🌷♰🌷
كلمة للقديس بورفيريوس الرائي حول المسيح الدجال وختم الوحش و 666
عندما نملك المسيح في داخلنا، هل يستطيع المسيح الدجال أن يأتي؟
ارسل لي أحد الأصدقاء هذا النص بالإنكليزية فوجدت أن نقله إلى العربية مفيد جدا في هذه الأيام الرديئة التي نجوزها. عله يطمئن النفوس ويصوب البوصلة إلى الاتجاه الصحيح (المطران سابا اسبر)
أمسكني باليد بإحكام وقال: أيها الأب أثناسيوس، أنا أعمى الآن، عيناي لا تعملان جسدياً، لأنّني مصاب بالسرطان في الغدة النخامية، لكنني أملك عينين روحيتين وأرى بهما. أريدك أن تخبرني، قبل أن ترحل، ماذا قال الشيخ إميليانوس بخصوص 666 والمسيح الدجال؟”.
كان هذا في أيام كارثة تشيرنوبيل. كان الناس قلقون جداً بسبب انفجار المفاعل النووي، ويأتون بالعشرات يومياً إلى الشيخ بورفيريوس (قرب أثينا) يسألونه: “ماذا سيحدث؟ هل سيأتي المسيح الدجال ويختمنا بالرقم 666؟”
*
سألني الشيخ: “قل لي، يا ولدي، ماذا قال الشيخ إميليانوس عن ال 666 والمسيح الدجال؟”.
فقلت له: “قال لنا في اجتماع جرى قبل عدة أيام، ألّا نقلق. ويجب أن نهتم بأن ننمّي علاقة تنبض بالحيوية مع المسيح، ولا نُعِرْ المسيح الدجال اهتماماً كثيراً، لئلا يصير هو، لا المسيح، مركز حياتنا“.
للحال، ضرب الشيخ بيديه على سريره، وقال: “ماذا قلت، يا ولدي، ماذا قلت؟!. المجد لك يا الله، لأنني وجدت أباً روحياً يوافقني. ماذا فعل هؤلاء الآباء الروحيون هنا في العالم، يا ولدي؟ لقد شوّشوا النفوس وأربكوها وخلقوا مشاكل كثيرة، على الصعيد النفسي ومع عائلات بخصوص ال 666. فالناس في العالم لا يستطيعون أن يناموا. ما هذا الأمر؟ المسيح لا يريد هذه الأشياء، يا ولدي. هل أستطيع أن أقول لك شيئاً؟
فقلت: “ما هو أيها الشيخ؟”.
فقال لي: “بخصوصنا نحن المسيحيين، عندما نختبر المسيح، فلا وجود للمسيح الدجال. قل لي شيئاً، أنا مضطجع هنا على هذا السرير، فهل بإمكانك أن تضطجع فوقه أيضاً؟”
فقلت: “لا، أيها الشيخ”.
فسألني: “لماذا؟”.
فأجبته: “لأنني سأسحقك إذا جلست عليه”.
فسألني ثانية: “ألن تقدر البتة أن تجلس هنا؟”.
فقلت له: “فقط عندما تغادر أنت السرير”.
فقال لي: “بالضبط، يا ولدي، هذا الأمر ذاته يحدث مع نفوسنا. عندما نملك المسيح في داخلنا، فهل يستطيع المسيح الدجال أن يأتي؟ هل يمكن لأي شيء مضاد للمسيح أن يدخل نفوسنا؟ سبب قلقنا، يا ولدي، هو عدم امتلاكنا المسيح في داخلنا، لهذا نقلق بخصوص المسيح الدجال.
عندما يكون المسيح فينا، فكل شيء يصير فردوساً. المسيح كل شيء، يا ولدي، ولا يجب أن نخاف المقاوِم، هذا ما يجب أن تخبر به الناس دائما. فإن أتى المسيح الدجال الآن ومعه ذلك الجهاز الذي يطلق الأشعة الليزرية، وختمني بالقوة بالرقم 666، فلن أهتاج وأقلق. ستقول لي: “ولكن أليست هذه علامة المسيح الدجال، أيها الشيخ؟”. نعم، ولكن حتى لو كتب عليّ الرقم 666 ألف مرة بأشعة الليزر فكن واثقاً، من أني لن أقلق”.
لماذا؟
لأنّ الشهداء الأولون، يا ولدي، قد رُموا للوحوش البريّة، وعندما رسموا إشارة الصليب صارت الوحوش كالحملان. رُموا في البحر، وعندما رسموا إشارة الصليب، صار البحر كالأرض الجافة وساروا عليه. رُموا في النار، وعندما رسموا إشارة الصليب، بردت النار. يا ولدي المغبوط، كيف صرنا اليوم، هل نؤمن بالمسيح؟ هل نؤمن بصليبنا؟ لماذا أتى المسيح؟ أليس لكي يقوينا في ضعفنا؟
هذا ما يجب أن تقوله للشيخ، يا ولدي. ويجب أن تقول للناس ألّا يخافوا المسيح الدجال. فنحن أبناء المسيح، نحن أبناء الكنيسة”.
لقد أثرت بي هذه الأقوال بشكل عميق.
المصدر اليوناني: “أنثولوييو سيمفوولُن يروندا بورفيريوس، سيل. 71، 72-75، 2003. ترجمه إلى الإنكليزية جون سانيدوبوولُس.
للوصول إليه راجع:
القدّيس بورفيريوس الرَّائِي (1906-1991):
أعلنت قداسته من قبل البطريركيّة القسطنطينية عام 2013
ولد القدّيس بورفيريوس في اليوم السّابع من شباط 1906، في قرية القدّيس يوحنّا كاريستيا، قرب أليفيري، في مقاطعة إيفيا. كان والداه من المزارعين الفقراء الأتقياء، وكان اسم والده ليونيداس بيراكتاريس ووالدته هيليني. أُعطي القدّيس بورفيريوس في المعمودية اسم إيفانجيلوس، وهو الولد الرّابع من عائلة مؤلفة من خمسة أولاد، لكن أخته الكبرى رقدت في سن مبكرة. رغب والده بالحياة الرّهبانية، لكنّه لم يصر راهبًا بل تزوّج وكان يرتل في الكنيسة. لكنّ الفقر أجبر ليونيداس على الهجرة إلى الولايات المتحدة حيث عمل في بناء مضيق باناما.
طفولته:
حاول إيفانجيلوس أن يُحصِّل بعض العلم في مدرسة الضيعة ولكنّه تركها بعد سنة إذ كان الأُستاذ غائبًا معظم الأحيان بسبب المرض ولم يكن الأولاد يستفيدون الكثير. أخذ إيفانجيلوس يعمل في مزرعة العائلة وهو في الثامنة من العمر، مما سمح له بقراءة كتاب ”القدّيس يوحنّا الكوخي“ متهجِّئًا الكلمات أثناء حراسته الخراف في الجبال. ومنذ ذلك الحين، اضطرمت نفسه غيرة للرحيل كي يصبح راهبًا دون أن يعرف أي شيء عن الرّهبنة. كان والده قد لقّنه البراكليسي لوالدة الإله وكلّ ما يتعلق بالإيمان على قدر استطاعته. نما الطفل بسرعة وكان يبدو أكبر من عمره. منذ صغره كان جدّيًا، نشيطًا ومثابرًا. رغم صغر سنّ إيفانجيلوس، أخذ يعمل في منجم للفحم ومن هناك انتقل للعمل في محل للبقالة في خلكيذا في باروس حيث كان يوجد ولدان آخران وكانا متّفقين على تقاسم العمل بينهما. إلا أنّه عندما جاء إيفانجيلوس، أخذوا يوكلون إليه كلّ الأعمال وهو كان يقبل ويتمّمها بفرح ولم يكن يعاملهم بخبث.
ذات يوم عندما كان يكنّس المخزن وجد حبّات من القهوة الخضراء المرميّة. فانحنى وجمعها في كفّه وذهب ووضعها في كيس القهوة. وكان صاحب المحل جالسًا في مكتبه المحاط بالزجاج من كافة الجهات فرآه وناداه ودعى الولدين الآخرَين وهنّأه أمامهما. ومنذ ذلك الحين طلب منهم توزيع الأعمال بينهم. وكان سيّدُ إيفانجيلوس يحبّه كثيرًا ويدعوه إلى بيته.
بعد عامين انتقل إلى محل بقالة آخر لأحد أقاربه في ”بيرية“ فيه زاوية لمطعم. هناك أتى شيخان ليأكلا في المحل وتحدّثا عن الجبل المقدس. كان أحدهما قد ذهب إلى الجبل ليتنسّك لكنه رجع وندم كثيرًا. بعد مغادرتهما، تحمّس إيفانجيلوس لفكرة الذهاب إلى الجبل المقدس والتشبّه بالقدّيس يوحنّا الكوخي. بعد يومين عاد الشيخ الّذي ذهب إلى الجبل المقدّس فسأله إيفانجيلوس عن المكان ولكنّ الشيخ لم يجبه بشيء ورحل. عاد الشيخ في وقت لاحق، وبالخفية أخبره عن الجبل وشرح له كلّ شيء.
الرّحلة إلى الجبل المقدس:
أُضرم قلب الفتى إيفانجيلوس محبّةً بإلهه وأراد من كلّ قلبه أن يصير ناسكًا في الجبل، لكن كيف؟! وماذا سيقول؟! هذا سبّب له حُزْنًا بان على هيئته. لاحظ صاحب البقالة ٱضطرابه وسأله عن السّبب، فقال له إيفانجيلوس إنّه علم أنّ أمّه مريضة ويريد الذهاب لرؤيتها، فأعطاه سيّده مالاً لشراء بطاقة السّفر وطعامًا لأمّه وودّعه. أسرع الشاب إلى الجبل لكنّه لم يجرؤ على المضي إذ أخذت الأفكار تتقاذفه: خاف وأشفق على أهله، ولم يحتمل… وعندما وصل المركب إلى بحيرة إيفيا، نزل وعاد أدراجه إلى بيرية. ذهب إلى مكان عمله السّابق وكذّب مجددًا على أسياده، أنّ أمّه أصبحت على ما يرام. وهكذا تابع عمله. أخذ إيفانجيلوس يصلّي بحرارة ويصوم ويقوم بالسّجدات حتّى تغيّرت هيأته. مجددًا سأله أسياده عن السّبب وأعطوه مالاً وطعامًا ليذهب ويزور أهله.
ذهب وفي نيّته الاتجاه إلى الجبل المقدّس. في الطريق اعترته كآبة شديدة: كيف سيغادر العالم من دون عودة، وسيفتقده أهله ويحزنون. لذا لم يكمل طريقه بل عاد إلى بيرية. بعد هذه المحاولات، ٱتّخذ قرارًا حاسمًا بأن يذهب دون عودة وصمّم على عدم الخروج من المركب المتّجه إلى تسالونيك. كانت هذه المرة الثالثة والأخيرة. عندما وصل المركب إلى تسالونيك، بقي إيفانجيلوس النّهار بكامله على ظهر السّفينة طالبًا من أحدهم إحضار الطعام له. وبعد الظهر بدأ الرّهبان بدخول المركب… كانت هذه أوّل مرّة يرى فيها رهبانًا يرتدون جببًا. دخل السّفينة مع الجمع شيخٌ وقور ذو لحية طويلة يحمل أكياسًا. اقترب من إيفانجيلوس وجلس على مقعد وطلب منه أن يجلس بقربه، ثم سأله عن وجهة سيره. فقال له إيفانجيلوس إنّه ذاهب إلى الجبل المقدّس للعمل. فعرض عليه الشيخ أن يذهب معه إلى كافسوكاليفيا، إلى منسكه، حيث يعيش مع أخيه. وافق الصّبي، إلا أنّ الجبل المقدّس يمنع دخول الأولاد الصّغار، لذلك ٱدّعى الشيخ أنّ إيفانجيلوس هو ٱبن أخته وقد تيتّم وعليه الاعتناء به.
منسك القدّيس جاورجيوس:
وصل الشاب إلى المنسك وبدأت حياة جديدة له: خِدَم، صلوات، صوم، سهرانات… كان ٱسم أبيه الرّوحي، أي الشيخ الّذي التقاه في المركب، ”بندلايمون“، وكان يعيش مع أخٍ له بالجسد ٱسمه الشيخ إيوانيكيوس. بهذه الطريقة اقتنى الشاب إيفانجيلوس أبوَين روحيَّين. وبفرح سلّم نفسه لهما. يقول القدّيس بورفيريوس أنّه أثناء حياته هناك كان يحيا في الغبطة. لكنّه مرّ بتجربة في البداية وهي التفكير بأهله وبحزنهم عليه فأحسّ برَغبة العودة إلى قريته. زاد على ذلك أنّه لم يُفْصِحْ بأفكاره أمام شيخه، فأخذ يفقد الشّهية على الطعام ويكتئب. فسأله شيخه عن السّبب وعندما أفصح عن فكره، تحرّر كليًّا من التجربة وعاد الفرح يملأ قلبه. مأخذه الوحيد كان أنّ الشّيخين لم يكونا يطلبان منه الكثير. كان يحبّهما كثيرًا رغم أنّهما كانا شديدي الحزم. لم يدرك ذلك وقتئذ. فكما كان ينظر إلى أيقونة المسيح بمهابة كان يوقرّهما بالمهابة عينها. لم يُسندا إليه أعمالاً صعبة، فقط كان يسقي الحديقة ويعمل بالحفر على الخشب. بعد فترة أعطاه الشيخ مسبحة وقال له أن يردِّد صلاة يسوع كلّ مساء. في المنسك تعلّم القراءة بشكل لائق، إذ أخذ يردّد المزامير والعهد الجديد والقوانين… في البدء لم يسمحا له بمغادرة المنسك، ولكنّه عندما تقوّى قليلاً، أخذ يخرج؛ وفي خروجه كان يردّد المزامير والعهد الجديد حتّى لا يدع ذهنه يتشتّت. وأحيانًا كان يذهب إلى كنيسة القدّيس جاورجيوس وينصرف إلى صّلاة يسوع والترتيل لأنّ صوته كان جميلاً. لم يكن يسمح لنفسه باللجوء إلى الاستراحة أثناء حمله الأغراض إلى المنسك قائلاً لنفسه: ”سوف أريك، يا أيّها الحمار السّافل الصّغير!“
لم يعرف الكسل ولم يشفق على جسده. حتّى إنّه كان أحيانًا يمشي حافي القدمين على الطرق المُحْجرة والمغطّاة بالثلوج. وكان ينام قليلاً مُتغطّيًا بغطاء واحد على أرض القلاية فاتحًا النّافذة. وكان يضرب عددًا كبيرًا من المطّانيات ولا يسمح لنفسه بالاستسلام للنّوم. أراد أن يعيش طيلة حياته في الجبل ناسكًا مجهولاً من العالم. كانت العلامة المميزة لجهاده النّسكي، طاعته الكاملة لشيخَيْه، رغم أنّهما، لمنفعته، كانا يؤنبانه بطرق مختلفة وقاسية ولم يقولا له ولا مرة ”أَحسنت“!. لم تكن طاعته لهما كَرهية، بل ناجمة عن المحبّة. نفعته الطاعة كثيرًا إذ جعلته ذكيًا، يقظًا، وقويًا، نفسًا وجسدًا، وهي الّتي أهلّته لموهبة الرّؤية. فالطاعة تدل على محبتنا للمسيح، والمسيح يحبّ المطيعين إذ هو نفسه أطاع حتّى الموت موت الصّليب.
ذات يوم استدعاه الشيخ بندلايمون وسأله عن برنامجه وهل يريد أن يبقى معهما. فأجاب إنّه سيبقى.، عندها طلب منه الشيخ أن يضرب مطانية ثم ألبسه الجبّة وكانت قديمة مرقّعة لدرجة أنّه لم يعد يظهر القماش الأصلي فيها. هذا الأمر أزعجه قليلاً إذ كان يتوقّع أن يحصل على جبّة جديدة كباقي المبتدئين الّذين كان يراهم أثناء الأعياد في كنائس الأديار الكبرى. مرّت خمس دقائق وانتهى كلّ شيء، شعر بالفرح إذ تذكر النّساك ومسوحهم الخشنة… وكان حينئذٍ قد بلغ الرّابعة عشرة من عمره. بعد عامين أو ثلاثة، حسب قول القدّيس بورفيريوس، أخذ الإسكيم الكبير بٱسم ”نيكيتا“ في ”دير اللافرا الكبير“. وقد زارته النّعمة بطيب سماوي اشتمّه في طريقه إلى اللافرا ومن ثم انبعثت رائحة طيب من رفات القدّيس ”خرالمبوس“ أثناء تقبيله لها. فرح فرحًا شديدًا ومن شدة التأثر اختلى بنفسه بعد السّهرانة دون أن يتكلّم مع أي راهب. لم يرغب في الترتيل كعادته ولا بأي شيء آخر. فقط كان يريد سماع صوت إلهه.
زيارة النّعمة الإلهية له:
ذات يوم، حوالي السّاعة الثالثة والنّصف فجرًا، ذهب نيكيتا إلى الكنيسة الكبرى، كنيسة الثالوث القدّوس، لحضور الخدمة. وصل باكرًا قبل قرع الأجراس. لم يكن هناك أحد داخل الكنيسة. جلس في المدخل تحت الدرج وأخذ يصلّي. بعد قليل فُتح باب الكنيسة ودخل راهب طويل مسنّ، هو الشيخ ديماس*. عندما دخل، تفقّد المكان بنظره فلم يرَ أحدًا، فأمسك بمسبحته وأخذ يصنع السّجدات الكبيرة بسرعة مردِّدًا: ”يا ربي يسوع المسيح ارحمني… أيتها الفائق قدسها والدة الإله خلّصينا“. بعد قليل دخل في ذهول دون إرادته، فوقف فاتحًا يديه بشكل صليب محاطًا بالنّور الإلهي. فإذا بالنّعمة تنتقل إلى نيكيتا فورًا فدخل في حالة الشيخ للحال. تأثر كثيرًا وأخذ يبكي. يقول القدّيس بورفيريوس:” لا يوجد كلام يستطيع التعبير به عمّا جرى له. إنّه سبي من الله. لا يمكن شرح هذه الأمور على الإطلاق. إذا حاولتُ شرحها أُخطئ. كلا، كلا لا يمكن شرحها ولا في الكتب، لا يمكن إدراكها… يجب أن تكون مستأهلاً لكي تفهمها“.
من تلك اللحظة أخذت المواهب تتضاعف عند الراهب نيكيتا. وأوّل إعلان لها كان عندما رأى الشّيخَين قادمين من طريق بعيد خلف الجبل. رآهما كأنّهما بقربه. وقد أعلم شيخه بالحادث فأوصاه ألا يعطي أهميّة للموضوع. لكنّه أصبح أكثر فطنةً وحفظ معظم القوانين وكلّ كتاب المزامير. أصبح يرى أمورًا كثيرة وينتبه لكلّ شيء. انفتحت عيناه وأذناه، فصار يميّز الحيوانات والعصافير على أنواعها. ٱنفتح أنفه وكان يشمّ كلّ شيء ويتبيّن الرّوائح بدقة متناهية. أصبح إنسانًا جديدًا: يجعل كلّ ما يراه صلاة، يرى، يسمع، يشُم كل شيء بنعمة الله… يتأثر، يتخشّع ويصلّي. يصف القديس هذه المرحلة قائلاً: ”كنت أعيش ضمن النّجوم، داخل الأبدية، في السّماء…“.
العودة إلى العالم:
ومع زيارة النّعمة استمرّ الرّاهب نيكيتا في جهاداته النّسكية كسابق عهده بتواضع، تحركه محبّته لإلهه. لكنّ الرّبّ الإله ارتضى له مسيرًا آخر بعيدًا عن الجبل. أراده أن يكون مرشدًا للنّفوس وراعيًا لأغنامه. لم يفكّر أبدًا لا بالحصول على موهبة خاصة من لدن ربّه ولا بمغادرة الجبل المقدّس. في أحد الأيام الماطرة ذهب ليجمع الحلزون الكبير طاعة للأب إيونيكيوس فتعرّض لحادثٍ. نجا ولكنّ الحادث أثّر على صحته إذ أُصيب بالتهاب الرئتين. استدعى رئيساه ناسكًا قدّيسًا عالمًا بأمور الطب ولكن لم ينتفع منه شيئًا. في نهاية المطاف ٱضطر أبواه لإرساله إلى العالم ليحظى بالعناية الواجبة لاستعادة صحته لأنّهم لم يكونوا يملكون لا الأدوية اللازمة ولا الأطعمة كالحليب والبيض… أخذ بركتهما، وببكاء ووجع كبير غادر عائدًا إلى إيفيا.
في إيفيا:
وصل الرّاهب نيكيتا إلى قريته، كان شكله قد تغيّر تمامًا. عمره آنذاك كان تسع عشرة سنة، شعره طويل ولحيته متدلّية. فرح به أبوه كثيرًا، لكن أمّه خجلت به ووبّخته ولم تسلّم عليه. حضرت كلّ الضيعة بفضول لملاقاة ”ناسك جبل آثوس“ ذي الشعر الطويل. لم يشأ نيكيتا أن يقصّ شعره فجعله في ماء مغليّ فتخرّب وسقط وأصبح أصلع.
أوّل الأمر سكن مع عمّته لأنّ أمّه رفضت أن تستقبله. هناك بدأ يأكل طعامًا جيدًا واستعاد صحته، لكنّه لم يبقَ، لأنّه شعر بالخجل إذ لم يقدِّم شيئًا لأهله وهم الآن يعتنون به.
ذهب إلى دير القدّيس خرالمبوس. فرح به رئيس الدّير هناك. وما لبث أن شعر بالتحسن فأسرع إلى الجبل المقدّس. فرح به أبواه كثيرًا، لكنّه مرض من جديد بعد بضعة أيام، ومن جديد عاد إلى دير القدّيس خرالمبوس. استعاد صحته وتقوّى ثم عاد إلى الجبل المقدّس.
ذهب ثلاث مرات وعاد، وفي المرة الثالثة، قال له أبواه إنّه رغم عدم رغبتهما في إرساله إلى العالم، إلا أنّ بقاءه في الجبل المقدّس يشكّل خطرًا على صحته قد يؤدّي إلى موته، معبّرَين عن محبتّهما الفائضة له.
هكذا رحل الرّاهب نيكيتا عن الجبل المقدّس نهائيًا. ذهب إلى دير القدّيس خرالمبوس، حيث رغب به الجميع وأحبّوه وفرحوا بعودته.
أما بالنسبة لأمّه المسكينة الّتي ساءها أن يكون ٱبنها راهبًا، فقد بعث لها راهب من منسك القدّيس نيلّس رسالة قرّعها فيها على قساوة قلبها وقال لها إنّ وحوش البرية تحب أولادها. كتب الكثير من الكلام الجميل ولكن القاسي. ٱنسحقت أمّه كثيرًا وتغيّرت وأصبحت شغوفة بالكنيسة.
وعندما صار ٱبنها كاهنًا، لم تعد تتركه. كانت تدعوه ”أبي“ بافتخار. ماتت بقربه وكانت تقول: ”يا ولدي، ليتني جعلتُ كلّ أولادي رهبانًا! في البداية لم أدرك الأمر، ليت كلّ أولادي كانوا رهبانًا“!كاهنًا: أُوليَ الرّاهب نيكيتّا ثقة كاملة في الدير. أثناء العمل لم يكن يترك عقله تائهًا بل كان يؤدّبه…كان كالفتاة الهائمة بمعشوقها. فبالرغم من إصابته بداء الرّئة ومرضه، إلا أنّ ذهنه كان دائمًا عند معشوقه المحبوب… عند المسيح. وقد أُعجب به كثيرًا ”المتربوليت فوستين“ الّذي كان يحب الرّهبان.
ذات مرة جاء المتروبوليت مع رئيس كهنة سيناء، بورفيريوس الثالث، وحاولا إقناع نيكيتا أن يصير كاهنًا لانّه لم يكن يشاء ذلك. وفي نهاية المطاف صُيِّر كاهنًا وأخذ اسم ”بورفير
يوس“. بعد سنتين جُعل أبًا روحيًا وأخذ يعرّف ليل نهار، أحيانًا ثمان وأربعين ساعة دون توقّف ودون طعام. في البدء كان صارمًا في أعطاء الحل واضعًا كتاب الإعتراف للقدّيس نيقوديموس ناموسًا له. لكنّه مع الوقت تعقّل، وتذكر قانونًا للقدّيس باسيليوس الّذي يقول فيه: ”من أخذ سلطان الرّبط والحلّ، إذا وجد أنّ الخاطئ قد اعترف بخطاياه وٱنسحق، عليه أن يخفّف مدة العقوبة، فالحكم ليس على المدة بل على أسلوب العقاب“.
بقي الرّاهب الكاهن بورفيريوس أبًا روحيًا في إيفيا إلى العام 1940. كان يستقبل أعدادًا كبيرة من المؤمنين كلّ يوم. انتشر صيته كأب معرّف وعارف بمكنونات القلوب في المناطق المجاورة وٱزداد عدد الوافدين إلى دير القدّيس خرالمبوس للإعتراف لديه. وبموهبة الرؤية المعطاة له ساعد النّفوس التائهة وقادها إلى معرفة الحق والحياة مع المسيح. بهذه الموهبة خلّص نفوسًا كثيرة من حبائل الشيطان وألاعيبه. عام 1938، صيرّه متروبوليت كاريستيا أرشمندريتًا ”لخدمته كأب روحي وللآمال الحسنة الّتي تراها الكنيسة المقدسة فيه“… آمال تحقّقت بنعمة الله.
كاهنًا لرعية تساكايي ودير القدّيس نيقولاوس: حوالي العام 1938 عَيِّن المتروبوليت كاريستيا الأب بورفيريوس كاهنًا لقرية تساكايي في إيفيا. ترك الأبُ ديرَ القدّيس خرالمبوس، لأنّه تحوّل إلى دير نسائي، وسكن في دير القدّيس نيقولاس المهدّم والمهجور في منطقة ”أنو فاسيا“ (Ano Vathias) تحت رعاية متروبوليت خالكيذا. بقي هناك حوالي ثلاثة سنوات ثم غادر المكان قبل ٱندلاع الحرب الإيطالية.
مستشفى أثينا:
عام ،1940 مع اندلاع الحرب العالمية الثّانية، عُيّن الأب بورفيريوس كاهنًا لكنيسة القدّيس جيراسيموس الصغيرة التابعة لمستشفى أثينا.
أحبّ الأب بورفيريوس كثيرًا أن يعمل في مؤسسة تعين المرضى والمحتاجين. ٱشتعلت فيه هذه الرّغبة عندما سمع، ذات مرة، قراءة في الجبل المقدس للقدّيس نيكيفوروس قال فيها: ”كم من الخير يستطيع أن يفعل المرء، عندما يُعزّي نفوسًا متألّمة أو أشخاصًا يعانون من أمراض…“
سمع الرّب الإله تضرّعاته وقاده إلى مستشفى أثينا. طلب موعدًا وذهب لمقابلة المدير. تأخّر هذا الأخير عن الموعد، فجلس الأب بورفيريوس في قاعة الانتظار وفتح الكتاب المقدّس وأخذ يقرأ فيه.
حضر المدير وما إن سلّم عليه حتّى سأله ماذا كان يقرأ، فأجابه: ”الكتاب المقدس“… ثم سأله عن دراسته، فأعلمه أنّه لم يكمل الصّف الأول الابتدائي، ولكن سيرة حياته أعجبت المدير. فسأله إلى أي متربوليت يتبع، ثم قام واتصل به قائلاً: ”لقد وجد المستشفى كاهِنَهُ“.
وأجبره على القيام بالذبيحة الإلهية، رغم عدم توفّر إذن من رئيس الأساقفة. عارض الأب بورفيريوس في البدء لكنّه بوداعته المعتادة رضخ. وبعد القدّاس قال له المدير: ”سنتّخذك أبًا وكاهنًا لنا“. عندها أثار أنتقاؤه حسد الكاهن ذي الكفاءة العالية، الّذي أراد هذا المنصب لنفسه، فأخذه المدير بنفسه إلى رئيس الأساقفة الّذي ٱستجوبه قليلاً ثم قال: ”في هذا المكان نريد شخصًا متعلّمًا وكاهنًا واعظًا، لأنّه مركز يعمّ فيه الفساد، وينبغي على الكاهن فيه أن يعظ ويعلّم النّاس، لكنّ السّيّد المدير يريدك أنتَ. يُمْكنني أن أقول بأنّك لست متعلّمًا. ولكن إذا استطعت، على الأقل، أن تحافظ على أسلوب جيِّد ولهجة حسنة، فيمكنني أن أعتبر أنّك، بأسلوبك، قد تكون أفضل من كاهن لاهوتي، يعظ النّاس بأقوال منمّقة خطابية.“
وهكذا كان. أخذ الأب بورفيريوس البركة وانطلق في هذه المرحلة الجديدة من حياته الّتي استمرّت ثلاثة وثلاثين عامًا. وصفها الأب بورفيريوس كالتالي: ”عشت هناك ثلاثة وثلاثين عامًا، وكأنّني قضيت يومًا واحدًا, عشتُ حياة جميلة. كنت مجهولاً جدًا، ومختفيًا، هناك، في المستشفى… كنت مهمَلاً جدًا، غير متعلّم، غير مهم، فقيرًا، آخرون يترأسون الكنيسة وأنا لا أعرف شيئًا“. أحبّ القدّيس جيراسيموس حبًّا كبيرًا وكذلك المرضى.
ذاع صيته كأب روحي جيِّد، فتقاطر عليه الناس من أجل الاعتراف. لم يكن يجيد القراءة ولا حتّى الترتيل بحسب الموسيقى، لذلك قام بجهود كبيرة خاصة وأنّ عددًا كبيرًا من المثقفّين كان يحضر إلى كنيسة القدّيس جيراسيموس. حتّى إنّه التحق بمعهد الموسيقى لكي يساعد المرتّلين. كانت أكبر تجربة مرّ بها في خدمته في أثينا صوت الموسيقى العالي الصّادر من أحد محلات الاسطونات مقابل الكنيسة أثناء القدّاس الإلهي. كلّم صاحب المحل ولكن من دون جدوى. فأخذ يصلّي… صلّى والرّب أعطاه جوابًا من خلال كتاب فيزياء لطفل صغير قرأ فيه: ”إذا ألقينا حجرًا صغيرًا في بحيرة ساكنة، نرى المياه تضطرب، وتصنع ”أمواجًا“ تمتد إلى مسافات قصيرة. وإذا ألقينا وراءه حجرًا أكبر منه، تتشكّل ”أمواج“ أكبر من السّابقة، وتمتد مسافات أبعد، بحيث أنّها تحيط بالأمواج الأولى وتطغي عليها“. ومن تلك اللحظة تحرّر من ضغطة التجربة عليه وأخذ يقوم بالذبيحة الإلهية مركِّزًا ذهنه بالكلية على الله… فشعر أنّه والجماعة المحيطة به ضمن النّعمة الإلهية بمنأى عن كلّ ما يحصل في الخارج ولم يعد يسمع صوتًا خارج الصّلوات المقامة في الكنيسة.
ولكون الأب بورفيريوس غير متعلّم كان يحصل على معاش زهيد لا يكفيه ولا يكفي عائلته وبعض الأقارب من الّذين كان يعولهم، ولا كان باستطاعته جمع المال لبناء الدّير الّذي كان يحلم به. لذلك اشترى آلة وأخذ يصنع مع أخته الفانيلاّت والجاكيتّات بالإضافة إلى البخور الممتاز الغالي الثمن. هذا كان يصنعه بنفسه، يمزج العطورات مميِّزًا روائحها وتفاعلها مع بعضها البعض، كانت له وصفته الخاصة في صنع البخور. في تلك المرحلة كان يقيم في ”توركوفونيا“، في كوخ من الخفّان مع والدته وأخته وٱبنة أخته.
عصا القدّيس جيراسيموس:
ذات مرة أثناء مغادرته لكوخه عَبَرَ الطريق الوعرة المنحدرة، فوقع وكسر ساقه. أسرعوا به إلى المستشفى حيث جبّروا السّاق. بعد خمسة عشر يومًا، بينما كان يصلّي مستلقيًا في السّرير ألقى نظرة عفوية على رجله، فرأى من خلال الجبصين بنعمة الله أنّ الرّجل كانت معوجة. طلب من الأطباء فتح الجبصين. لكنّ الطبيب الأستاذ ضحك منه ورفض عدة مرّات تصوير السّاق رغم إصرار الأب بورفيريوس. في نهاية المطاف أنزلوه إلى غرفة الأشعة واستبان أنّ الأب بورفيريوس على حق، فٱضطرّ الطبيب إلى إعادة كسر السّاق وجبرها بالشكل الصّحيح، مما سبب له آلامًا قاسية.
بعدها، بقي مستلقيًا شهرين أو ثلاثة ثم أعطوه عكّازين لكي يمشي، فخاف أن يعتاد عليهما، فنصحه الطبيب بشراء عصا، فأوصى أخته بشرائها رغم عدم توفّر المال لديها.
غادر الأب بورفيريوس المستشفى حوالي الساعة الحادية عشرة واتجه بواسطة العكّازين إلى كنيسة المستشفى. هناك دخلت سيّدة وسألت إذا ما كانت هذه كنيسة القدّيس جيراسيموس وعن أيقونته، فدلّتها المشرفة على المكان إليها. فذهبت السّيّدة وجثت أمام الأيقونة وقالت بدموع وصوت عال: ”يا قديس الله، أنا لا أعرفك، ولم أسمع عنك أبدًا، ولم أسمع حتّى بٱسمك. ولكنك أكرمتني وزرتني، وطلبت مني العصا الّتي ٱشتريتُها من أورشليم، لكي آتي بها إلى بيتك وقد حدّدت لي اليوم والسّاعة… وها قد أتيت“. ولما أنهت صلاتها ٱتجهت نحو الأب بورفيريوس وسألته عن سبب هذه الرؤيا؛ ففسّرت لها المشرفة أنّ الأب الجالس هنا هو كاهن هذه الرّعية وأنه أراد شراء عصا، رغم فقره، وشفيع هذه الكنيسة دبّر الأمر بطريقته !!!. أسمى الأب بورفيريوس هذه العصا عصا القدّيس جيراسيموس. وكان كلّ من ضربه بها يُشفَى من دائه.
في دير القدّيس نيقولاوس في بندلي:
عام 1955، ٱنتقل الأب بورفيريوس للعيش في دير للقدّيس نيقولاوس في ”كاليسيا“ التابع لدير بندلي. هناك زرع الأرض بكلّ أنواع الخضار والأشجار على أنواعها وركّب مضخّة لاحضار المياه من الوادي وربّى الدّجاج.
كلّ هذه الأعمال والاهتمامات قام بها الأب بورفيريوس مع خدمته في كنيسة القدّيس جيراسيموس والمستشفى التابع له، متذكّرًا دومًا مقولة القدّيس إسحق السّرياني: ”يجد الرّب الإله وملائكته الفرح في العمل، أما الشيطان وزبانيته فيفرحون بالبطالة“.
أراد الأب بورفيريوس أن يُنْشئ ديرًا في هذه الناحية لكنّ الله شاء غير ذلك. هناك في كاليسيا، ذهب ذات مرة مساء مع أخته إلى كنيسة القدّيس نيقولاوس لكي يصلّيا. ذهبا خفية عن والدتهما. وما إن شرعا بتلاوة صلاة يسوع: ”أيّها الرّب يسوع المسيح إرحمنا“ حتى غمر المكان نورٌ إلهي، فتابعا الصّلاة فرحَين فرحًا لا يوصف. بقيا ساعات ضمن النّور الإلهي، ثم أخذ النّور ينحسر… ولما عادا إلى القلاّية، كانت والدتهما في انتظراهما وقالت لهما: ”كيف تركتماني، أتعتقدان أنّي لم أراكما… لقد رأيت كلّ شيء… نورًا نزل من السّماء ودخل الكنيسة… نظرت وبكيت…“.
”قوّتي في الضعف تُكْمَل“:
عانى القدّيس بورفيريوس من أمراض كثيرة خلال حياته، إلى جانب المرض الّذي أجبره على مغادرة الجبل المقدّس والّذي أثّر في صحتّه كثيرًا.
ففي نهاية خدمته في مستشفى أثينا، أُصيب بمرض في كُليتيه. أُجريت له عملية جراحيّة عندما كان المرض قد تفاقم جدًا، وذلك لأنّه كان يعمل دون توقُّف واعتاد أن يطيع ”حتّى الموت“، وأطاع مدير المستشفى الّذي قال له أن يُرجئ العملية إلى ما بعد الفصح، فدخل في غيبوبة من جرّاء هذا التأخير. و
قد أعلم الأطباء أقاربه بتحضير مراسم الدفن. إلا أنّ المشيئة الإلهية شاءت غير ذلك واستعاد القديس صحته رغم كلّ التوقّعات الطبية. وقبل ذلك بقليل كان قد كسر رجله. عانى القدّيس من الفتاق طيلة حياته بسبب الأحمال الثقيلة الّتي كان ينقلها إلى بيته في توركوفونيا.
ثم إنّه عام 1978، أُصيب بذبحة قلبية. أُدخل على إثرها إلى مستشفى وطالت فترة نقاهته. في وقت لاحق، عندما استقرّ في البيت المتنقل في ”ميليسي“، أُجريت له عملية في عينه ولكن أخطأ الأطباء فانطفأت عينه وبعد بضعة سنوات انطفأت عينه الأخرى. وقد أعطاه الأطباء دون إذنه جرعة من الكورتيزون كان جسمه يتحسّس منه، ما أدى إلى نزيف حاد في معدته، فأعطوه 12 عيّنة من الدّم، وأُجبر على التقيّد بنوعية معيّنة من الطعام الّذي يأكله. فكان يقيت نفسه ببضعة ملاعق من الحليب والماء يوميًا فقط.
على الأثر ضعفت قواه الجسدية وأُرهق لدرجة أنّه لم يعد يستطيع الوقوف مستقيمًا. هذه المرة أيضًا رغم اقترابه من الموت، نجّاه الرّب. وٱستمرت هذه القرحة إلى آخر حياته، ينزف منها كلّ ثلاثة أشهر تقريبًا.
منذ ذلك الحين، أخذت صحّته تتدهور. استمرّ الأب بورفيريوس برعاية أغنامه على قدر استطاعته، معرّفًا لوقت أقل من الماضي، أحيانًا مع أوجاعٍ مؤلمة ومختلفة. وأخذ يفقد نظره تدريجيًا حتّى أُعمي كليًا عام 1987، ومعه خفّف من كلمات النّصح الّتي كان يُسديها للنّاس وزاد من صلاته لأجلهم. صلّى بصمت وبكثير من الحب والتواضع لكلّ من كان يستنجد به طالبًا معونة من ربّه. وبفرحٍ روحيّ كبير كان يشهد لنعمة الله تقودهم إلى كلّ عمل صالح.
بناء دير جديد:
رغب القدّيس ببناء دير مقدّس، يكون أساسًا رهبانيًا تعيش فيه راهبات تقيّات من بناته الرّوحيات.
تعهّد الأب بورفيريوس أمام الله أن يهتم بهؤلاء النسوة اللواتي ساعدنه قبل مفارقته الدنيا لأنّهنّ كن معاونات أمينات لسنوات عديدة. وقد شاء أن يزداد هذا الدير مع الوقت ويجمع كلّ من أردن أن يكرسن أنفسهن لله.
أول فكر له كان أن يبني ديرًا في كاليسيا، بندلّي، في المكان الّذي ٱستأجره من دير بندلي. حاول مرارًا وتكرارًا أن يُقنع أصحاب الأرض بمنحه إيّاها ولكن دون جدوى. أحسّ الأب بورفيريوس أنّها لم تكن مشيئة الله، مدبّر كلّ الأمور بحكمة، أن يستمرّ في هذا المكان بل أراده أن ينتقل إلى مكان آخر. باشر الأب بورفيريوس بالتفتيش عن أرضٍ مناسبة لبناء دير.
خلال هذا الوقت، قدّم للّجنة المختصّة في الكنيسة ميثاقًا أعدّه مع أبنائه الرّوحيين لتأسيس دير للراهبات. وبما أنّه لم يكن قد وجد العقار المناسب انتقى منطقة ”توركوفونيا“ في أثينا مقرًا للدير. هناك كان يملك بيتًا حجريًا صغيرًا فقيرًا سكن فيه منذ العام 1948 إلى أن ٱنتقل إلى كاليسيا. لم يشأ الأب بورفيريوس أن يقوم بأي شيء من دون إذن الكنيسة. ومع أنّه قدّم الأوراق عام 1978، لم يحصل على الإذن بإنشاء ”دير تجلّي ربّنا وإلهنا يسوع المسيح“ إلا عام 1981 وذلك بعد متاعب إدارية كثيرة. أراد الأب بورفيريوس أن يكون المكان مَحْمِيًّا من الرّياح ذا منظر جميل. صلّى كعادته كي ينيره الله. لم يلجأ إلى المكاتب العقارية بل أخذ يجول بنفسه على الأراضي المختلفة متفحصًا بتدقيق ميّزات كلّ منها. بحث بلا كلل وزار مئات العقارات، استشار عددًا كبيرًا من النّاس.
وفي الأخير أظهر الله له مكانًا في ”ميليسي، أتيكا“، فوق الهضبة، لكي يبني ديرًا. أخبره أحد الرّعاة أنّ هذا المكان يُعرف بـ”الخلاص المقدّس“. أراد أن يعرف إذا كان في الأرض ماء… ”رأى“ ببصيرته الماء، و”ذاقه“ وكان جيدًا جدًا ولكن عميقًا جدًا. ثم راقب الطرقات إذا كان بالإمكان تمديد الكهرباء والهاتف، هل المكان محميّ من الرّيح وما إذا كان الهواء الشمالي يصيبه، وهل فيه رطوبة وراقب مسيرة الشمس فيه، مترددًا على المكان لأشهر لأنّه أراد أن يبني ديرًا تشرق عليه الشمس وتغرب منه، فيسقط عليه آخر شعاع لها. ولما كانت هذه الأمور مؤاتية، قرر شراء الأرض. تمّت الصّفقة وابتدأت أعمال البناء عام 1980م بالأموال الّتي ادّخرها عبر السّنين، لأجل بناء الدير معتمدًا أيضًا على مساعدات الأصدقاء والأقارب الّذين شاركوه هذه الرّغبة.
عاش أكثر من سنة هناك في عربة متنقّلة في ظروف صعبة جدًا خاصة في الشتاء. وبما أنّ المياه الّتي ”رآها“ القدّيس عميقة فقد اضطر إلى بناء خزّانٍ كبيرٍ يجمع مياه الأمطار. ولكن هذا لم يكن كافيًا.
ذات مرة أتى رجل إلى القديس مسترشدًا فكشف له الرّب الإله به أمورًا عائلية معينة تخصّه. تعجّب الرجل وتأثر جدًا وقال له أنّه يريد أن يحفر له بئر ماء. وهكذا حصل على المياه الجوفية الجيدة بعد أن حدد له القدّيس العمق الّذي يجب حفره للحصول على المياه.
حبّه اللاّمحدود لربّه وللقريب دفعاه إلى إرشاد الكل إلى فرح تجلّي المسيح الإله على جبل ثابور. كان، مع الرّسول بولس، يناشد أولاده الرّوحيين أن ”لا تتشبهوا بهذا الدهر بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد عقولكم لتختبروا ما مشيئة الله الصالحة المرضيّة الكاملة“ (رومية 2:12). أراد أن يرشدهم إلى الحالة الّتي اختبرها حيث ”نحن جميعنا ننظر بوجهٍ مكشوف كما في المرآة مجد الرّب، فتتحوّل إلى تلك الصّورة بعينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرّب الرّوح.“ (2 كو 18:3). لذلك كرّس الدير لتجلّي ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح وأراد أن تُكرَّس كنيسة الدير لهذا العيد. وفي نهاية المطاف، بعد صلاة حارّة، متواترة، توصّل مع العمال إلى رسم تخطيط بسيط ومتكامل للكنيسة. تمّ وضع حجر الأساس في ليلة 25 شباط 1990، خلال سهرانة للقدّيس ”بورفيريوس الغزّاوي“.
لم يكن الأب بورفيريوس يستطيع النّزول إلى أسفل حيث سيوضع حجر الأساس، فأعطاهم بكثير من التأثّر صليبه ليكون حجر الأساس. ومن سريره صلّى “يا صليب المسيح ثبّت أساس هذا البيت، يا صليب المسيح، خلّصنا بقوّتك، اذكر، يا الله، عبدك الحقير بورفيريوس ورفقته…“. وبصلوات القديّس استمر العمل في بناء الكنيسة دون توقف، واستطاع أن يرى بعينيه الرّوحيتين (لأنّه كان قد فقد نظره الطبيعي منذ سنوات) الكنيسة في مراحلها الأخيرة. لأنّه ما إن وصل البناء إلى قاعدة قبة الكنيسة الأساسية حتّى رحل القدّيس من هذا العالم.
عودته إلى مكان توبته الأولى:
لم يترك القدّيس بورفيريوس الجبل المقدّس إلاّ بالجسد. فروحه بقيت هناك.
لم يكن ثمة موضوع يهتم به أكثر من الجبل المقدّس آثوس وبالأخصّ ”كافسوكاليفيا“. لسنوات كان عنده قلاية هناك لأحد تلاميذه يزوره فيها.
عام 1984، علم أنّ آخر راهبٍ في قلاية القدّيس جاورجيوس قد غادر وٱنتقل إلى دير آخر، فأسرع إلى دير اللاّفرا الكبير الّذي تتبع له القلاية وطلب من رئيس الدير إعطاءه إيّاها. هناك أخذ أوّل نذوره الرّهبانية، ولسنوات تمنّى العودة ليفي النّذر الّذي قام به منذ أكثر من ستين سنة وأن يبقى في الدّير إلى آخر نسمة من حياته. لقد أصبح الآن مستعدًا لآخر رحلة في حياته. أُعطي القدّيس بورفيريوس قلاّية القدّيس جاورجيوس بحسب ترتيب الجبل المقدّس بوثيقة مختومة في 21 أيلول 1984.
سكن هناك مع عدد من تلاميذه. في صيف 1991 أصبح عددهم خمسة، وهو العدد الّذي ذكره أمام أولاده الرّوحيين منذ ثلاث سنوات قائلاً: إنّه عندما يصبح عدد تلاميذه خمسة سوف ينطلق إلى ربّه.
رحلته الأخيرة:
خلال آخر سنتين من حياته كان يتكلّم باستمرار عن تحضيره للمثول أمام الدينونة.
أعطى أوامر محددة عن رغبته في أن يدفن في كافسوكاليفيا. في الأخير قرّر أن يذهب إلى هناك بنفسه ما دام حيًّا.
عشيّة عيد الرّوح القدس من العام 1991، غادر الأب بورفيريوس باتجاه الجبل المقدّس بعد أن كان قد اعترف وأخذ الحلّ عن خطاياه من أبيه الرّوحي المسنّ والمريض. استقرّ هناك وٱنتظر النّهاية. غادر الأب بورفيريوس الدّير في ميليسي وفي نيّته عدم العودة ثانية. لقد تكلّم بما فيه الكفاية مع أبنائه الرّوحيين ملمّحًا أحيانًا وأحيانًا أخرى قائلاً لهم بصراحة إنّه يراهم للمرة الأخيرة. قبل ذلك كان كلّما ذهب إلى الجبل المقدّس يحاول أولاده الرّوحيّون حمله على العودة إلى أثينا بسبب صحته الرّقيقة وصعوبة العيش في كافسوكاليفيا أو لتعزيتهم، حتّى ٱضطر إلى العودة مرّتين، وكلّ مرّة لم يكن يبقى إلا بضعة أيام ثم يسرع عائدًا إلى الجبل. آخر مرة غادر فيها، خشي أن يضطره أولاده إلى العودة خاصة أنّه اعتاد طيلة حياته أن يتمّم مشيئة الآخر لذلك قال لأحد تلاميذه: ”إذا قلت لك أن تأخذني إلى أثينا، ٱمنعني، لأنّ هذه ستكون تجربة من الشرير“.
وبالفعل حاول العديد ترتيب عودته إلى أثينا، ولكنْ على غير طائل. وشاء الرّب الإله أن يحقق للقدّيس رغبته بأن يموت ميتة الأبرار في منتهى البساطة وبعيدًا عن الأنظار محاطًا فقط بتلاميذه الّذين كانوا يُصلّون معه.
في آخر ليلة من حياته الأرضية، ذهب القدّيس ليعترف بخطاياه ثم أخذ يردّد صلاة يسوع دون توقّف بصمت على الطريقة الهدوئية. قرأ تلاميذه المزمور الخمسين ومزامير أخرى ثم خدمة المحتضرين وأخذوا يصلّون صلاة يسوع معه حتّى أتموا قانون الاسكيم الكبير. بكثير من الحبّ قدّم له تلاميذه ما احتاجه من تعزية جسدية وروحية.
وللحظات طالت سمعوه يتمتم صلاته إلى أن قال كلمته الأخيرة: ”فلتكن مشيئتك“. بعدها قال كلمة واحدة نجدها في رؤيا القدّيس يوحنّا في العهد الجديد: ”تعال“. وجاء محبوبه الرّب يسوع ونقل روحه الطاهرة إلى السّماء، كان ذلك في 2 كانون الأوّل عام 1991 عند السّاعة 4:31 صباحًا.
ُلبس القدّيس على الطريقة الرّهبانية ونقل إلى كنيسة كافسوكاليفيا.
هناك بحسب التقليد قرأ الآباء الإنجيل المقدّس كلّ النّهار، وفي الليل أُقيمت سهرانية. كلّ شيء تمّ وفق توصيات القدّيس الّتي كتبها ليمنع الالتباس.
وفي صباح 3 كانون الأوّل، دُفن القديس في إسقيطه في كافسوكاليفيا يحيط به عدد قليل من الرّهبان. عندها فقط تمّ إعلان وفاته كما أوصى.