أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


قصة غسل أرجل المسيح والوعاء الجاف.. للقديس البار باييسيوس الكبير ✨ طرائف + قصص + حياته ✨


(1)
حوار يسوع مع القديس عن الصوم

🎗و بكلامٍ آخر، قال له الرب: ” لا توجد إلاَّ طريقة واحدة! إنّ فخاخ الشرير والتجارب تُغلَب بقوة المسيح فقط، فعندما نشعر ضميرياً بضعفنا نلتجىء بتواضع إلى المسيح و نطلب ستره و معونته و حمايته الضابطة الكل “.

🎗منذ ذلك اليوم، أخذ القديس باييسيوس يفكّر بشيءٍ واحدٍ فقط بإستمرار، وهو كيف أنّنا غير مستحقّين، و كيف أنّ المسيح متحنّن و محبّ للبشر. و تواضعه هذا كان مرضياً لدى مَنْ تواضع باختياره وإتّخذ صورة عبدٍ فكان يساعده في الغلبة على الشرير بأسهل أسلوب.
🎗و من الطبيعي أنّ الشيطان كان يتلوّع من شرّه لأنّه كان يرى أسلحته باطلة و قوّته مغلوبة.

🎗نتعب كثيراً كما هو الحال مع كلّ الرهبان، هكذا أيضاً مع القديس باييسيوس، فقد أحبّ الصوم كثيراً، و كان يُغصِب نفسه باستمرارٍ، لكي يجعل صومه أكثر قساوةً و مرارة.

🎗قام بنسكٍ شديد، إذ بقي /٢٢ / يوماً كاملاً صائماً دون أن يضع في فمه شيئاً على الإطلاق. و بعد إنقضاء/ ٢٢ /يوماً من الصوم، ظهر له الرب مخلّصنا يسوع المسيح، نور العالم، منتهزاً الفرصة، لأنّ التعاليم التي تَتّخِذ من أتعاب الصوم صورةً و قياساً لها، تدخل في النفس عميقاً.

🎗فقال له: ” أنت تتعب كثيراً من أجلي يا عبدي باييسيوس “

🎗 فأجاب بتواضع: “و ما الذي أفعله أنا، أمام ما فعلته أنت وما تحمّلته يا رب من أجلنا؟ و لكن هل فعلتُ هذا و حدي؟ و بقواي الذاتية؟ و ماذا كنتُ أستطيع أن أفعل بدون نعمتك و قوّتك؟ فمِنْ لدُنِك هي الإرادة أيضاً، و أكثر منها العمل من أجل مرضاتك”.

🎗فقال الرب:” من أجل كلّ عملٍ صالح يقوم به الإنسان، سأكافئه أنا بحسب تعبه”، ثم أمسكه بيده، و قال له: ” و لكن أتريد أن ترى ماذا يعني التعب؟ تعالَ معي”.

🎗ذهبا إلى مغارة كان يسكن فيها ناسك. و عندما دخل القديس باييسيوس إرتعد. إذ رأى الناسك يتلوّى على الأرض من شدّة الألم. و قال الرب:” أترى هذا المجاهد يا باييسيوس؟ أترى ماذا يتحمّل من أجلي؟”.

🎗فقال باييسيوس:” لماذا يارب، ما هو جهاده؟”.

🎗قال الرب” إنّه صائمٌ منذ يومين. لم يضع في فمه شيئاً. أترى كم يتحمّل؟”.

🎗فأجاب باييسيوس:” أراه يارب. و لكن كيف أنا صمتُ / ٢٢/ يوماً و لم أُصَب بأسوأ منه؟”.

🎗أجابه الرب:” كانت نعمتي تعضدكَ وتقوّيك، لذلك فأنت تصوم دون معاناة و دون تعبٍ و دون آلام. أما هذا فيصوم بنيّيته الصالحة فقط، برغبته للقيام بشيء من أجلي. و كما ترى، فهو يقوم بما يفوق طاقته“.

🎗فسأل باييسيوس:” وما هو الأجر الذي سيحصل عليه من أجل صومه هذا؟”.

🎗أجابه الرب:”يستحقّ أن يأخذ الأجر الذي ستأخذه أنت من أجل صومكَ ال/٢٢/ يوماً، إذاً لم يكن أكثر!“.

🎗كلام الربّ هذا زوّد القديس بأجنحة، و منذ ذلك الحين لم يعد يضع في فمه أيّ غذاءٍ أرضيّ بل كان يتناول جسد المخلّص المقدّس و يشرب دمه الكريم عندما يقدِّس فقط.


(2)
فخ الشيطان

🎗إنّ إمساك القديس الشديد  سبّب الإنذهال لدى الأشخاص المستعبَدين لملذّاتهم الجسدية  فأسرعوا إليه متعطّشين إلى كلام  الله. أمّا هو فلم يعد يتجنّبهم، ولم يعد يعتبرهم مزعجين أو مُعيقين أو عثرةً له، بل كان ينظر إليهم بمحبة المسيح و حنانه، وكان يهتمّ بتعليمه، أن يصحّح لهم إعتقادهم في أنّ الحياة هي إرضاءٌ للرغبات الجسدية. وكانت النتيجة أنّ كثيرين عاشوا  بقربه إلى النهاية و صاروا رهباناً.

🎗كان القديس يدرّبهم على  تذوّق حلاوة الصلاة، وعلى تفهّم  المعنى الكبير لخضوع الإنسان الإرادي لإرشاد أب روحي، من  أجل قداسته وخلاصه، وذلك  ليساعدهم على تجاوز الشر، إذ إنالإنسان، بدافع أهوائه، يميل تارةً  إلى المشاغبة وتارةً يصعد نحو العلاء ثم يسقط فجأةً إلى الهاوية!.

🎗كان يقول أنّ الطاعة هي  سيرة الملائكة المغبوطة.

🎗هكذا نشأت “اللافرا” الكبيرة  في “نتريا”، و التي مع مرور الزمن  إتّخذت شكل حياة الشركة  الكاملة، ودعيَت بدير البار باييسيوس في نتريا.

🎗أمّا قانون هذا الدير فكان  بسيطاً، كان على الرهبان أن  يعملوا جميعهم، كلٌّ في المجال  الملائم لقواه الخاصّة و في  العمل المناسب له. و بعملهم هذا  كان عليهم تدبير حاجاتهم  المعيشية.

🎗هكذا كان يعلّم القديس.  وكان متسامحاً في كلّ شيء،  ماعدا أمر واحد فقط، و هو أن لا  يقوم الرهبان بأيّ أمراٍ، مهما كان  صغيراً، متّكلين على رأيهم  الخاص، بل كان يوجِب عليهم أن  يطلبوا إذناً و بركة من أبيهم  الروحي في كلّ صغيرة يقومون  بها. لأنّه هكذا، سيتجنّبون خطر  العبودية لفكرهم أوّلاً و لأهواء  ثانياً.

🎗فهل من الممكن أن يعتقد  الإنسان بشيء ما أنّه صحيح  و نافع و لا يسعى لتنفيذه في  وقتٍ ما؟

🎗في إحدى الأيام، نصب  الشيطان هذا الفخ للقديس باييسيوس ظهر بهيئة ملاكٍ لإنسان غني جداً، و قال له: ” اذهب بسرعة إلى البريّة، ستجد  هناك راهباً يدعى باييسيوس،  فقيراً جداً من جهة الأموار المادية، ولكنه غني جداً  بالمواهب الروحية! إسجد له واطلب بركته. وقدّم له أكثر ما تستطيع أن تقدّمه فكلّ شيء يلزمه. وبمقدار ما وبمقدار ما  تقدّم له ستربح  أنت أكثر، و قُلْ له إنّ الرب يوصيه أن يوزّع هذه الأشياء على النسّاك الفقراء. واعلم أنّه إذا تمّ ذلك فإنّ جميع نسّاك البريّة وهم رجال قديسون سيصلّون من أجلك”.

🎗تحمّس الرجل الغني و أسرَعَ  فوراً إلى البريّة حاملاً الأموال!  وجد الأب باييسيوس و سجد له  و وضع كمية كبيرة من الذهب  أمام قدميَه، و قصَّ عليه الرؤية  التي ظهرت له.

🎗كان هدف الشيطان أن  ينذهل القديس باييسيوس من  منظر الذهب، و أن يعتبره  ضرورياً  للحياة فيسقط من  سموّه الروحي. و لكن القديس لم يستغرب، بل هزّ رأسه بإرتياب، وقال:”سامحني أيّها الإنسان  الصالح، لماذا حملت إلينا هذه الأموال؟ نحن هنا لسنا بحاجةٍ  لشيء، لسنا بحاجةٍ إلى المال. ولكن إذا أردتَ أن تقدّمها للمسيح من أجل نفسك، فاذهب إلى القرى والمدن المصرية ووزّعها على الفقراء والله سيهبك غنى لا يقدّر وسيكافئك”.

🎗فأطاع ذلك الغني كلام  القديس، و بدأ يوزّع ثروته من  أجل مجد المسيح.

🎗و هكذا إنتصر القديس  إنتصارَين، فقد فرَّ من فخ  الشيطان من جهة، وقاد الغني إلى الخلاص بممارسة فضيلة  الإحسان العظيمة من جهة أخرى.


(3)
عن الملائكة وقوانين محبّ البشر..
الخطيئة تنجب خطيئة أخرى

🎗 في إحدى المرّات كان القديس باييسيوس يتمشّى في البريّة، وفجأةً رأى البريّة ممتلئةً بالملائكة. فاستغرب، ترى ماذا يريد كلّ هؤلاء الملائكة في البرّية؟

🎗وقد شرح له أحد الملائكة هذا الأمر قائلاً: “نحن الذين ترانا، كلّنا ملائكة حَرَسَة للرهبان، أرسلنا الله لمتابعتهم لكي نحرسهم ونحميهم” وذهب مرّةً أحد الرهبان للإسترشاد من القديس فوجده نائماً. ورأى ملاكاً يقف بجانبه بتخشّع يحرسه. تعجّب الراهب وقال: “واضح أن الذين يضعون كلّ رجائهم على الله، يحرسهم الله بواسطة ملائكته”.

🎗 ومنذ ذلك الحين كان القديس باييسيوس يقول للرهبان: “لا تخافوا، لستم في البريّة لوحدكم، يوجد معكم آلاف الملائكة القديسين المرسَلين من الرب، لحراستكم وتقويتكم وحمايتكم”.

🎗 في أحد الأيام، بينما كان القديس يصلّي بحرارة، ظهر أمامه ربّنا يسوع المسيح. فسقط القديس على الأرض جاثياً، فمدّ الرب الجزيل التحنّن يدَيْه الطاهرتَيْن وأقامه قائلاً: “سلامٌ لكَ يا عبدي الأمين. لا تخَفْ. إنّ أعمالكَ تبهجني وصلاتكَ تصلُ إليّ كالبخور المقبول أمامي، ولذلك ها أنذا أمنحك نعمةً، أنَّ كلّ ما تطلبه منّي يتمّ لكَ. حتى لو توسّلتَ إليّ من أجل الخطأة فسأغفر لهم جميعاً خطاياهم.

🎗 فأجاب القديس: “ربّي، شيئاً واحداً أطلبُه منكَ، أن تمنحني نعمةً واستنارةً لكي أطلب فقط ما هو نافعٌ لي، حتى أستطيع أن أصل إلى النهاية الحسنة. لأنّه دون قوّتك ونورك أكون في خطر الوقوع خارج الطريق المؤدي إليك مهما فعلت”.

🎗 وعندما سمع الرب المخلّص أقوال القديس المتواضعة هذه باركه واختفى من جديد ومنذ ذلك الحين حصل القديس على موهبتين عظيمتين، أي الموهبة التي وعده بها الرب، والموهبة التي طلبها هو.

🎗 كان يعيش بقرب القديس ناسكٌ شيخ لديه تلميذ، أضلّه الشيطان فكان يعيش باستمرار في عدم الطاعة، وعدم الثقة، وبما أنّ الخطيئة تنجب خطيئة أخرى، فقد سقط في خطايا كثيرة، ومات فجأةً وهو ما زال شاباً. فصار رئيسه في حالة يأسٍ، إذ علِمَ أنّ تلميذه مات وهو غير تائب وكان يبكي بحرارة، ويتضرّع إلى الرب أن يكشف له أين ذهبَتْ نفسه. فأظهر الرب له نفس تلميذه وهي تتعذّب بشدة في الجحيم. فبكى الشيخ بحزنٍ و مرارةٍ كبيرين و بدأ بالصوم بأكثر ما يستطيع وبالصلاة بلا انقطاع قائلاً: “أشفِقْ يا رب على نفس شابٍ فاقد العقل”. وكانت الحجارة تتصدّع من سماع صلواته.

🎗 واستمرّ بذلك 40 يوماً كاملاً بأشدّ حرارة. فلم يتركه الربّ الجزيل التحنّن، بل قال له: “لقد صدر حكمي، وهذه النفس ستبقى في الجحيم وستتعذّب إلى يوم المجيء الثاني بسبب عدم طاعتها، وفي ذلك الوقت ستُدان بحسب أعمالها”.

🎗 فهم الشيخ جيداً معنى كلام السيد المسيح، و لكنه لم ييأس بل بالعكس، ضاعف أصوامه وصلواته، لأنّه علِم أنّ الربّ رحيم ورؤوف. ولكن لم يتم ما انتظره، فبعد أربعين يوماً عاد وظهر له المسيح قائلاً له: “لقد قلتُ لكَ أنّه ليس مستحقاً وهذا ما يليق به. وسيبقى في حالته هذه إلى أن آتي ثانيةً”.

🎗 يبدو لنا أنّ كلام الرب هذا لا يصدّق! ولكن الأمر ليس كذلك، فهو كلامٌ حقٌ، ومملوءٌ رحمةً لأنّه يشير إلى أنّه في يوم الدينونة الأخيرة سيُدان التلميذ غير المطيع برحمة. وفهم الشيخ هذا المعنى بشكل جيد، وأسرع إلى القديس باييسيوس ماشياً ساعاتٍ كثيرة داخل البريّة.

🎗 خرج القديس باييسيوس لاستقبال الشيخ، إذ كشف له الروح القدس عن مجيئه فقبّله بمحبةٍ أخوية وسأله: “ما السبب الذي دفعك أيّها الأب القديس للمجيئ إليّ أنا الخاطئ. ولماذا احتملتَ كلّ هذا التعب؟” فقصّ الشيخ عليه كلّ شيءٍ بدموع، ثمّ توسّل إليه ببكاءٍ قائلاً: “أشفِقْ عليَّ وعليه أيضاً هو الشقي. توسّل إلى الرب واطلب منه لكي يرحمه، واصنعْ إليّ رحمة فكل ما تطلبه من الرب يمنحك إياه. إذا لم تستجب لي فأنا لن أذهب من هنا. أشفِقْ على ولدٍ فاقد العقل، قد ترك كلّ شيء من أجل خلاصه وجاء إلى البريّة”.

🎗 إلاّ أنّ القديس باييسيوس لم يشأ أن يسمع مثل هذا الفكر. فقال له بتواضع: “ما هذا الكلام الذي تقوله أيّها الأب؟ مَنْ أكون أنا، ومَنْ أنا حتى أجرؤَ على فتح فمي الدنس لكي أطلب من الرب أن يغيِّر أحكامه؟ عُدْ إلى نفسكَ أيّها الأب ! مَنْ أنا؟ أنا دودة على الأرض! فكيف أجرؤ أن أطلب من الله مثل هذا الأمر؟”

🎗إلاّ أنّه بالرغم ممّا قاله وبالرغم من رفضه، فإنّ الشيخ لم يتراجع! بل أصرّ متضرّعاً بدموعٍ وباستمرار: “أشفِقْ عليَّ. تضرّعْ إلى الرب”.

🎗ممّا ليّن موقف القديس فقال: “مَنْ أنا يا أخي، وكيف أجرؤ على القيام بهذا؟ أنت تتألّم أكثر منّي فأنت تحبّه أكثر مني. أنتَ صلِّ، فالربّ رحيمٌ، رؤوفٌ، طويل الأناة وكثير الرحمة، وأحكامه لا تُدرَك، فمَنْ يدري؟ ربّما يستمعك. إبقَ هنا وصلِّ بأشد حرارة. وأنا سأذهب إلى البرية الداخلية وسأصلّي بأشد حرارة أيضاً، فهو مُحِب للبشر، وقد يستمعنا!“.

🎗ثم ذهب وركع ورفع يديَه وذهنه إلى السماء، وقال: “يا خالق الكل، يا مَنْ لا تشاء موت الخاطئ، إستمع إلى صلاتي وأشفِقْ على نفسٍ شقيّة تتعذّب في الجحيم. أعتِقها من القيود. أعلم أنّنا غير مستحقّين، ولكنّك أنتَ جزيل الرحمة. أشفِقْ على جبلتك، وتقبّل دموع أبيه”.

🎗وصلّى ساعات طويلة واستمع إليه السيد المسيح، إيفاءً لوعده له.

🎗فظهر للبار وقال له: “ماذا تطلب مني يا عبدي باييسيوس؟”

🎗فأجاب القديس: “أن ترحم نفس الراهب غير المطيع التي تتعذّب في الجحيم! إرحمه يا رب، أنت أكثر رحمةً منّا! إرحمه!”.

🎗فأجاب الرب: “لقد صدر الحكم وينبغي أن يبقى في عذاب الجحيم إلى المجيء الثاني، وعندئذٍ سيُدان على عدم طاعته” وعندما سمع القديس باييسيوس هذا الكلام، سجد لرب المجد، وقال له بتواضع: “وماذا يمنعك أيّها الرب المتحنّن إذا ما أردتَ أن تقوم الآن بمحاكمة هذا الشقي بما أنك ستحاكِم كلّ العالم في يوم مجيئك الثاني؟”

🎗وعندما تفوّه القديس بهذه الكلمات، إنحنى أكثر وانتابته رعدةٌ شديدة وابتدأ يرتجف، إذ كان صوت قوي في داخله مثل الصاعقة يقول له: “أيّها الشقي باييسيوس، مع مَنْ تتكلّم؟

🎗ولكن فيما كان يشعر بشدة تواضعه وأنّه دودة على الأرض أمام الرب، شاهد رؤيا غريبة:
شاهد ملائكةً ورؤساء ملائكةٍ ينفخون بالبوق، وابن الإنسان يظهر آتياً على سحاب السماء بقوةٍ ومجدٍ عظيمَين. وجلس على عرش مجده محتفّةً به طغماتٌ لا تُعَدّ من الملائكة والقديسين. وأحضروا أمامه نفس التلميذ عديم الطاعة. وأمر السيد المسيح بأن يضعوه أولاً في حضن القديس باييسيوس ثمّ في حضن أبيه الروحي، الذي كان في تلك اللحظة يصلّي ساكباً الدموع الغزيرة. وقال الرب: “خُذْ نفس تلميذك، إنّني أهبكَ إياها لقد حرّرتُها من عقالات الجحيم بصلوات عبدي باييسيوس. وسيكون في مكان الأبرار من الآن وإلى الأبد” وبعد قليلٍ التقى القديسان ثانيةً، يتألّقان بالفرح ويمجّدان الرب وهما متأثّران جداً من تحنّنه الفائق الوصف، أذ أنّه يرحم أيضاً المحكومين بالعذاب الأبدي في الجحيم. وقال الشيخ للقديس باييسيوس: “أشكرك يا أخي باييسيوس، فبصلواتك قد خلُصَتْ ليس فقط نفس تلميذي غير المطيع، بل نفسي أيضاً لأنّي لم أكن أستطيع الاحتمال. كنتُ سأسقط في الحزن الشديد وسأضيّع كلّ شيء.

🎗فأجابه القديس: “لا تقُلْ هذا الكلام أيّها الأب. فأنا لستُ شيئاً. ولم أفعل شيئاً حسناً في حياتي أبداً. لستُ مستحقاً أن يستمعني الربّ، ولكنه استمع إليكَ أنتَ فقد أثرتْ فيه تنهّداتك. إنّك بتألّمك من أجل خلاص تلميذكَ صرتَ مشابهاً لمحبة الله للبشر. فهو، بعد أن ابتعدنا عنه وصرنا أعداءً له، أرسلَ ابنه من أجلنا! ومن أجلنا واضعَ نفسه، ومن أجلنا صار تلميذاً مطيعاً حتى الموت. فقد أحبّنا لدرجة أنّه قَبِلَ الصلب من أجلنا، أمّا نحن فكنّا بعيدين عنه، خطأة عديمي التوبة. نعم أيّها الأب، أنتَ تشبّهتَ به وبمحبّته للبشر لا أنا، أنا إنسانٌ خاطئ، غير مستحق لأيّ عملٍ صالح. فلنذهب لكي نشكره ونمجّده من أجل محبّته وتحنّنه”. وركع القديسان وشكرا الله.


(4)
الذكي

🎗 الحقيقة أنه ليس هذا التلميذ فقط عرّض نفسه لخطر الضياع إلى الأبد، بل هناك الكثير من الأشخاص الذين يموتون في حالة أسوأ.

🎗 أبكيتَ؟ أتألمتَ؟ أقلقتَ؟ على أبٍ أو أمٍ أو أخٍ أو أختٍ، من أجل نفسهم المعرّضة للخطر بوجودها في الجحيم؟ هل أسرعت عندها لتجدَ إنساناً باراً لكي يصلي من أجلهم؟ ماذا فعلت؟ هل تنهّدتَ وصلّيتَ وصُمْتَ؟.

🎗 أن تجد شخصاً كالقديس باييسيوس، هذا أمر لا يتوفّر بسهولة ولكن يوجد كهنة. يقول القديس أثناسيوس الكبير: “صلوات القديسين والكهنة هي ذات مستوى واحد وقدرة واحدة أمام الرب”.

🎗 لا تنسَ أنّه بصلوات الكهنة يوزِّع الله حنانه علينا نحن الأحياء، وكذلك على الأموات. إذاً أتّضِعْ واطلبْ هذه الصلوات.

🎗 كان الراهب إسحق يفكّر أنّ الطاعة هي لغير المتعلّمين والأغنياء، حتى لا يقعون في الأخطاء. أما هو فكان يرى نفسَه ذكياً بشكلٍ كافٍ، وذا عقلٍ مفكّر يميّز دون جهد بين الأمور التي كان الرئيس عنده الحق فيها وبين الأمور التي كان الرئيس يُخطئ فيها. ثمّ يطيع فقط في الأمور التي يرى أنّ الرئيس على صوابٍ فيها! أمّا كلّ ما كان لا يعجبه ولا يراه صحيحاً ومنطقياً فلم يكن يطبّقه.

🎗 أحسّ بقية الرهبان في الدير بسرعة بأسلوبه هذا فبدأوا يؤنّبونه، فصارت هذه الحالة تُغْضِبه شيئاً فشيئاً. ووصل أخيراً إلى الشعور بأن الحياة في الدير غير ممكنة! وأخيراً ترك الدير.

🕊 ذهب ووجد قلاّيةً منفردة بجانب المدينة، وكان فكره يقول له بأنّه قد خلُصَ.

🎗 ولكنه أخطأ. إذ إن ثقته بنفسه سهلت على الشيطان خداعه، فنصب له فخّاً رهيباً وأرسل إليه فتاة يهودية، أمّا هو فلثقته بنفسه تهاوَنَ ونسيَ أنّ السقوط لا يأتي دفعةً واحدة بل هو سلسلة طويلة من التطورات في النفس. وهذا ما حصل للأب إسحق.

🎗 شعر أولاً بحلاوة الابتسامة التي غابت عنه زماناً طويلاً في الدير. بعد ذلك وجد في الفتاة حسنَ تصرّفٍ غير مألوف وإسراعٍ في الخدمة. فارتاح لها ثم بدأ اتصالٌ ومعاشرةٌ بينهما، فتحرّك القلب واشتعلتْ المشاعر.

🎗 أخيراً، فهم الراهب إسحق أنّه أخطأ في كونه صار راهباً وقرّر أن يصحّح خطأه، فصحّحه واستُعبِد للمرأة اليهودية لدرجة أنّه أنكر المسيح من أجلها.

🎗 إنّ الشيطان يخشى ثلاثة أمور: الذي نرتديه فوق ثيابنا، أي الصليب الكريم. والذي نغتسل به أي المعمودية المقدّسة. والذي نأكله في الكنيسة، أي جسد المسيح، المناولة الإلهية.

🎗 وإسحق الشقي بعد أن أنكر معموديته، رمى بيديَه الصليب الذي كان على صدره. أمّا بخصوص المناولة الإلهية، فماذا حصل؟

🎗 كانت زوجته اليهودية تكاد تُجَن عندما تفكّر بأنّ شيئاً من بقايا المناولة قد يكون باقياً بين أسنان زوجها. فماذا فعلت؟

🎗 صارت تُمسِك رأسه وتحاول بواسطة خشبة رفيعة تنظيف أسنانه بأفضل وجهٍ لكي لا يبقى أيُّ شيءٍ يمكن أن يربطه بالمسيح.

🎗 هكذا عاش هذا الشقي المرتدّ. وكان يغرق يومياً بعد يوم في الظلام الحالك. إلاّ أنّ الله المتحنّن، الذي لا يريد أبداً موت الخاطئ، بل يشاء أن يحيا، منحه فرصةً للتوبة والخلاص. فدبّر نزول بعض الرهبان إلى تلك المدينة. ولمّا رآهم إسحق شعر بالانسحاق، وتذكّر جمال الحياة الرهبانية والرجاء والفرح الخفيَّين فيها. فذهب إليهم وبدأوا الحديث. واعترف لهم بخطأه الفادح. وتوسّل إليهم أن يصلّوا من أجله. وعلى الأخص أن يتوسّلوا إلى الأب باييسيوس أن يصلّي هو أيضاً كي يمنحه الله القوة لكي يتحرّر من عقالات الشيطان والخطيئة.

🎗 عندما عاد أولئك الرهبان إلى بريّة نتريا، قصّوا كلّ شيءٍ على القديس. فقال لهم: “ليس هو وحده هكذا، أشخاصٌ عظماء كثيرون سقطوا بسبب النساء. لذلك فنحن الرهبان، لا يكفي أن نتضرّع إلى الله لكي ينقذنا من فخاخ الشيطان، بل ينبغي أن نتجنّب بأكثر ما نستطيع الوجوه التي يمكن أن تكون وسائل بين يدَيه. ومنذ ذلك الحين بدأ القديس بالصلاة بحرارة من أجل الأب إسحق. صلّى بأشدّ حرارة قائلاً: “إرحم يا رب جِبْلَتك”. وهل يمكن للرب الذي خلق الأذن ألاّ يسمع؟.

🎗 فظهر للقديس وقال له: “يا باييسيوس أتصلّي من أجل مرتدّ؟ من أجل شخصٍ كان راهباً وصار يهودياً؟”.

🎗 أجاب القديس: “نعم يا رب. أنا أعلم صلاحك، وأعرف عمق تحنّنك، لذلك أتضرّع. أنت الذي صُلِبتَ من أجلنا، إرحم خروفك الضال، وأعِدْه إلى رعيتك”. فقال له مخلّصنا: “سأرحمه وسيخلص. ولكن عليك أن تعلم أنّ كلّ ما سأعطيه إياه، سآخذه من تعبك أنت، من أجرك الخاص”.

🎗 فقال القديس بنخوةٍ: “نعم يا رب، خُذْ منّي كلّ ما تريد” هذا هو القديس باييسيوس. مشابهٌ للمسيح في محبته وتحنّنه على البشر. ولذلك منحه مخلّصنا الجزيل التحنّن تلك الموهبة العظيمة، أي أن تكون له كلّ هذه الدالة أمامه، وأن تصير كلّ صلواته مقبولةً لديه.

🎗 وطبعاً، خلُصَ الأب إسحق، وعاد إلى ديره لكي يجاهد ويصل إلى ما كان يتوق إليه عندما صار راهباً.


(5)
الذات والضلال

إنّ للحياة الرهبانية نعمةٌ كبيرةٌ، ولكنها تتطلّب أتعاباً كثيرة وتتعرّض لأخطار كثيرة. وأسوأ خطر للراهب هو ما يمكن أن يسبّب له السقوط في العُجب.

🎗عند ذاك يتظاهر الراهب بالتواضع ويتخيّل أنّه وحده أهلٌ لمواجهة جميع مصاعب الحياة النسكية دون الحاجة إلى مرشد روحي. وهذا السقوط هو أخطر سقوط للراهب، وهذا ما حدث لأحد رؤساء الأديرة، فقد بدأ يتخيّل نفسه لاهوتياً عظيماً، وحاول أن يفهم عقيدة الثالوث الأقدس منطقيّاً. فَضَلَّ وسَقَطَ في هرطقة محاربي الروح، فقال: “الله هو الآب، وابنه يسوع المسيح هو أيضاً إلهٌ مساوٍ له في الجوهر، أمّا الروح القدس فليس بإله، ولا ينبغي أن نسجد له، ولا أن ندعوه في صلواتنا”. ولم يبقَ هذا الأمر خفيّاً، بل أحدث ضجّة في البريّة. وسمع به القديس باييسيوس فحَزِنَ إذ أنّ ناسكاً وأباً روحياً يكاد يضيّع نفسه! وقرّر أن يقوم بعمل ما لكي يخلّصه. وماذا تظنّون أنّه قد فعل؟.

🕊 صنعَ زمبيلاً له ثلاث أيدي متساوية البعد فيما بينها، وحَمَله، وذهب به إلى الرئيس الضال وقدّمه هديةً له، فنظر الشيخ إلى الزمبيل من كلّ الجهات، وكذلك أصدقاؤه الذين تواجدوا معه واستغربوا! زمبيلاً بثلاث أيدي! لماذا؟ فاستخدامه صعب. وبدأ الجِدَال:

🕊– ما هذا؟

🕊- إنّه زمبيل.

🕊- وكيف صَنَعْتَه بثلاث أيدي؟

🕊 فأجاب القدّيس: “إنّني أثناء قراءتي للكتاب المقدّس، أرى أنّه يتكلّم عن آبٍ وابنٍ وروحٍ قدسٍ، فأردتُ أن أعبّر عن إيماني هذا في كلّ أعمالي، ولذلك صنعتُ الزمبيل بثلاث أيدي. ولكن المشكلة هي التالية: إذا حملته بيد واحدة فقط، أو حتى باليدَيْن، فسوف يميل الزمبيل ويسقط ما بداخله! وفقط عندما أحمله من أيديه الثلاثة، عندئذٍ سأرفعه باتّزانٍ ولن ينسكب ما بداخله. وبالتالي أحصل على النتيجة التالية: بعض المؤمنين بالإنجيل، والذين اعتمدوا على اسم الآب والابن والروح القدس، لا يقبلون بأنّ الله الذي نعتمد على اسمه هو الثالوث القدوس. إلهٌ واحدٌ وجوهرٌ واحدٌ ومُلكٌ واحدٌ، كما أنّ الزمبيل هو واحد، بل ثلاثة وجوهٍ متساوية في الجوهر والرئاسة والعرش. وإنّهم يُخطِئون. فكما أنك لا تستطيع استخدام الزمبيل بواسطة أيديه ما لم تحمله بالأيدي الثلاثة معاً، وإلا سيميل، هكذا كلّ مَنْ لا يقبل بأنّ الروح القدس هو قدّوسٌ، وربٌّ محيي، ومسجودٌ له وممجّد مع الآب والابن، فهو لا يملك فهماً مستقيماً عن الألوهة الواحدة للثالوث الأقدس”.

🕊 وطبعاً هذه الصورة التي استخدمها القديس لم تكنْ كافية لشرح الثالوث الأقدس بأكمله. ولكن القديس باييسيوس قد استخدمها كمدخل، ومن ثمّ أوضح له كلّ نواحي العقيدة بتعليمٍ عميقٍ وافٍ وهكذا فهم الناسك خطأه، وتراجع عن الهرطقة المُضِلّة، وخلُص.

🎗 كان لدى القديس باييسيوس تلميذٌ بسيط جداً، ومطيعٌ جداً. ولذلك فقد كان يرسله إلى المدن لكي يبيع عمل أيديهم.
🎗 وهذا صادف مرّةً في طريقه رجلاً يهودياً، فتحاور معه وتطوّر الحوار بينهما إلى أمور عقائدية. وقال اليهودي: “أستغربُ! ماذا تستفيدون أنتم المسيحيون، إذ تعتقدون بإنسان أنّه المسيّا ابن الله؟ ونحن نعرفه أنّه لم يكن المسيّا ولا ابن الله! لأنّ المسيّا لم يأتِ بعد!”.

فقال الراهب البسيط: “ومَنْ يدري؟ ربما معك حق!”. ولم يستمر الحديث بعد ذلك، إذ افترق كل منهما في طريقه. فذهب الراهب، وباع عمل يدَيْه. ثمّ عاد إلى الدير، وذهب كالعادة إلى القديس ليأخذ بركته، ولكن القديس باييسيوس لم يقبله، وتظاهر بالابتعاد عنه، فحزن التلميذ جداً، وطلب توضيح الأمر من القديس، وقال له: “لماذا تُعرِض عنّي يا أبي؟ لماذا تشمئزّ منّي؟”.

🕊 فسأله القديس: “مَنْ أنتَ يا بني؟”.

🕊 فقال التلميذ: “أتقول أنّك لا تعرفني؟ وهل تغيّرتُ أنا حتى لا تعرفني؟ ألستُ أنا تلميذك؟”.

🕊 قال القديس: “ماذا؟ تلميذي مسيحيٌّ هو، وقد اعتمد، وهو أيضاً راهب. أمّا أنت فليس لديك أيّ شيء من هذا، مَنْ أنت؟”.

🕊 فقال التلميذ: “أنا هو أيّها الأب”.

🕊 قال القديس: “كلا، لا يمكن أن تكون هو. تلميذي معتمدٌ، أمّا أنتَ فَلا. لقد ابتعدَتْ عنكَ نعمة المعمودية. لماذا؟ ماذا فعلت؟ ما هي خطيئتك؟”.

🕊 فقال التلميذ: “لم أفعل شيئاً يا أبي”.

🕊 قال القديس: “لم تفعل شيئاً! اذهب من أمامي أيّها المرتدّ! لا أشاء أن أتكلّم مع إنسان قد أنكر المسيح”.

🕊 فترقرقت عينا التلميذ بالدموع وقال: “ما هذا الذي تقوله يا أبي؟ أنا أنكرتُ المسيح؟!”، وبدأ بالبكاء والتنهّد، فتأثر القديس، وفهم بأنّ شيئاً ما قد حدث له، ولكنه لم يدركه بسبب بساطته، فجلس بحنانٍ بقربه، وسأله بلطف:

🕊– هل صادفتَ أحداً في طريقك أثناء ذهابك؟

🕊– نعم، صادفتُ يهودياً.

🕊– وماذا قال لكَ؟

🕊– قال لي أنّ المسيح ليس المسيّا، ولا ابن الله! وأنّنا مخطئون بالإيمان به.

🕊– وأنتَ ماذا أجبته؟

🕊– لم يعجبني الحوار، فقلتُ له كي أتخلّص منه وأُنهي الحوار: “ومَنْ يدري؟ ربما معكَ حق!، هذا كلّ شيء، ثمّ افترقنا!.

🕊– وهل تظنّ أنّه يوجد جواب أسوأ من ذلك؟ كان بإمكانك أن تجيبه! إنّك بكلامك هذا قد أنكرتَ المسيح! وهل يوجد أمر أشنع من هذا؟ إعلمْ أنّه من أجل ذلك قد فارقتكَ نعمة المعمودية منذ تلك اللحظة، لأنّ الذي ينكر المسيح يفقد كل رباط معه.

🕊 فإذا كان إنسانٌ قليل العقل، وفي تلك الظروف، قد خسر نعمة المعمودية واعتُبِر من قِبَل الله ناكراً لإيمانه، لأنّه عبّر فقط بكلامه عن شكٍّ في ألوهية مخلّصنا يسوع المسيح، فكيف يمكننا أن نتخيّل أنّه يمكن أن يرحمنا الله في ظروفٍ أخرى؟

🎗أمّا ذاك الراهب الشاب فأدرك خطأه، وبتوبته صار مقبولاً من جديد في رعيّة المسيح، وعادت إليه نعمة المعمودية.


(6)
المستهزئ

🎗كان يقيم بجانب القديس ناسكٌ شاب، وكان مجاهداً، إلاّ أنّ الأفكار الجسدية كانت تعذّبه. فذهب للاعتراف لدى القديس باييسيوس وتوسّل إليه أن يساعده بإرشاده وبصلاته، قائلاً:” ييروندا، إنّ الشياطين تحاربني بشدّة”.

🎗فأدرك القديس للحال بماذا أخطأ هذا الناسك، وقال له:” انتبه يا بنيّ. فالشياطين لا تحاربك، ولكن أنتَ الذي تعرّض نفسكَ لحرب الزنى لأنّك تريد ذلك، وأنتَ تجمع أفكار الزنى برغبتك! فاذهب إذاً، وتعلّم أن تحارب الأفكار بحكمة. أن تطردها، لا أن تجمعها كما كنتَ تفعل حتى الآن. وإذا لم تنتبه فسيأتي الشيطان ويزعجك، وعند ذاك ستفهم ما معنى حرب الشياطين”.

🎗ولم يتأخّر الوقت حتى أقام الشيطان ضدّ الناسك حرباً شعواء، إلاّ أنّ هذا كان قد انتهج الأسلوب السليم وأسرع كالعصفور المطارَد من قِبَل النسر، إلى أبيه الروحي، إلى القديس باييسيوس، وقال له بأنّ الحرب تضاعفت عليه.

🎗فتنهّد البار وقال:” أيّها الرب يسوع المسيح لاتترك جبلتك للضياع! قيّد الشيطان ولا تسمح له بمحاربة عبدك”. فصارت صلاة القديس جداراً حاجزاً أمام الشيطان، وانتصر الشاب الذي تعلّم كيف يجاهد.

🎗إنّ صلوات الآباء القدّيسين هي بمثابة سور لا ينهدم في الحرب الروحية.

🎗وقع أحد الرهبان الكهنة في دير القديس باييسيوس، في كسلٍ روحي، وصار عديم الانتباه إلى أقواله وأعماله، و أخذ يحتقر كلّ شيء. فكان عندما يرى رهباناً يذهبون للاعتراف لدى الأب البار، يضحك ويستهزئ بهم ويسخر منهم، وكان يهزأ ويسخر منهم بكل ما يحدث حوله. أمّا القديس باييسيوس، فقد اتّخذ موقفاً غريباً، إذ أظهر طول أناةٍ شديدة وصبراً كبيراً، ولكن لماذا؟.

🎗موقفه هذا لم يكن يفسّر، ولذلك تذمّر رؤساء الدير عليه وذهبوا للاسترشاد بأبٍ روحيّ كبير، وشرحوا له الأمر وبيّنوا له المخاطر المتوقّعة. فوافقهم هو على رأيهم وذهب معهم لينصح القديس باييسيوس. وقال له:” ألا ترى الهاوية التي يُقدم إليها هذا الإنسان؟ كيف تحتمله؟ ألا تعلم أنّه سيصبح معثرة لكل الأخوية. فكثيرٌ من الأشخاص الضعفاء يريدون القيام بنزهة إلى الهاوية وأنت المسؤول. أوقِفه عن غيّه وعاقبه. ضع له قانوناً! وإلاّ فاعلم بأنّك ستقدّم جواباً لله وستحتمل العقوبة أنت!”.

🎗فأجابه القديس:” إنّني أعلم الحالة وأعيشها، وهي تعذّبني ليلاً ونهاراً. ولكن ماذا أفعل؟ إذا عاقبته لن يفهم. والشيطان من جهة، ينتظر أم يجد فرصة لكي يجرّه إلى الضلال. وذاك الشقي من جهةٍ أخرى ينتظر سبباً، أن يسمع ولو كلمة قاسية لكي يغادر الدير، مرة وإلى الأبد، ويعود إلى العالم! فماذا تقول أيّها الأخ؟ أأطرده؟ أليس من الأفضل أن نصلّي معاً لكي يهديه الرب؟”. واتّفق الشيخان وصلّيا معاً صلاةً كثيرة.

🎗ولم تتأخّر استجابة الرب فقد عاد الأخ المستهزئ إلى رشده، وذهب إلى البار للاعتراف بدموعه أكثر من كلامه، وقطع كلّ عاداته السيئة، وأصلح مسلكه وصار نموذجاً للحياة الروحية الصحيحة. لقد خلّصه القديس بمماثلته المسيحَ في طول الأناة والصبر والاحتمال.


(7)
غسل رجل المسيح

🎗إنّ الرهبان يحرصون في كلّ وقت على التشبّه بإبراهيم في الضيافة قدر ما يستطيعون.

🎗 وكان القديس باييسيوس راهباً عديم القنية بالكليّة. فلم يكن لديه ما يقدّمه للضيوف، ولم تكن لديه خيرات إبراهيم، فكان يقوم بضيافة الغرباء بواسطة تواضعه، يغسل لهم أقدامهم بيدَيْه وينشّفها، وكان يقبّلهم.

🎗 وفي إحدى الأيام زاره ثلاثة أشخاص يبدو عليهم الفقر الشديد والمهانة، وكالعادة، جلب القديس الماء وبدأ بغسل أرجلهم وهو يقدّم لهم كلام المحبة والإكرام والتعليم الروحي. وفجأةً، انحنى الرجل الذي كان يغسل له رجلَيه واحتضن القديس بحنان وقبّله بعذوبة، فاستغرب القديس، واستدار ليرى، فشاهد المخلّص الرب يسوع المسيح بمجدٍ يقول له: “السلام لكَ يا عبدي المختار باييسيوس“، واختفى.

🎗 عندما شعر القديس بما حدث، أحسّ بقلبه يحترق! وإذ عرف رجلَي مَنْ قد غسل، شَرِبَ من هذا الماء، ماء رجلَي الرب، لكي يحصل على نعمةٍ للقديس. ولكنّه لم يشربه كلّه، بل احتفظ بالقليل منه لتلميذه الذي كان غائباً.

🎗 ولّما عاد التلميذ، وكان تعباً جداً، قال له: “أأنتَ عطشان؟ إذهب واشرب من الماء الموجود في الوعاء”.

🎗 فأجاب التلميذ: “ليكن مباركاً!”، ولكنه لم يقل هذا من قلبه ولم يشرب، إذ قال في داخله: “ماذا سأشرب؟! ماءً وسخاً. وبعد كلّ هذا التعب! أهذه وصية أب؟!” واعتقَدَ بأنّ فكره صائب.

🎗 فعاد القديس وقال له: “هل شَرِبْتَ يا بنيّ؟”.
🎗 فأجاب: “ليس بعد”.

🎗 فقال القديس: “إشرب الماء الموجود في الوعاء”.
🎗 فأجاب: “إنّني ذاهب” ولكن بلهجةٍ فظّة. ولم يذهب. وتحجّر في داخله الفكر القائل: “يا لها من وصية أبٍ!”.

🎗 فقال له ثالثةً: “إذهب يا بنيّ، وافعل ما قلته لكَ”. ولكنه لم يُطِع أيضاً. فقال له القديس بحزنٍ: “آهٍ، لو عَلِمتَ يا بنيَّ، ما هي النعمة التي حُرِمتَ منها بسبب عدم طاعتك”.

🎗 عند ذلك، ولأوّل مرّة، فكّر التلميذ بأنّه ربما أخطأ إذ صدّق فكره. وفكّر بتصرّف أبيه الحسن، فندم، وذهب ولكنه رأى الوعاء جافاً!”. فبدا له الأمر أشدّ سوءاً. وفكّر: “يا لها من حالة! أيهزأ بي أيضاً؟!”. فعاد متذمّراً، وقال: “يا أبي، لا يوجد شيء، الوعاء جافّ!”.

🎗 فأجابه القديس: “طبعاً يا بنيّ، لقد جفّ. لأنّ قلبك قد جفّ أوّلاً. وثقتكَ بفكرك، جعلتك تخسر نعمة الله. لقد نسيْتَ، ولو لفترةٍ
قصيرة، أنّ الطاعة حياةٌ، وعدمَ الطاعة موت”.

🎗 فسأله التلميذ: “ولكن ماذا كان ذاك الماء؟”.

🎗 فقصّ عليه القديس باييسيوس كلّ شيء. ففهم التلميذ ولكن متأخّراً، وندم، وبدأ يبكي. فقال له القديس: “آدم أيضاً لم يُطع فخسر الفردوس. وأنتَ كذلك، لم تسمع لي، ووثقتَ بفكرك، فخسرتَ البركة. ولكن لا تحزن، أصلِحْ فكرك، وضَعْ في أعماق قلبك أنّ الطاعة حياة، والله سيرحمك”.

🎗 فتقبّل التلميذ كلام معلّمه، وهدأ قلبه. لكنه كان يتذكّر خطأه باستمرار فيستولي عليه الحزن، ويقول في نفسه باستمرار: “لماذا فعلتُ هذا؟”. وإذ لم يحتمل، ذهب واعترف بأفكاره لدى القديس البار،
قائلاً: “يا أبي، إنّ أفكاري لا تدعني أهدأ. لا أستطيع أن أحتمل، كيف فعلت هذا؟ أصابني اليأس! إمنحني بركتك لكي أذهب إلى شيخ آخر، كي أعترف، فينصحني، كي أتحرّر من أفكاري. أمّا القديس باييسيوس، فبما أنّه أبٌ روحيّ مختبِر، علِمَ ما هي مشكلة تلميذه. لقد فقد ثقته بأبيه الروحي. وإذ أراد أن يساعده بعد أن عَلِمَ أنّ أقواله لم تعد نافعة له، قدّم لتلميذه قطعة خبز صغيرة، وقال له: “خُذْ هذه الخبزة، واذهب إلى الإسكندرية إلى الباب الفلاني، وإلى الشارع الفلاني! جوار السور، ستجد هناك فقيراً جالساً مثل أيوب، قرب كومةٍ من النفايات يهزأ به الأولاد ويرمونه بالحجارة. أعطِهِ هذه الخبزة، وقُلْ له مَنْ أرسلك. واسمعْ نصيحته بتواضع.

🎗 فأخذ التلميذ الخبزة وذهب، ولكنه عندما وصل إلى المكان الذي أرشده إليه القديس، اندهش لأنّه لم يكن يصدّق بأنّه سيرى كلّ شيء كما وصفه له القديس.

🎗 فقد وَجَدَ الفقير جالساً قرب المزبلة والأولاد يضحكون عليه، ويرمونه بالحجارة، وكانت حالة ذلك الفقير سيئة لدرجة أنّ التلميذ لم يستطع الاقتراب منه إلاّ بعد مغادرة الأولاد له. ولّما رأى الفقيرُ الراهبَ، قال: “تعال يا بنيّ! إنّني أنتظرك. أعطني البركة التي أرسلها لي أبوك الروحي”. ثم أخذ الخبزة وقبّلها، وقال له: “كيف هو الأب بابيسيوس؟ أودُّ كثيراً أن أراه. ولكن عليك أن تعلم أنّك لا تفعل حسناً في عدم طاعتك له. إنّ الثقة بفكرنا هي السبب في خسارتنا لكل المواهب الإلهية. ألَم تتّعظ ممّا أصابك؟ أما زلت تثق بفكرك، وتحتقر وصايا أبيك الروحي، ذاك الشيخ القديس، وتبحث عن آخر لتستمع إلى نصائحه؟ بين يديَك ماء كليّ النقاء والعذوبة وتسرع إلى البريّة باحثاً عن الماء! عُدْ إلى أبيك. واعلم أنّ كلّ مَنْ لا يسمع لأبيه، هذا، حتى ولو جاء المسيح نفسه إليه، وقال له شيئاً ما، فإنّه لن يسمع له”.

🎗 فعاد التلميذ متأثّراً جداً، ولفترة من الزمان أظهر توبته الخالصة في كلّ شيء. ولكن لسوء الحظ، لم يستمر الوضع مدةً طويلة. فقد عادت الأفكار ثانيةً، ومعها الحزن واليأس وعدم الطاعة. فذهب من جديد إلى القديس باييسيوس وطلب منه السماح له بالذهاب للاسترشاد بذاك المتباله من أجل المسيح في الإسكندرية.

🎗 سمع القديس طلب تلميذه، لِما تميّز به من التسامح والحكمة، وقال له: أرى أنّك تميل لطاعته هو فقط. إذهب، ولكنك لن تراه في مكانه. إنّه الآن في مغارة كبيرة، سترى وأنت داخلٌ إليها، أجساد ثلاثة رجال راقدين بالرب ينتظرون القيامة. هؤلاء الثلاثة هم قديسون ذوو موهبة النبوءة، وقد عَلِمُوا يوم نهاية حياتهم، وذهبوا بمفردهم ورقدوا هناك. قف مقابلهم بوقار، وقُلْ للراقد في الوسط: “إنّ عبد المسيح باييسيوس، يأمركَ بقوة المسيح الذي أقام لعازر، أن تعود إلى الحياة قليلاً، لتقول لي ما ينبغي عليَّ أن أفعل، وما المناسب لي لكي أقوم به؟”.

🎗 فذهب التلميذ، ووجد المغارة والقديسين الثلاثة الراقدين فيها. فوقف يتوسّل أمامهم، وبارتعادٍ نفّذ وصية البار.

🎗 ويا للعجب! قام الميت للحال، وقال له: “ألَمْ أقُلْ لكَ؟ عليك أن تسمع لأبيك الروحي. لماذا لا تسمع لي؟ يجب أن تفهم، أنّه إذا كنتَ تريد الخلاص، عليكَ أن تطرد من داخلك كلّ فكرٍ يحتقر كلامه ووصاياه، لأنّ كلّ مَنْ يثق بفكره، ولا يقبل نصائح أبيه الروحي، يخالف وصية المسيح”. قال هذا، ثم رقد ثانيةً. ومنذ ذلك الحين، هدأ التلميذ، وفهم أنّه ينبغي ألاّ يثق بفكره.


(8)
فخ رهيب

🎗 ذهب أخَوان شابان إلى أحد الأديرة، وكانا مجاهدَيْن، وتقدّما بسرعة. ولقد سمح الرئيس لهما بالعيش كنسّاك من أجل منفعةٍ روحيةٍ أكبر. إلاّ أنّ الشيطان نصب لهما فخّاً رهيباً.

🎗 أضاع ناسكٌ آخر أغراضه ولم يجدها. وبدل أن يسكن هادئاً، تصرّف كما يفعل العلمانيّون الذين يذهبون إلى السَحَرة. فذهب إلى ناسكٍ معروف بنبوءته، فقال له: “لقد سرق أغراضكَ الأخوان الشابان الناسكان، فاذهب ولا تتردّد في استخدام أي أسلوب قاسٍ لاستعادتها”. ومنذ ذلك الحين، أخذ يشيِّع في كلّ البرية، بأن الأخوَين الشابَّين سارقان. فطلبوا منهما إعادة الأغراض المسروقة، ولكنهما لم يستطيعا إعادة شيء لأنّهما لم يسرقا شيئاً وهكذا وصل الأمر إلى رئيس دير اللافرا، وهو بدوره أمر بالقبض عليهما، ووضعهما في السجن.

🎗 وصلت الأخبار بسرعة إلى مسامع القديس باييسيوس. فانطلق وذهب إلى اللافرا، وسأل مستفهِماً: “ماذا يفعل نسّاكنا الشبّان؟”

🎗 فقالوا له: “أيُّ نسّاك؟! إنّهم نشّالون!”.
🎗 فقال القديس: “ومَنْ قال لكم هذا، أنّهم نشّالون؟”.
🎗 فأجابوه: “الأب ( فلان )، الذي لديه موهبة التنبؤ”

🎗 فقال القديس: “كيف عرفتم أنّه يملك موهبة التنبؤ؟” وانطلق الجميع معاً إلى الشيخ. فسأله القديس باييسيوس: “أحقاً أيّها الأب، أنّ الراهبَين الشابَّين هما سارقان؟ وهل أنت متأكّد من ذلك؟”

🎗 فأجاب الشيخ: “بالتأكيد!”

🎗 فسأله القديس: “وكيف أنت متأكّد؟”
🎗 أجاب الشيخ: “شاهدتُ رؤيا. لديّ إيحاء!”

🎗 فقال القديس بحزنٍ: “وهل أنتَ متأكّد أيّها الأب أنّ هذا الإيحاء هو من الرب؟”
🎗 فقال الشيخ: “إذاً ومن أين يمكن أن يكون؟”

🎗 فقال القديس بحزنٍ أكبر: “لو كان الإيحاء فعلاً من الله ، لَمَا بدا الشيطان في فمك!”

🎗 فاندهش الشيخ. وأضاف القديس: “شابّان انطلقا من أجل ملكوت الله، وقد أصابهما شرٌّ وإدانةٌ وقساوة، وكلّ ذلك بسببك! إنّ الشيطان يرقص في البريّة نتيجة مشورتك، وأنتَ تعتبرها من الله؟ ألا تقنعك النتائج ما هو مصدر هذه الرؤيا؟”

🎗 وعندها أدرك الشيخ أنّه صار ألعوبة بين يدَي الشيطان، وطلب المسامحة. فأمر القديس باييسيوس بأن يتبادل الجميع قبلة المحبة والسلام والتسامح، لكي يخزى الشيطان وتنسحق فخاخه. وبعد ذلك، أمَرَ القديسُ الراهبَ الذي ادّعى السرقة، أن يبحث جيداً في قلايته عن أغراضه. فبحَثَ، ووجدها حيث كان قد أخفاها بنفسه ونسيَ فيما بعد أين وضعها.

🎗 وعلِمَ الجميع كم هي لئيمةٌ فخاخ الشيطان.


(نبذة عن حياته)

🎗عاش القديس باييسيوس سنوات كثيرة، وصار شيخاً طاعناً في السن. ولكنه لم يقلّل من جهاده النسكي بسبب شيخوخته وضعفه. فقد شاخ الجسد وضَعُفَ إلاّ أنّ ذهنه بقيَ شاباً. وكان يبتكر في كلّ يومٍ جهاداً جديداً، ليس روحياً فقط، بل جسدياً أيضاً. كان يقول: “اليوم ينبغي أن نقوم بشيءٍ أكثر، وشيءٍ أفضل ممّا فعلناه البارحة“. هذا كان شعاره الدائم واليومي، وكان يقوله ويعمل به.

🎗 كانت للقديس باييسيوس في شيخوخته، علاقة وثيقة مع القديس بولس تلميذ القديس أنطونيوس. كانا يتحادثان ويجاهدان معاً، متّفقَين في كلّ شيء ومتواضعَين. وكان القديس باييسيوس يقول: “طالما أنّ أعيننا مفتوحة، علينا أن نفعل شيئاً. يجب ألاّ نقف. الرب لا يرضى أن نخفّف من شوقنا إلى النسك بدافع الشيخوخة، وبحجّة أنّنا لم نعد نحتمل. لأنّه عندما كان الموت لا يزال بعيداً، كنّا نقوم بكل تلك الجهادات والأتعاب. فكم بالحري الآن ونحن ننتظره لحظةً بعد لحظة. يجب ألاّ نظهر متكاسلين. يا للخجل وياللخزي أمام الملائكة! هذا ما سيحدث.”

🎗 فأضاف القديس بولس: “إنّ كلامك لَمقدَّس، وهكذا ينبغي أن نفعل. ألاّ نتراجع أبداً، دائماً نحو الأمام وفقط إلى الأمام. مع صلاة كثيرة وحارّة. لكي يؤهّلنا الرب، أن نُنْهيَ حياتنا في العمل بوصاياه.

🎗 في تلك الأيام، طلب الأنبا بيمين أن يرى القديس باييسيوس. وكان وقتئذٍ الأنبا بيمين شاباً بعد. فذهب إلى القديس بولس، وتوسّل إليه قائلاً: “لستُ مستحقّاً أن ينشغل بي، ولا أن يقبلني، يكفيني أن أقبِّل باب قلايته. والتراب الذي يمشي عليه. ..” فتعجّب البار بولس من تواضعه. فأخذه إليه. وعندما وصلا لم يدخل بيمين معه لأنّه خَجِلَ أن يدخل إلى القديس هكذا فجأةً وهو لا يزال شاباً ، فسأله القديس باييسيوس: “أين هو بيمين؟”

🎗 أجابه بولس: “لقد بقيَ في الخارج، إنّه شاب ويخجل”.

🎗 عند ذاك قال القديس باييسيوس الكبير: “هل يجوز أن يكون بابي صعباً أمام إنسان سيفتح الرب أمامه باب السماء على مصراعيه؟” وخرج بسرعة واحتضن الشاب بيمين، وقال: “تذكّر يا بولس، هذا الشاب سيساعد كثيرين في الذهاب إلى الفردوس” ثمّ بارك الأب بيمين بيده المكرّمة.

🎗 ذهب مرّة الأب يوحنا كولوفوس إلى القديس باييسيوس وبعد قليل تبعه رهبان آخرون جاؤوا لكي يستمعوا إلى أقواله الروحية من أجل فائدة أنفسهم وسألوه: “أيّها الأب، قُلْ لنا كلمة”.

🎗فقال القديس باييسيوس: “حافظوا على تقليد الآباء بدقة، ولا تطلبوا أبداً أن تفعلوا شيئاً إضافياً عليه، ولا أن تنقصوا شيئاً منه وممّا سلّموكم إيّاه”

🎗 وسألوه أيضاً: “أيّة فضيلة هي الأعظم؟“.
🎗 فقال: “تلك التي تصير في الخفاء”.

🎗 فسألوه أيضاً: “قُلْ لنا أيّها الأب. ما هي الفضيلة العظمى؟”
🎗 فأجاب: “أن تسمع آراء ونصائح الآخرين بتواضع، وألاّ تتشبّث برأيك وإرادتك”

🎗 إنّ حكمة القديس لبسيطةٌ هي، ولكنها مملوءة من نعمة الروح القدس، فهي حكمة من العلاء. وحكمة القديس باييسيوس كانت تتلخّص بأمور قليلة:

🎗 كان يحاول أن يحدّد في كلّ مرّة ما يتوجّب عليه فعله في تلك اللحظة. وكان يتذكر في ذهنه دائماً قول سليمان الحكيم: “لكل شيءٍ وقته”، ويسعى أن يقضي كلّ أوقاته بشكلٍ مرضيٍّ لله ومثمر.

🎗 كان يصلّي منفرداً وحده، ويدرس كلام الله.

🎗 كان يحاول في علاقاته مع الآخرين، إمّا أن يستفيد أو يفيد، من أجل الخلاص الأبدي.

🎗 لم يتوقّف لحظة واحدة عن الخوف من خطر المجد الباطل، الذي يتولّد من مدح الناس. كان يتجنّبه بعناية، وذلك بالاحتفاظ بفضائله سرّاً في الخفية. لم ينسَ أبداً أنّ الذين يؤخَذون بالمجد الباطل ويطلبونه، يحصلون على ثمار قليلة جداً من أتعابهم، لأنّ المجد الباطل يبدّد كلّ ثمار الفضائل.

🎗 رقد القديس باييسيوس على الأرجح عام ٤٠٠ م، عن عمر يناهز مائة عام. وقام الرهبان أولاده الروحيون بدفن جسده بإكرام. وصعدت نفسه المقدّسة إلى السماء لتحظى بإكليل المجد من يد الرب. ومنذ ذلك الحين، وكنيسة المسيح تكرّمه وتلقّبه بـ”الكبير”، لأنّه اقتنى فضائل كبيرة، واكتسب مواهب عظيمة. وفي السماء تتضاعف كلّ هذه المواهب التي كانت له على الأرض، وخاصةً دالّته. فإذا كان الرب يستجيب لكلّ صلواته وهو على الأرض، فكم بالحري الآن وهو في مجده، يصنع العجائب للذين يتوسلون إليه.

🎗جثمانه المقدّس محفوظ في دير نتريا المدعو باسمه، أي في دير القديس باييسيوس، وهذا الدير هو اليوم من أكبر أديار مصر.

🎗 تعيّد له الكنيسة الأرثوذكسية في التاسع عشر من شهر حزيران 🎗

📘 من كتاب القديس البار باييسيوس الكبير ✨
📘 تأليف القديس يوحنا كزلوفوس ✨

📘 نسخت بيد ملفينا قزما