الحكومة الأولى بعد نهاية الدولة ( جهاد الزين )
الأزمة المنفجرة حاليا في لبنان أزمة عميقة جداً إلى حد أنها تطرح مدى قابلية الشكل الحالي للدولة اللبنانية المعمول به منذ العام 1926، للاستمرار.
منذ عام 1926 لم “تصعد” طبقات- عبر توسّع وتوسيع الدولة- فقط بل طوائف أيضاً، وغالباً ما ارتبطت الموجتان ببعضهما بعضًا.
كان تاريخُ توسّعِ الدولة كما في معظم الدول الحديثة النشوء أو الجديدة الاستقلال، تاريخَ اتساعِ الطبقة الوسطى. هذا ما حصل في العالم العربي في دول مثل مصر وسوريا والعراق ولبنان والجزائر.لكن الفارق عن لبنان أنّ صعود الطبقة الوسطى حمل معه في تلك الدول دورًا سياسيًا للجيوش بينما في لبنان وبسبب الحفاظ على طابع نظامه الخدماتي استقرّت الطبقة الوسطى على تحولات مدنية وطائفية كان يغلّفها ويديرها نظام محاصرة – محاصصة طائفي يمنع أي مركزة وبالتالي ديكتاتورية للسلطة.
لم تُعتقل مؤخراً ثروات الطبقة الوسطى في خزائن المصارف فحسب بل كان ذلك نتيجة فقدان الطبقة السياسية بعد 25 عاماً على موجة نهب للمال العام وتوسيع زبائني غير مسبوق للقطاع العام، فقدانها قدرتها على الاستفادة من مصادر الدولة الناضبة كالمعدة المتسمِّمة بشراهتها نفسها.
نحن حاليا أمام نوع من موت الدولة اللبنانية. موت شكل من أشكال فعاليتها. سيسمح ذلك بعودة ظهور دعوات للفدرالية أو للاتحادية أي إلى إعادة رسم الحياة السياسية على صيغة مختلفة للدولة. أي سيرد المجتمع اللبناني الطوائفي على أزمة الطبقة السياسية وأزمته وأزمة الدولة ، وهي كلها مجتمعة معاً، بتصور للفكاك تقوم به طوائف عن طوائف.
لكن موت الدولة شهد أيضًا أكبر حركة شبابية لاطائفية في تاريخ “لبنان الكبير” تتجسّد حالياً في المسمى الحراك المدني الذي يقارب أن يكون ثورة فعلية ولها شخصيتها الخاصة عالمياً.
هل من الممكن بعد إنقاذ هذه الدولة؟
ربما عاشت “الجثة” طويلاً لكن في ظل أزمة عميقة من المرجّح لا أن تطول زمنيًا فحسب، بل تزداد استفحالا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا يحيط بها حفارو قبور لا يريدون حفرها خوف أن يسقطوا فيها.
ها نحن مع هذه الحكومة الجديدة التي تضم كفاءاتٍ عاليةَ المستوى أمام محاولة يائسة للعلاج ستصطدم بها أي حكومة وليس حكومة الدكتور حسان دياب وحدها، في ظل الانغلاقَيْن الداخلي والخارجي وخصوصاً الثاني المتولِّد عن الصراع الإيراني الأميركي والصراع الإيراني الخليجي.( بالمناسبة من المستغرَب أن يسمح أذكياء الحكومة بمرور هذه الهفوة التي تضع وزارة الثقافة مع وزارة الزراعة بما أحدث مجانا ثغرة دعائية طريفة ضدها كان يمكن الاستغناء عنها )
لا يخاف الخارج على الكيان اللبناني مثلما نخاف نحن أهله، وقد أورثنا التفكُّكُ الداخلي المزمن عوارض خوف مَرَضيّة. الخارج، يفصل، كما دلّت التجربة في الحرب الأهلية 1975-2000، بين أزمة الدولة وبين الكيان.نحن هنا في الداخل نربطهما.
أخبرني صديق نقلاً عن سفير دولة كبرى في بيروت أنه (أيُّ السفير) يعتبر أن لبنان دخل حاليا مع اندلاع أزمته الاقتصادية مرحلة الانتقال إلى الجمهورية الثالثة. لا يهم التعداد هنا، جمهورية ثالثة أو رابعة، المهم أن جمهورية جديدة تولد بنظره. لكن قد يكون السفير المشار إليه متفائلاً بحداثة أو ديموقراطية التحولات اللبنانية، من حيث القدرة على تغيير الطبقة السياسية وهو ما ليس أكيدًا أمام وحشية التركيبة الحالية التي أفقرت المجتمع إفقاراً غير مسبوق يمكِّنها من تطويعه كما تراهن.
السؤال في هذا المنحى الجنائزي هو إلى متى تستطيع الدولة اللبنانية دفع رواتب موظفي القطاع العام؟
القطاع الخاص مستنفَدٌ ورواتبُهُ إما متوقفة أو متقلصة أو منهوبة. لكن إذا استمر شحّ المداخيل الضريبية و الخدماتية فمن أين يأتي دفع الرواتب للقطاع العام: دولة مفلسة، حيث يحمل الإفلاس معنى الموت. فلنرَ ماذا تستطيع أن تفعل الحكومة الأولى في الجمهورية – الدولة الميتة؟
كل التمنيات بالتوفيق لأن نجاحها يعني بدء إنقاذنا جميعاً.
المصدر: النهار