تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لشهادة الكتاب للمسيح ( يوحنا ٥: ٣٩-٤٧ )
“وليست لكم كلمته ثابتة فيكم،
لأن الذي أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به”. (38)
وإن كنتم تؤمنون بالكتاب المقدس وما يحويه من نبوات إلاَّ أن قلوبكم غير ثابته في الكلمة. تنطقون بها بألسنتكم، وترفضها قلوبكم، لأنه إذ تحققت النبوات بمجيئي لم تقبلوني. إنكم تقتنون الكتب لكنكم ترفضون خلاصكم. على نقيض داود النبي القائل: “خبأت كلامك في قلبي لئلا أخطئ إليك” (مز ١١٩: ١١).
“فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية،
وهي التي تشهد لي”. (39)
كأنه يقول لهم: “لا يكفي أنكم تفتخرون باقتنائكم الكتب، وأنكم تقرأونها، إنما يلزم أن تفتشوا فيها باجتهاد لتتمتعوا بخلاصكم وحياتكم الأبدية، فإن جميعها تدور حول مجيئي إليكم”. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن العبارة هنا تشير إلى الذين يبحثون عن المعادن النفيسة في بطن الأرض، يحفرون المناجم ويبحثون باهتمام عن المعدن النفيس حتى يجدوه.
استخدم السيد المسيح هذه النبوات في حديثه مع تلميذيه اللذين كانا في طريقهما إلى عمواس يوم قيامته: “ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب” ( لو 24: 27).
ويوجهنا القديس بطرس الرسول إلي هذه الشهادة الحية فيقول: “وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضع مظلم، إلي أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم، عالمين هذا أولاً أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص، لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2 بط 1:17-21). كما يقول: “الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم، باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها” (1 بط 1: 10-11).
أرسل المسيح اليهود إلى الكتب ليس للقراءة العادية لها، لكنه أرسلهم ليبحثوها بحثًا بليغًا متصفحًا، لأنه لم يقل اقرأوا الكتب بل قال: “فتشوا الكتب“، لهذا يأمرهم أن يتعمقوا فيها، لأن الأقوال التي قيلت عنه تحتاج إلى اهتمامٍ كبيرٍ ليمكنهم أن يجدوا الفوائد الموضوعة في أعماقها. ( القديس يوحنا الذهبي الفم )
نقول بالصدق أن الفهم اللفظي للنص يكفى كما في حالة موسى الذي أصدر قانون الفصح. يؤكل اللحم الظاهر ولكن يترك ما يختفي داخل العظم (خروج 9:12). فإذا رغب أحد في النخاع المختفي للنص، لنتركه يبحث عنه عند ذاك الذي يكشف عن الأسرار المختفية لمن هم يستحقون. إلا أننا يجب أن لا نعطى الانطباع على أننا سنترك النص دون اختبار وتمحيص، وسوف لا نهمل أمر اللّه، الذي يحفزنا على أن نفتش الكتب (يو 39:5). ( القديس غريغوريوس النيسي )
“ولا تريدون أن تأتوا إليّ لتكون لكم حياة”. (40)
انهم يبحثون في الكتب المقدسة في غير إخلاص، فيقدمون دراسات وتفاسير وهم متجاهلون جوهر الكتب، شخص المسيا، إذ لا يريدون أن يلتقوا به ويؤمنوا به ليتمتعوا بالحياة.
“مجدًا من الناس لست أقبل”. (41)
لم يطلب منهم هذا عن احتياج إلى تكريم منهم، فإن خلاص الإنسان لا يضيف إلى الله شيئًا، ولا هلاك الإنسان يسيء إلى الله، إنما مسرة الله محب البشر هو بنيان الإنسان ومجده الأبدي.
“ولكني قد عرفتكم أن ليست لكم محبة الله في أنفسكم”. (42)
لقد قاوموا السيد المسيح تحت ستار غيرتهم على الله وعلى مجده وعلى ناموسه، وأنهم يدافعون عن الحق الإلهي، لأن يسوع كاسر للناموس ومجدف، حيث يساوي نفسه بالآب. ها هو يكشف لهم أعماقهم أنهم لا يحملون حبًا صادقًا لله ولا غيرة على اسمه ومجده وناموسه، فإنه لو كان لهم هذا الحب لكانوا عرفوا بالحق من هو يسوع، وأدركوا شخصه وعمله. لم يكن ممكنًا لشخصٍ آخر أن يتجاسر ويعلن ما أعلنه السيد أن محبة الله ليست في قلوبهم.
يقول قائل للمسيح: لِم تقول هذه الأقوال؟ يجيب: “أقولها حتى أوبخهم، لأنهم لم يطردونى لأجل حب الله. إذ كان الله يشهد لي بأفعاله وأنبيائه لأنهم على نحو ما ظنوا قبل هذا الوقت أنني ضد لله فطردوني، كذلك الآن منذ أريتهم هذه المعجزات وجب عليهم أن يبادروا إليّ لو أنهم أحبوا الله إلا أنهم لم يحبوه”. ( القديس يوحنا الذهبي الفم )
“أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني.
إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه”. (43)
يرى القديس أمبروسيوس مع تمايز الأقانيم وجود وحدة في الاسم الإلهي، لهذا يتم العماد باسم الآب والابن والروح القدس وليس “بأسماء” (مت 19:28). وقد جاء الابن باسم الآب (43:5)، وكما يُدعى الروح القدس بالباراكليت (الشفيع أو المحامي). هكذا أيضًا يُدعى الابن (1 يو 1:2). وكما يتحدث السيد المسيح عن نفسه قائلاً: “أنا هو الحق” (يو 6:14)، يُدعى الروح القدس أيضًا “الحق” (1 يو 7:5). أيضًا يُدعى كل من الاب والابن والروح القدس “النور” (1 يو 5:1؛ يو 8:1-9؛ إش 2:9؛ مز 6:4) . وهكذا الأقانيم الثلاثة يدعوا “الحياة”.
كان الحاخامات يعتزون جدًا بأن من يقدم نفسه معلمًا يشهد له شخص أو أشخاص لهم مكانتهم الدينية، لهذا كان شاول الطرسوسي يعتز بشهادة معلمه غمالائيل. لقد جاء ربنا يسوع يشهد له الآب، ويتكلم باسمه، ويطلب مجده، أما أضداد المسيح فيأتون بأسماء أنفسهم (مت ٢٤: ٥).
لقد أظهر الالتزام بتعليم وحدة الاسم الإلهي، وعدم وجود اختلاف، حيث أن المسيح جاء في وحدة الاسم، أما ضد المسيح فسيأتي باسمه الخاص به… علمنا بكل وضوح من خلال هذه العبارات (مت 19:28؛ يو 26:14؛ أع 12:4؛ يو 43:5) أنه لا يوجد فارق في الاسم (الإلهي) في الآب والابن والروح القدس. (القديس أمبروسيوس)
لم يقبل اليهود الرب يسوع المسيح الذي هو أبن الله وهو الله، لكنهم سيقبلون المحتال الذي يدعو نفسه الله. (الأب يوحنا الدمشقي)
من هو هذا الذي قال عنه أنه يأتي باسم نفسه؟ إنه يذكر هنا بطريقة غامضة أن الذي يأتي هو ضد المسيح. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
قيل عن ضد المسيح وعن كل الذين ينكرون الرب هذا: “أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلوني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه” [٤٣]. لنسمع أيضًا يوحنا: “سمعتم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون” (١ يو ٢: ١٨). ماذا في ضد المسيح؟ نحن نرتعب منه، إلاَّ أن اسمه يُكرم ويحتقر اسم الرب؟ ماذا يقول سوى: “إني أبرر ذاتي”؟ نجيبه: “أنا أتيت إلى المسيح لا بقدمي بل بقلبي. حيث سمعت الإنجيل هناك آمنت. هناك اعتمدت، فإني إذ آمنت بالمسيح آمنت بالله”. (القديس أغسطينوس)
“كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض،
والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟” (44)
أوضح السيد المسيح أن مشكلتهم قائمة في أعماقهم، ففسادهم أعمى أعينهم عن معرفة الحق وقبوله. فالعائق الرئيسي لخلاص الكتبة والفريسيين هو كبرياؤهم. فإنهم يفضلون فقدان خلاصهم وهلاك نفوسهم عن أن تُمس سمعتهم وسط الشعب. يهتمون بما يقوله الناس عنهم، لا بما يشهد به الله عنهم.
أراهم أنهم لم يطلبوا حقوق الله، لكنهم بتظاهرهم هذا أرادوا أن ينتصروا لمرضهم، فابتعدوا عن مجد الله، لأنهم رغبوا المجد الإنساني أكثر من المجد الذي من الله. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
يلزمكم أن تهتموا بتجنب شباك هوى المجد الباطل. يقول يسوع: “كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض؟” (44) أي شر هذا الذي ضحيته لا نقدر أن نؤمن! ليتنا بالأحرى نقول: “أنت مجدي” (إر 24:9)، وأيضًا “من يفتخر فليفتخر في الرب” (1 كو 31:1)، “إن كنتُ بعد أُرضي الناس فلستُ عبدًا للمسيح” (غلا 10:1). “حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم”. (القديس جيروم)
“لا تظنوا إني أشكوكم إلى الآب، يوجد الذي يشكوكم،
وهو موسى الذي عليه رجاؤكم”. (45)
اتهموه بكسر السبت، وقد أثبت لهم أن بعمله هذا يقدس السبت لأنه يعمل حسب مسرة الآب. الآن وقد ظهر بطلان اتهامهم، فإنه لم يقم بدوره باتهامهم ككاسري الناموس كله، فإنه ليس بمحتاج إلى ذلك، ولا جاء لهذا الغرض. إنه لم يتجسد ليدين الناس بل ليخلصهم. إنه يترك موسى نفسه الذي يثقون فيه، هو نفسه يتهمهم ويدينهم.
“لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني،
لأنه هو كتب عني”. (46)
جاءت أسفار موسى الخمسة مشحونة بالرموز والنبوات التي تشهد لشخص السيد المسيح وميلاده وخدمته وصلبه وقيامته كمخلص للعالم. فمن يصدق موسى يصدق السيد المسيح نفسه، لأن فيه تمت النبوات.
“فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي؟” (47)
إن كانوا لا يفتحون قلوبهم للنبوات ويدركون أعماق الناموس بل يتمسكون بالحرف بطريقة جافة، فكيف يمكنهم أن يتمتعوا بشخص السيد المسيح عصب الكتاب ومركزه؟ لديهم الحقل لكنهم لا يبحثون عن الكنز المخفي فيه. يقول القديس بولس أنه لا يزال البرقع موضوعًا على قلوبهم إلى اليوم حين يُقرأ موسى (٢ كو ٣: ١٥)، فلا يدركون غاية الكلمة الإلهية.
خُتم حديث السيد المسيح بصمت كامل من جهة المقاومين، إذ لم يكن لديهم ما يجيبون عليه. ويبدو أن كل ما قد فعلوه أنهم رفعوا الاتهام عنه في صمت، أما قلوبهم فازدادت تحجرًا، تترقب فرصة أخرى ليمسكوه بها.
وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح
فيلسوف أفلاطوني عن مقدمة “إنجيل يوحنا”: عبارات تستحق أن تُكتب بحروفٍ من ذهبٍ…
تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لمقدمة القديس يوحنا البشير (١:١-١٨)
( أغسطينوس – سمبليشيوس – فرنسيس جوني – أوريجينوس – يوحنا الذهبي الفم – غريغوريوس النيسي – أمبروسيوس – أغناطيوس – جيروم – كيرلس الأورشليمي..)