الذكاء الاصطناعي و”تحليل الاستجابات العاطفية”.
جماعات متطرفة تُحاول عمدا نشر فيروس كورونا..
(غوردون كوريرا – مراسل الشؤون الأمنية – bbc)
يقتحم مسؤول استخباري بارز اجتماعاً حاملاً معه أحدث تقرير، ويضعه أمام السياسيين وصناع القرار المجتمعين الذين ينتابهم قلق واضح.
في الماضي، قد يكون مثل هذا التقرير العاجل عن خطة هجوم إرهابي وشيك، ربما عن خلية في الشرق الأوسط تبحث عن طرق جديدة لتفجير طائرة ركاب. وكان هذا سيؤدي إلى تأهب في أجهزة الأمن القومي المتدربة تدريباً جيداً لمواجهة مثل هذه الحالات.
ولكن في المستقبل، قد تتعلق هذه التقارير بانتشار فيروس في بلاد بعيدة تُحاول حكومتها إخفاء تفاصيله وخطورته عن العالم الخارجي.
فمنذ هجمات 11 سبتمبر قبل 20 سنة تقريباً، هيمنت قضية الإرهاب على جُل اهتمام الجهات الأمنية. ولكن برزت أصوات على مدى سنوات تُطالب بتوسيع مفهوم الأمن، ثم جاء انتشار وباء كورونا ليطرح تساؤلات جدية حول ما إذا كان ينبغي شمول الأمن الصحي العالمي في منظومة الأمن القومي بحيث يُخصص له موقع مركزي ضمن اهتماماتها.
في الاستعراض الأخير للوضع الأمني في بريطانيا، صُنّفت الأوبئة العالمية على أنها تشكل خطورة من المقام الأول على أمن البلاد – أي أنها مُنحت أولوية قصوى – ولكن ذلك لم ينعكس على حجم الموارد المخصصة لمجابهة تهديد بهذه الخطورة ولا على الأسلوب الذي تعاملت به المنظومة الأمنية مع التهديدات الوبائية مقارنة بمصادر التهديد الثلاثة التي تتقاسم معها الأولوية؛ وهي الإرهاب والحروب والهجمات الإلكترونية.
ولكن، كما حدث في أعقاب هجمات سبتمبر/أيلول، ثمة من يشعرون أنهم همشوا ولم يُصغ إلى تحذيراتهم عندما قرعوا ناقوس الخطر بشأن المخاطر المحدقة بأمننا الصحي.
وبالنسبة لوكالات التجسس، قد يتطلب موضوع التكيف مع هذا الخطر الجديد تغييراً كبيراً في سياقات عملها، إذ ستشكل معرفة حقيقة الوضع الصحي في بلد ما أولوية بالنسبة لصناع القرار.
وقد يعني هذا بالنسبة للجهات الاستخبارية التي تستخدم الموارد البشرية، مثل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وجهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني (أم آي 6)، التأكد من زرع الوكلاء في المكان المناسب بحيث يتمكنون من ارسال التقارير حول ما يجري بالفعل.
وقد يكون من الضروري أيضا إدخال تغييرات على نوعية المعلومات التي تبحث عنها الوكالات التي تخترق الاتصالات الدولية وتتنصت عليها، وعلى سياقات عمل المنظومات التي تعتمد السبل الاستخبارية التكنولوجية، كأن تكلف الأقمار الاصطناعية بمراقبة المنشآت الصحية وحتى مواقع الدفن.
وقد يكون من الضروري تطوير أجهزة جديدة لها القدرة على تحري الأوضاع الصحية والبحث عن التهديدات البيولوجية، كما طُوّرت تقنيات متخصصة في البحث عن آثار المواد النووية.
ولكن كل هذا يظل جزءاً من عالم جمع المعلومات الاستخبارية التقليدي.
أما التطورات الحقيقية التي قد ترسم المستقبل فقد تكمن في استخدام قواعد معلومات أكثر تعقيداً، وتقنيات الذكاء الاصطناعي من أجل رصد التطورات في المجموعات السكانية المختلفة وتفهمها والتنبؤ بمساراتها.
في هذا المجال، يُمكن تحليل المعلومات المستقاة من الهواتف المحمولة والعبارات المستخدمة في البحث في الإنترنت وغيرها من النشاطات.
وقبل أربع سنوات، أخبرني مدير شعبة الابتكار الرقمي في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية آنذاك عن النشاطات التي تضطلع بها الوكالة في مجالات دراسة المعلومات التي تشمل مجتمعات بأسرها، باستخدام الذكاء الاصطناعي وأساليب أخرى مثل “تحليل الاستجابات العاطفية”.
وتهدف هذه النشاطات والدراسات إلى الحصول على القدرة على التنبؤ بوقوع أحداث معينة مثل انهيار الأنظمة العامة واحتمال اندلاع ثورات قبل أن تتضح للعيان.
وتخوض الولايات المتحدة والصين منافسة من أجل الهيمنة في هذا المجال، وهي منافسة يخشى كثيرون في واشنطن من أن الولايات المتحدة قد تخسرها لأن الصين استثمرت الكثير في بناء قدراتها وقابلياتها في جمع المعلومات.
ومن الأمور التي ما زالت مجهولة في هذا المضمار كيفية تأثير الأزمة الحالية على تصاعد المشاعر القومية التي نشهدها منذ سنوات عدة. فقد يؤدي انتشار الوباء إلى التأكيد على الطبيعة المترابطة لعالمنا المعاصر، مما يؤدي بدوره إلى المزيد من التعاون – بما في ذلك تبادل المعلومات – عند انتشار أي وباء جديد.
أو، من ناحية أخرى، قد يؤدي ذلك إلى أن تُغلق الدول حدودها وتنغلق على نفسها، مما يزيد الحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لجمع المعلومات لمعرفة ما تقوم به أو تخفيه الدول الأخرى أو أي تطورات قد تنجح في تحقيقها.
و”للتجسس البيولوجي” تاريخ طويل. ففي حقبة الحرب الباردة، كان الغرب والاتحاد السوفيتي يتسابقان من أجل فهم ما هي الأسلحة الجرثومية والبيولوجية السرية والسموم العصبية التي كان يطورها الطرف الآخر. وفي المستقبل، قد يكون التركيز على اللقاحات أكثر منه على الأسلحة.
وعززت الأزمة الأخيرة المخاوف من احتمال قيام إرهابيين أو جماعات أخرى باستخدام الأسلحة البيولوجية أو الجرثومية، وهناك بالفعل مؤشرات إلى أن بعض جماعات اليمين المتطرف تُحاول عمدا نشر فيروس كورونا. وقالت وزارة العدل الأمريكية في هذا الصدد إن اولئك الذين يعمدون إلى ذلك قد يتهمون بالإرهاب.
ما زال التحول الذي جرى في السنوات الأخيرة من أجل تفهم ومواجهة حملات التضليل التي تقوم بها الدول المعادية مهما، ولكن ثمة تهديدات داخلية أيضا.
وأحد الأسئلة المهمة التي قد تطرحها الأزمة الراهنة يتعلق بالمدى الذي ينبغي للحكومات التي تتمتع بقدرات عالية في الرصد السكاني أن تستخدم هذه التقنيات لرصد انتشار الفيروس والسيطرة على تحركات السكان من أجل منع انتشاره بشكل أوسع.
وتستخدم الصين برمجيات خاصة بتعقب الإشارات التي تبثها الهواتف المحمولة في هذا المضمار، أما روسيا فتستخدم أجهزة التصوير وتقنية التعرف على الوجوه في سعيها لتعقب المخالفين. وطورت دول أخرى “حواجز إلكترونية” تُخبر حكوماتها حال انتقال الناس من مواقع العزل.
وفي هذا السياق، تقوم الحكومتان الأمريكية والبريطانية بالتواصل مع شركات التكنولوجيا من أجل التوصل إلى ما تستطيعان عمله. ولكن المدافعين عن الحريات المدنية يشعرون بقلق متزايد من إمكانية مواصلة استخدام أدوات الرصد التي تهدف إلى السيطرة على انتشار الفيروس في المستقبل من قبل أي حكومة تسعى لفرض هيمنتها السياسية.
وستكون هناك حاجة لتعليم مُحللي المعلومات الاستخبارية خبرات جديدة ومختلفة، وسيتعين أن يتعاون الخبراء الصحيون مع الخبراء العسكريين لإعداد تقارير، بناءً على ما يردهم من معلومات ورفعها إلى صناع القرار، ولكن قد يشعر هؤلاء الخبراء بقلق من احتمال احتوائهم داخل منظومة الأجهزة الأمنية.
والسؤال الأساسي الذي يواجهه المحللون في الوقت الراهن هو إلى أي مدى يقوض الفيروس قدرات الحكومات وجيوشها على التصرف وما هي الجهات التي قد تستفيد من ذلك؟
وبالفعل، هناك تلميحات إلى أن عالم المخابرات قد بدأ بالتكيف مع الواقع الجديد، إذ تقول تقارير إن جهاز الاستخبارات الخارجي الإسرائيلي – الموساد – نفذ عملية نقل بموجبها 100 ألف جهاز للفحص من الخارج رغم افتقار بعضها إلى مكونات مهمة.
في غضون ذلك، شرع جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي – الشين بيت – باستخدام المعلومات المستقاة من الهواتف المحمولة في تعقب أولئك الذين قد تعرضوا للعدوى بالفيروس من أجل تحذيرهم.
أما في الولايات المتحدة، فقد أطلعت الأجهزة الاستخبارية صانعي القرار على سلسلة من التقارير السرية في شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط تتعلق بمخاطر فيروس كورونا اعتمدت في إعدادها على المعلومات التي تمكنت من الحصول عليها من الصين. ولكن تقارير أخرى ذكرت أن هذه التقارير لم تلق اهتماما من جانب البيت الأبيض.
وهذا يؤكد ما تعرفه الجهات الاستخبارية جيدا: مهما كانت دقة المعلومات، فهي عديمة الفائدة إن لم ينتبه المسؤولون إليها.