوا: «نحن أيضاً لا نهرب ولكن نموت معك» فأجابهم قائلاً: «هذا ليس شأني إنما هي رغبتكم، ليهتك كل شخص بنفسه»، وكانوا سبعة أخوة.

وبعد برهة من الزمن قال لهم: «هوذا البربر يقتربون إلى الباب، فدخل البربر وقتلوهم ولكن واحداً منهم كان خائفاً فهرب واختبأ بين الحصر ورأى سبعة أكاليل نازلة من السماء توجت الستة وبقي السابع، فتقدم السابع أيضاً ونال معهم إكليل الشهادة، وكان ذلك حوالي سنة 408م وكان عمر القديس موسى نحو 75 سنة وهو أول شهيد في آباء برية السقيط.

خلاصة
‏هكذا أكمل الأنبا موسى سعيه. كان في الخامسة والسّبعين أو الخامسة والثّمانين. قيل نال ثلاثة أكاليل: إكليل الحبّ والنّسك الشّديد وإكليل الرّهبنة والكهنوت إكليل الشّهادة. ‏هذا ويُعتبر موسى أوّل شهيد في الإسقيط وجسده محفوظ مع الأنبا إيسيدوروس بدير البراموس.

أقواله

– خوف اللّـه يطرد جميع الرذائل، والضجر يطرد خوف اللّـه.

– ‏جواباً لأحد الإخوة سأل كلمة منفعة قال: اذهب واجلس في قلاّيتك وهي تعلّمك كلّ شيء.

– مَن يهرب من الملذّات الدنيوية يشبه كرمة حان قطافها، أمّا مَن يسعى إليها فيشبه الحصرم.

– إذا لم يشعر الإنسان في أعماقه بأنّه خاطئ لا يصغي إليه الله.

– إذا لم تتّفق الصّلاة مع السّيرة عبثاً يكون التّعب.

– سأله أخ: في كلّ مسعى للإنسان، ما الذي يساعده فيه؟ قال: الله! قال: وما نفع الأصوام والأسهار إذاً؟ فأجاب: هذه من شأنها أن تجعل النّفس وديعة متواضعة. إذ ذاك كيف يصلّي المجاهد: انظر إلى تعبي وتواضعي واغفر جميع خطاياي (مزمور ١٨:٢٤‏) فإنّ الله يتحنّن عليه. ‏

– سألوه: ماذا يعمل الإنسان بكلّ تجربة تأتيه أو بكلّ فكر من الشّرّير؟ فقال: يبكي أمام صلاح الله كي يعينه، فيرتاح للحال.

– لا تكن قاسي القلب على أخيك، فإنّنا جميعًا قد تغلبنا الأفكار الشرّيرة. 

كما يفعل السوس في الخشب كذلك الرذيلة في النفس.

أربعة هي عون الراهب الشاب : الهذيذ في ناموس اللّـه كل ساعة، ومداومة السهر، والنشاط  في الصلاة، وألا يعتبر نفسه شيئاً.

–  أربعة مصدر ظلمة العقل: مقت الرفيق، الإزدراء به، وحسده، وسوء الظن به.

–  الحفظ من الفكر الرديء يأتي من: القراءة في كتب الوصايا، طرح الكسل، القيام في الليل للصلاة والإبتهال، التواضع دائماً.

الكحول الهدامة

– لا تحب الخمرة لئلا تحرمك من رضى الرب.

العفة

– الذي يتهاون بعفة جسده يخجل في صلاته.

– قهر الشهوة يدل على تمام الفضيلة، والإنهزام لها يدل على نقص المعرفة.

النوم

– الشبع من النوم يثير الأفكار، وخلاص القلب هو السهر الدائم. النوم الكثير يولد الخيالات الكثيرة، والسهر بمعرفة يزهر العقل ويثمره. من ينام بمعرفة هو أفضل ممن يسهر في الكلام الباطل.

ضبط اللسان

– كمثل بيت لا باب له ولا أقفال، يدخل اليه كل من يقصده، كذلك الإنسان الذي لا يضبط لسانه.

– من يهتم بضبط لسانه فهو محب الفضيلة، وعدم ضبط الانسان لسانه يدل على أن داخله خال من أي عمل صالح.

– احفظ لسانك ليسكن في قلبك خوف اللّـه.

تعب الجسد

– اتعب جسدك لئلا تخزى في قيامة الصدّيقين.

– اذا سكنت مع أخوة فلا تأمرهم بعمل ما. بل اتعب معهم لئلا يضيع أجرك.

– لا تحب الراحة ما دمت في هذه الدنيا.

– أعمل لأن البطالة مفسدة النفس: إياك والبطالة لئلا تحزن، أحرى بك ان تعمل بيديك ليصادف المسكين منك خبزة، لأن البطالة موت وسقطة للنفس.

الوحدة

– لا يكن لك رجاء في هذا العالم لئلا يضعف رداؤك في الرب.

– أبغض كلام العالم كي تبصر اللّـه بقلبك لأن الذي يخلط حديثه بحديث أهل العالم يزعج قلبه.

الجهاد

من يتحمل ظلماً من أجل الرب يعتبر شهيداً. ومن يتمسكن من أجل الرب يعوله الرب. ومن يصر جاهلاً من أجل الرب يحكمه الرب. وقد شرح الأنبا موسى أقواله هذه بالتفصيل في خطاب أرسله إلى الأنبا نومين.

اليقظة في الصلاة

– كن متيقظاً في صلاتك (أي اجمع عقلك وفكرك) لئلا تأكلك السباع الخفية.

– لنقتن لأنفسنا الشوق إلى اللّـه. فإن الاشتياق اليه يحفظنا من الخطية.

– ينبغي لنا أيها الحبيب أن نجتهد بقدر استطاعتنا بالدموع أمام ربنا ليرحمنا بتحننه. لأن الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالفرح.