يُجمع الخبراء اليوم على أنّ النموذج الاقتصادي السابق القائم على الريع والاستدانة والاقتصاد الوهمي المتمثّل بالفوائد المرتفعة والإتكال حصراً على تحويلات وودائع المنتشرين اللبنانيين لسد العجز في الميزان التجاري، قد سقط. وبالتالي، بات من الضروري الانتقال الى الاقتصاد الحقيقي المنتج الذي يخلق القيمة المضافة.
ولعل ابرز ما يمكن الاعتماد عليه على المدى المتوسط والبعيد، الى جانب الصناعة والزراعة والسياحة واقتصاد المعرفة، هو موضوع النفط والغاز. فهذا القطاع، إن اُحسن التعامل معه، سيشكّل تغييراً استراتيجيّاً على مستوى وجه لبنان الاقتصادي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إنّ معظم الدول الخليجية المصدّرة للنفط، نجحت في عملية تثبيت سعر الصرف (pegging) والحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين بشكل فعّال وبأقل كلفة ممكنة على الاقتصاد. على عكس لبنان، الذي بلغت فيه الكلفة المباشرة للمحافظة على سعر الصرف -في ظلّ نزف الدولار للخارج- حوالي ٤٠ مليار دولار، مما أدّى الى تبخّر جزء كبير من الودائع من العملات الصعبة.
تعتبر منطقة شرقي المتوسط منطقة غنيّة بالمواد الهيدروكاربونية. فتؤكّد الدراسات وجود حوالي ٣٠٠ تريليون قدم مكعّب من الغاز الطبيعي موزّعة على البلدان المجاورة. وتظهر الدراسات والمسوحات الزلزالية أنّ المياه اللبنانية تحتوي على أكثر من ٦٠ شكل جيولوجي، يُرجّح ان تكون مكامن للغاز الطبيعي (gas reservoirs). لذلك، يقوم الـconsortium المؤلف من Total, ENI و Novatek، بأعمال الحفر الاستكشافية في البلوكين ٤ و٩. عالمياً، تبلغ نسبة احتمال نجاح اعمال الحفر حوالي ٢٠٪. اي انّه عمليّاً، تحتاج الدول لحفر حوالي ٥ آبار، لتحصل على بئر واحد قابل للتطوير.
على عكس ما حاول ان يسوّق البعض، فقد اظهرت النتائج الاولية لحفر البئر Byblos 1، وجود الغاز، وبكمّيات مشجعة، ولكن غير تجارية (داخل هذا البئر بالتحديد). فتطوير اي بئر يحتاج الى دراسة جدوى اقتصادية ترتكز على كلفة الاستخراج، كلفة النقل، الكمّيّات المكتشفة، السعر المتوقّع، بالاضافة الى العديد من العوامل الاخرى والمتشعّبة. وتقوم حالّيا الشركات بتحليل نتائج الCores، اي العيّنات التي تم الحصول عليها من خلال اعمال الحفر في البلوك ٤، والتي تُعتبر في غاية الاهميّة لناحية المساهمة في فهم الواقع الجيولوجي والبتروفيزيائي للمياه اللبنانية. فنتائج التحاليل ستساهم في تحديد اهداف جديدة للحفر، وستساهم في استقطاب شركات عالمية جديدة في دورة التراخيص الثانية.
وفي سياقٍ متصل، تسعى الدول المنتجة للغاز الى ايجاد اسواق لتصريف انتاجها، وبالتالي تبحث دائماً عن عقد اتفاقيّات من اجل تعزيز قدراتها التنافسيّة. وهذا ما يؤدي الى نشوء ازمات ذات خلفيّة جيوسياسية بين الاقطاب المتصارعة، خاصّةً في منطقتنا. فنرى مثلاً، تحالفاً تركيا-روسيا من خلال Turkstream، وبيع الغاز الى اوروبا الغربية. ونشهد ايضاً صراعاً اقليميّاً ناجم عن توقيع تركيا مع ليبيا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وذلك لقطع الطريق امام مشروع خط انابيب الغاز التي ينوي الاسرائيليون، بالتحالف مع قبرص واليونان، القيام به. بالاضافة الى ذلك، نشأ مؤخّراً ما يُعرف بمنتدى غاز شرقي المتوسط، الذي يضم ٧ دولٍ تسعى لعقد إتفاقيات تجارية في ما بينها.
من هنا، ونتيجة موقع لبنان الحيوي، نجد بأنّ جميع الاحتمالات ما زالت مفتوحة على مصراعيها. ولذلك، يجب على اللبنانيين، وبخاصّةً الشباب، مواكبة المواضيع التقنيّة والسياسية المطروحة، لكي يتمكّنوا من تبنّي الأفضل بين الخيارات المتاحة، تحقيقاً لمصالح لبنان الاقتصادية، وحفاظاً على مستقبل واستمرارية الأجيال الحالية والقادمة.