يقول القدّيس ألفونس دي ليكوري في كتابه أمجاد مريم البتول، أنّ الله كشف للعذراء القدّيسة مريم، عن آلام يسوع المسيح والميتة الشنيعة التي مزمع أن يموتها منذ البداية. فمنذ لحظة ولادة ابنها كانت تعرف وتتوجّع مدركة تضحية المسيح وأيضًا تضحيتها والآلام التي ستتألّمها. لهذا تدعوها الكنيسة ليس فقط أمّ الأوجاع، لكن أيضًا سلطانة الشهداء. لأن استشهادها بدأ منذ ولادة يسوع لسابق معرفتها بمخطّط الله الخلاصي.
يقول الفيلسوف سينكا: “إنّ الإنسان الذي يقدر أن يعلم الشرور المزمعة أن تحيط به في حياته الآتية هو تعيس للغاية”. وحقًا إنّ الربّ يصنع معنا رحمة عظيمة بعدم كشفه لنا الصلبان التي يجب أن نحملها. حتى إذا لزم أن نتألّم بها، فلا يدركنا التوجّع إلا مرّة واحدة حين حلول الشدّة فقط. غير أن الله لم يستعمل هذه الملاحظة الرؤوفة مع مريم البتول التي قد حصلت على معرفة الآلام التي كانت مستعدّة أن تتألّم بها. لأنه عزّ وجلّ، كان يريد أن يجعلها سلطانة الأوجاع، وأن تكون شبيهة بابنها في كل الأشياء.
وهكذا كانت على الدوام مشاهدة إياها أمام عينيها، ومتألّمة من دون انقطاع بملاحظتها العذابات كلها، التي كان مزمعًا ابنها الحبيب يسوع أن يحتملها ويموت بها على خشبة الصليب.
“وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ
أوحت البتول والدة الإله للقدّيسة ماتيلدا أنها حالما سمعت من البار سمعان هذا التنبيه، فقد انقلب فيها كل الفرح إلى الحزن والتوجّع. وأوحِيَ للقدّيسة تريزيا أنّ هذه الأمّ الإلهية، كانت تعلم من قبل، بالقربان الذي كان يلزمها أن تقدّم به ابنها ذبيحة لله أبيه، من أجل خلاص العالم.
ويقول القدّيس برناردوس: “إنَّ مريم البتول كانت عند مشاهدتها طفلها الإلهي، تتأمّل في أنّ قوّة القدّيسين وبرجهم الحصين مُقبل على النزاع والموت، وإنّ جمال الفردوس السماوي ونعيمه لا جمال له ولا صورة، بل تشاهد صورته مهانة. وإنّ سيّد العالم وربّ الكائنات سيُربط مقيّدًا كمجرم. وإنّ خالق البرايا بأسرها سيُلطم ويُجلد، وإنّ قاضي القضاة وديّان العالمين سيُحاكَم ويُقضى عليه بالموت. وإنّ مجد السماوات وزينتها سيُحتقر ويُهان. وإنّ سلطان السلاطين وملك الملوك سيُكلّل بإكليل من شوك، ويُعامَل باستهزاء كأنه ملك للسخرية”.
ما أوحِيَ للقدّيسة بريجيتا عن آلام وأحزان العذراء
قال ملاك الربّ للقدّيسة بريجيتا: “كما أنّ الوردة تنمو بين الأشواك، كذلك والدة الإله كانت تتقدّم بالسنين فيما بين الأوجاع. كما أنّ الوردة في نموّها تنمو معها الأشواك المحيطة بها، هكذا وردة الربّ المختارة هذه، بمقدار ما كانت تنمو في العمر، كانت تنمو معها أشواك آلامها وأحزانها لتزيدها وجعًا وغمًّا… إنّ العذراء المجيدة المملوءة حزنًا كانت تعلم جيّدًا ما كان ينتظر ابنها يسوع من آلام. كلّما كان يقترب زمن آلام يسوع المسيح، كان يزداد وجع أمّه العذراء مرارة وأحزانها شدّة”.
وأوحت لها السيّدة العذراء قائلة: “حين كنتُ عائشة على الأرض، لم تمرّ ساعة واحدة، بدون هذا الحزن والأوجاع الشديدة التي كانت تطعن قلبي. لأني عندما كنت أنظر إلى ابني، أو أحلّه من اللفائف وأقمطة ثانية، أو أشاهد يديه ورجليه، كانت تمتلئ نفسي أوجاعًا شديدة، وتُكرَّر في جوارحي وترشق سهام الآلام، لأني كنت أتصوّر في عقلي أي نوع من الصلب ينتظره”.
“وكل مرّة كنت أُلبسه قميصه، كنت أفتكر أنه يومًا ما سيُنزع عنه هذا القميص ليُسمّر على الصليب عاريًا، وعند مشاهدتي يديه ورجليه المقدّسة كنت أشاهد صورة المسامير المُعدّة لثقب تلك اليدين والرجلين. إنني في تلك الأوقات كنت أذرف الدموع بغزارة، وكان قلبي مليئًا بالأوجاع والأحزان الشديدة”.
أمّا الأنبا روبيرتوس، فكان يتأمّل في والدة الإله حاملة على ذراعيها إبنها الحبيب مُرضعة إياه، وكان يشرح آية نشيد الأناشيد التي تقول: “مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ. صُرَّةُ الْمُرِّ حَبِيبِي لِي. بَيْنَ ثَدْيَيَّ يَبِيتُ”. ويجعل بشرحه الأمّ تخاطب ابنها قائلة: “أواه يا ولدي إني أضمّك إلى صدري بين ذراعَيَّ، لأني أحبّك حبًّا لا محدودًا، ولكن بمقدار ما أنت عزيزٌ لديّ، فبأكثر من ذلك أنت تُضْحي لديّ مصدر ألم وأوجاع وتحسّر، عندما أفكّر بآلامك العتيدة”.
أوحى ملاك الرب للقدّيسة بريجيتا أنّ الأمّ هذه الكليّة الإشفاق نحونا، قد قبلت بأن تحتمل العذابات كلّها، بدل أن تشاهد الأنفس غير المفتداة باقية مهملة في حال الخطيئة. ويمكن القول أن هذا كان التعزية الوحيدة التي شعرت بها أمّنا العذراء في حين غرقها في بحر تلك الآلام العظيمة الشديدة المرارة،المُسبّبة لها من آلام ابنها.
حبّ عظيم كهذا من والدة الإله، ألا يستحق منّا معرفة الجميل نحوها؟ ألا ينبغي لنا على الأقل، أن نكافئ جميلها بتأمّلنا في أوجاعها وأحزانها؟
يا سلطانة الشهداء – صلّي لأجلنا