تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين – شهادة يوحنا بيسوع ( يوحنا ١: ٢٩-٣٤ )
“وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً إليه،
فقال: هوذا حمل اللَّه الذي يرفع خطية العالم” (29).
في شهادة يوحنا له نلاحظ الآتي:
أنه حمل الله فقد اعتادت البشرية أن تقدم الذبائح لله لمراضاته. أما هنا فالذي يُعد الذبيحة هو الله الآب نفسه الذي يقدم ابنه الوحيد ذبيحة.
أنه ذبيحة كفارة أو ذبيحة إثم، قادرة بالحق أن ترفع الخطايا، وليست ظلاً أو رمزًا كالذبائح الحيوانية.
يمتد عملها إلى البشرية كلها. هذا ما كان غريبًا عن الفكر اليهودي، إذ يقول Yalcut Rubeni على سبيل المثال: سوف يحمل المسيا خطايا الإسرائيليين”. أما أن يمتد إلى العالم كله، فهذا ما لا يقبله اليهود.
هنا هو اللقاء الثاني بين شخص السيد المسيح والسابق له يوحنا المعمدان. أما اللقاء الأول فيرويه لنا لوقا الإنجيلي (لو ١: ٣٩-٤١) حيث التقى الجنين الذي في أحشاء القديسة مريم بالجنين في أحشاء القديسة اليصابات. وقد قدم لنا العلامة أوريجينوس نوعًا من المقارنة بين اللقاءين.
أولاً: في اللقاء الأول سكب المسيا وهو جنين في بطن أمه نوعًا من مجده على الجنين يوحنا المعمدان، حتى حمل نوعًا من الشبه، لذلك لم يستطع البعض التمييز بين الأصل والصورة. فحسب البعض يوحنا هو المسيا (يو ١: ٢٠)، وظن آخرون السيد المسيح يوحنا قائمًا من الأموات (لو ٣: ٥؛ مت ١٤: ٢؛ مر ٦: ١٤).
ثانيًا: إن كان المسيح هو الكلمة ويوحنا هو الصوت، فقد كان هذا الصوت عاليًا في أحشاء اليصابات حين امتلأت بالروح القدس عند سماعها تحية مريم، فصرخت بصوتٍ عالٍ وقدمت شهادتها (لو ١: ٤٢). وكما يقول العلامة أوريجينوس [هذا هو السبب الذي لأجله ركض يوحنا وصارت الأم كما لو كانت الفم ونبية عن الابن (الكلمة) عندما صرخت بصوت عالٍ وقالت: “مباركة أنتِ في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنكِ” (لو ١: ٤٢)].
يتساءل العلامة أوريجينوس لماذا دُعي المخلص حملاً مع أن ذبائح العهد القديم هي ثلاثة أنواع من الحيوانات ونوعان من الطيور: الثور، الحمل، الماعز، يمامتان، فرخا حمام (لا ٥: ٦ – ٧، ١٨). يجيب على ذلك بأن خروفين حوليين كانا يُقدمان كل يوم دائمًا، واحد كتقدمة صباحية دائمة، والآخر كتقدمة مسائية دائمة. [أية ذبيحة دائمة يمكن أن تكون روحية تقدم للكائن الروحي أفضل من الكلمة في أولويته، الكلمة الذي يُدعى رمزيا “الحمل” الذي أُرسل حتى تستنير النفس (لأن هذه هي الذبيحة الصباحية) وترفع أيضًا في نهاية (المساء) وقت العقل المنشغل بالأمور السماوية؟] هكذا نبدأ فجر حياتنا بذبيحة الحمل لنقضي يومنا كله مشغولين بخلاصه حتى يحل مساء عمرنا، فننعم بذات الذبيحة التي تحملنا إلى يومنا الجديد، الأبدية التي لا تنقطع، فنراه في السماء مع القديس يوحنا الحبيب: “الحمل كأنه مذبوح” (رؤ ٥: ٦).
ماذا يلزمنا أن نفهم، وأية عظمة لحمل الله الذي ذُبح لكي يرفع الخطية ليس عن قليلين بل عن كل العالم (٢٩)، الذي من أجله تألم؟ “لأنه إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا العالم أيضًا” (١ يو ٢: ١-٢). إذ هو مخلص كل بشر ولاسيما المؤمنين (١ تي ٤: ١٠). إنه هو الذي محا الصك الذي كان علينا بدمه، ورفعه من الوسط، فلم يعد أثر للخطايا التي وُجدت بل مُحيت، مسمرًا إياها على الصليب، هذا الذي إذ جرد الرئاسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم في الصليب (كو ٢: ١٤-١٥). هكذا تعلمنا أن نكون فرحين حينما نتألم في العالم. نتعلم علة فرحنا، وهو أن العالم قد انهزم (يو ١٦: ٣٣). وبالتأكيد خضع لمن غلبه. لهذا كل الأمم تتحرر ممن سيطروا عليهم، وصاروا يخدمونه، إذ ينقذ الفقراء من الجبار وذلك بقوة آلامه، ويخلص المسكين الذي لا معين له (مز ٧٢: ٤-٥).
إذ عمده يوحنا مع كثيرين (آخرين) فلئلا يظن أحد أنه أسرع إلى يوحنا بذات الهدف مثل البقية، أي يعترف بخطايا، ويغتسل في النهر للتوبة، لهذا أعطي ليوحنا الفرصة ليقدم الرأي السليم مرة أخري بالقول: “هوذا حمل الله الذي ينزع خطايا العالم“، فيزيل كل شكٍ.
من الواضح تمامًا أن الذي هو طاهر هكذا حتى يستطيع أن ينزع خطايا الآخرين، لا يأتي لكي يعترف بخطايا، بل ليعطي فرصة لذاك المذيع العجيب أن يعلن ما قاله قبلاً بأكثر تحديد لمن سمعوه قبلاً، كما يسمعه آخرون أيضا.
استخدم كلمة “هوذا” لأن كثيرين بحثوا عنه، لهذا السبب الذي يقوله (يحمل خطاياهم) ولمدة طويلة. لهذا أشار إليه عند حضوره، قائلاً: “هوذا” الذي تبحثون عنهم زمانًا طويلاً، إنه “الحمل”.
دعاه حملاً، مُذكرًا اليهود بنبوة إشعياء النبي التي تقول: “ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاةٍ تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه” (إش 53: 7).
ذكرهم بالظل الذي تحت ناموس موسى، لكي يقودهم إلى ما هو أفضل، من الرمز إلى الحقيقة. حمل موسى لم ينزع للحال خطايا أحد، أما هذا فيزيل خطايا كل العالم. كان العالم في خطر الدمار فأسرع إليه وخلصه من غضب الله. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
لا تخجل من صليب مخلصنا بل بالأحرى افتخر به. لأن “كلمة الصليب عند اليهود عثرة، وعند الأمم جهالة“، أما بالنسبة لنا فخلاص (1 كو 2:1، 3). إنه عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهو قوة اللَّه (1 كو 18:1،23). لأنه كما سبق أن قلت أنه لم يكن إنسانًا مجردًا ذاك الذي مات عنا، بل هو ابن اللَّه، اللَّه المتأنس.
بالأحرى إن كان الحمل في أيام موسى جعل المُهلك يعبر، أفلا ينزع عنا خطايانا ذاك الذي هو حمل اللَّه الذي يرفع خطايا العالم؟!
دم الخراف غير الناطقة وهب خلاصًا، أليس بالأحرى دم ابن اللَّه الوحيد يخلص؟!
من ينكر قوة المصلوب فليسأل الشياطين!
من لا يؤمن بالكلام فليؤمن بما يرى، فكثيرون صُلبوا في العالم، لكن الشياطين لم تفزع من واحدٍ منهم، لكنها متى رأت مجرد علامة صليب المسيح الذي صُلب عنا يُصعقون، لأن هؤلاء الرجال صُلبوا بسبب آثامهم، أما المسيح فصُلب بسبب آثام الآخرين… “لأنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش” (إش 9:53، 1 بط 22:2). لم ينطق بهذه العبارة وحده، وإلا لشككنا في أنه منحاز لمعلمه. لكن إشعياء قال أيضًا، ذاك الذي لم يكن حاضرًا معه بالجسد لكنه تنبأ بالروح عن مجيئه بالجسد.
ما بالنا نستشهد بالنبي وحده هنا؟ فها هو بيلاطس نفسه الذي حكم عليه يقول: “لا أجد في هذا الإنسان علة” (لو 23:14) ولما أسلمه غسل يديه قائلاً: “أنا بريء من دم هذا البار”.
هناك شهادة أخرى عن يسوع البار الذي بلا خطية، هي شهادة اللص أول الداخلين الفردوس، إذ بكَّت زميله منتهرًا إياه قائلاً: “أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله (لو 23:41)، لأن كلينا تحت قضائه. (القديس كيرلس الأورشليمي)
“الزهور ظهرت في الأرض، بلغ أوان القضب، وصوت اليمامة سمع في أرضنا” (نش 2: 12).
يقول العريس: “انظروا فان المروج مزدهرة بأزهار الفضيلة. هل ترى هذا النقاء في جمال النرجس العبق؟ هل ترى ورد التواضع والبنفسج الذي يمثل رائحة السيد المسيح الذكية؟ لماذا إذن لا تعمل تاجًا من هذه الزهور؟ فهذا هو موسم قضب الزهور. لتعمل فرع تاج لتزين بها نفسك. قد حلّ موسم التقليم. يشهد بذلك صوت اليمامة أي أنه يشبه “صوت صارخ في البرية” (متى 3:3)، فيوحنا المعمدان هو اليمامة. هو الذي تقدم هذا الربيع المنير الذي أنبت لبنى البشر الزهور الرائعة للقضب، وقدمها لكل من رغب في جمعها. إنه هو الذي بيّن لنا الزهرة التي من أصل يسى (إش 1:11)، “حمل الله الذي يحمل خطية العالم” (يو 29:1). وهو الذي أوضح لنا التوبة عن الخطية، والحياة حسب الفضيلة. يقول النص: “سُمع صوت اليمامة في أرضنا”، وهي تنادى: “يا أرض” تنادي هؤلاء الذين أُدينوا لخطيتهم، هؤلاء الذين يطلق عليهم الإنجيل “العشارين والزناة”، سمعوا صوت يوحنا المعمدان، بينما لم تقبل البقية تعاليمه.
“أذهب إلى تل المر وإلى جبل اللبان” (نش 6:4)…
خلصت الطبيعة البشرية ومن وصمة الخطية بعد أن رفع حمل اللّه خطية العالم وحطم الإثم (يو 29:1). لذلك يقول النشيد: “كلك جميل يا حبيبتي، ليس فيك عيبة” ويضيف إلى ذلك سرّ الانفعال الذي يرمز إليه المرّ (نش 6:4)، ثم يذكر خليط الأعشاب العطرة والبخور التي تُشير إلى ألوهية المسيح. أن الذي يشارك المسيح في المرّ سوف يحصل على رائحة الأعشاب العطرة والبخور، لأن الذي يتألم معه سينال معه المجد (رو 17:8). وعندما يكون في المجد الإلهي سيحصل على الجمال الكامل ويكون بعيدًا جدًا عن كل عيب بغيض بواسطة المسيح ومن خلال المسيح ينفصل عن الخطية. إنه مات وقام من الأموات لأجلنا، وله المجد والقوة الآن وإلى الأبد آمين. (القديس غريغوريوس النيسي)
“هوذا حمل اللَّه”. إنه ليس بفرعٍ ممتدٍ من آدم، إنما استمد منه الجسد ولم يأخذ خطية آدم. إنه لم يأخذ الخطية عليه من العجين الذي لنا، إنما هو الذي ينزع خطايانا. (القديس أغسطينوس)
النزع (للخطية) يعمل في كل واحدٍ في العالم حتى تُمحى الخطية من العالم كله، ويسلم المخلص مملكة معدة (١ كو ١٥: ٢٤) للآب، ليس فيها خطية ما قط، مملكة تسمح بحكم الآب وتأتي بالكل إلى الله بكاملها، فيتحقق القول “يكون الله الكل في الكل” (١ كو ١٥: ٢٨).
نؤمَر بذبح الحمل في العشية (خر 12: 6)، حيث أتى الحمل الحقيقي، مخلصنا، إلى العالم (يو 1: 29) في الساعة الأخيرة (1 يو 2: 18).
كل إنجيل يجلب فرحًا بسبب صالح.
المسيح هو الصلاح الذي كان ينتظره الشعب. ( من الآباء )
لنتأمل في نفع الإيمان المستقيم. إنه نافع لي أن أعرف أنه من أجلي احتمل المسيح ضعفاتي، وخضع لعواطف جسدي. ومن أجلي، أقول من أجل كل إنسانٍ، صار خطية ولعنة (2 كو 21:5؛ غلا 13:3)، من أجلي وفي تواضع وخضوع. ومن أجلي هو الحمل والكرمة والصخرة (يو 36:1؛ 1:15؛ 1 كو4:10)، والعبد وابن أمة (مر 45:10؛ يو 4:13، 5؛ مز 16:86؛ 14:116، يو 38:1)، وغير عارف ليوم الدينونة، من أجلي جهل اليوم والساعة (مت 36:24) . (القديس أمبروسيوس)
ماذا يُقصد بالعالم؟
يميل العلامة أوريجينوس الذي يؤمن بخلاص كل البشرية أن العالم كله سيخلص معتمدًا على قول الرسول بولس: “لأننا قد ألقينا رجاءنا على الله الحي الذي هو مخلص جميع الناس، ولاسيما المؤمنين” (١ تي ٤:١٠). غير أن الرأي السائد في الكنيسة في أيامه غالبًا ما كان يقصد بالعالم هنا العالم الذي استنار بالمخلص فصار كنيسته المقدسة بدمه. وقد عبر عن ذلك العلامة أوريجينوس بقوله: [يرى البعض أن العالم يعني الكنيسة وحدها، بكونها زينة العالم. إذ قيل أيضًا أنها نور العالم، إذ يقول الكتاب: “أنتم نور العالم” (مت ٥: ١٤). الكنيسة هي زينة العالم حيث أن المسيح الذي هو نور العالم الأول هو زينتها… ليته يُقال عن الكنيسة أنها العالم المستنير بالمخلص].
في تسبحة الملائكة في صلاة (تسبحة) باكر نترنم قائلين: “يا حمل الله، يا حامل خطية العالم ارحمنا“. يرى البعض إنها من أقدم التسابيح في الشرق والغرب. ففي الغرب قبيل التناول يرددون: “يا حمل الله الرافع خطية العالم، ارحمنا”.
“هذا هو الذي قلت عنه:
يأتي بعدي رجل صار قدامي،
لأنه كان قبلي” (30).
يكرر المعمدان هذه الشهادة أنه وإن سبق في الزمن مجيئه عن مجيء الكلمة المتجسد إنما ليهيئ الطريق، أما من جهة الوجود، فالكلمة كائن أزلي سابق له، وأعظم منه في الكرامة.
يقول المعمدان: “مجيئي ليس له هدف إلا أن يعلن عن المحسن العام لكل العالم المسكون، وأن يقدم معمودية الماء، أما هذا فيطّهر كل البشرية ويهب طاقة الروح. يأتي بعدي ذاك الذي يظهر أكثر مني بهاءً، “لأنه كان قبلي”. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
“وأنا لم أكن أعرفه،
لكن ليظهر لإسرائيل،
لذلك جئت أعمد بالماء” (31).
غاية رسالة يوحنا هو تقديم يسوع المسيح لشعب إسرائيل مع أنه لم يكن بعد قد رأى وجهه ولا عرفه، ولم يكن قادرًا أن يصفه سوى أنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
كانا قريبين حسب الجسد… ولئلا يبدو إنه يقدم مجدًا له بسبب القرابة استمر يقول: “وأنا لم أكن أعرفه”.
كيف تكون يا يوحنا شاهدًا مؤهلاً للتصديق، كيف تُعلم أناسًا آخرين إن كنت جاهلاً به؟! إلا أن يوحنا لم يقل: “لم أعرفه”، لكنه قال: “أنا لم أكن أعرفه“. وبهذه الشهادة صار مؤهلاً لتصديقه كثيرًا، إلا أنك إن سألته: فكيف عرفته؟ يقول لك: عرفته بنزول الروح عليه…
أما كان يمكن ليوحنا أن ينذر بالمسيح بدون التعميد، ويقتاد الجموع بسهولة؟ فأجيبك: لم يكن ذلك ممكنًا البتة، لأنه لو كان قد نادى وأنذر بدون معمودية لما كان أهل ذلك البلد تقاطروا إليه كلهم على هذا المثال في كثرتهم، ولا عرفوا من المقايسة بينهما سمو أحدهما، إذ أن جموع الشعب خرجت إليه ليس لأنهم سمعوا الأقوال التي قالها، لكنهم خرجوا إليه ليعتمدوا ويعترفوا بخطاياهم، فلما جاءوا إليه علَّمهم وعرَّفهم ما شهد به في وصف المسيح والفرق بين المعمودية التي له والتي للمسيح. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
“وشهد يوحنا قائلاً:
إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء،
فاستقر عليه” (32).
لا تظن أن هذا تجسد، بل ظهور. لقد جلب المظهر أمامه، حتى بالمظهر يؤمن ذاك الذي لم يرَ الروح. وبالمظهر يعلن أنه شريك مع الآب والابن في كرامة السلطة، عمل واحد في السرّ، عطية واحدة في الغطس.
قال بما يليق: “استقر عليه”، لأن الروح أوحى بالكلام أو العمل للأنبياء كيفما شاء، لكنه مستقر على الدوام في المسيح.
لا تهتز من القول: “عليه” إذ هو يتحدث عن “ابن الإنسان”، إذ اعتمد بكونه ابن الإنسان. فهو ليس عليه حسب اللاهوت، بل فيه، كما أن الآب في الابن والابن في الآب. (القديس أمبروسيوس)
يقول البابا أثناسيوس الرسولي أنه إذ استقر الروح على يسوع [فذلك من أجل تقديسنا حتى ما نشارك مسحته].
لم يكن ممكنًا أن يصيروا أبناء، لأنهم بالطبيعة مخلوقات، ما لم يتقبلوا روح ذاك الذي بالطبيعة الابن الحقيقي. فلكي يتحقق ذلك “صار الكلمة جسدًا”، لكي ما يجعل الإنسان قادرًا على اللاهوت.
يعمل الآب كل الأشياء بالكلمة في الروح القدس، بهذه الوسيلة تحفظ وحدة الثالوث القدوس. (البابا أثناسيوس الرسولي)
لست أتحدث عن المسيح الذي يسكن الروح فيه، ليس كمن يهب طاقة energoun ouchos، بل كرفيق لذاك الذي له ذات الكرامة. (القديس غريغوريوس النزينزي)
لم يتردد القديس يوحنا الذهبي الفم عن أن يعلن أن يسوع كان مملوءً بالروح، إذ “هو روحي، لأن الروح نفسه شكله (من جهة تأنسه)، إنه كلمة اللَّه كما أنه طاقة الروح”.
كان القديس غريغوريوس أسقف نيصص معارضًا للقول بأن الروح عمل في المسيح: “أضيف الإشارة إلى أن المسيح الذي سكن في الروح ليس كمن يعطيه طاقة بل كمن هو رفيق بكونه مساوٍ له في الكرامة. كان يلذ للقديس غريغوريوس أسقف نيصص أن يتحدث عن الروح القدس كرفيق للكلمة المتجسد، ويجعل أعماله مُعلنة.
خصص القديس كيرلس الكبير الأناثيما 9 للتعليم الخاص بحضور الروح القدس في المسيح. لا يحتاج اللَّه الكلمة إلى الشبع خلال الروح، لأنه هو قدوس بالطبيعة. على العكس فإن جسد الكلمة المتجسد صار يستقبل الروح، بكونه هيكل اللاهوت.
إنه آدم الثاني الذي يشبه واحدًا منا، تقبل الروح من الآب، لكي يحفظ طبيعتنا… الروح قد فارقنا بسبب الخطية، وقد صار ذاك الذي لا يعرف خطية يشبه واحدًا منا، حتى يبقى الروح فينا بلا انقطاع.
بسبب الخطية لم يجد الروح راحة في الكائنات البشرية، ولكن إذ صار كلمة اللَّه إنسانًا، فإنه عليه وحده، البكر الثاني للجنس البشري، استقر الروح على الطبيعة البشرية، لكي يستقر أيضًا علينا.
بعد أن صار إنسانًا، كان له أن يقبل الروح، وإذ فعل هذا ولم يعرف خطية أراد الروح أن يسكن فيه ويستقر عليه بكونه بكر الجنس البشري، وأصله الثاني.
إذ كان جسمه كله مملوء بطاقة الروح المحيية، لهذا دعا جسده روحًا، دون أن ينكر أنه جسد. (القديس كيرلس الكبير)
يأتي المسيح؛ والروح يهيئ طريقه. يأتي في الجسد والروح لا ينفصل عنه قط، يعمل عجائب ويمنح أشفية من الروح القدس. الشياطين تخرج بالروح القدس. حضور الروح يفسد الشيطان. غفران الخطايا يعطى بعطية الروح. لقد اغتسلتم وتقدستم… باسم الرب يسوع المسيح وبروح إلهنا” (1 كو 6: 11). (القديس باسيليوس الكبير)
“عيناه كالحمام على مجارى المياه” (نش 5: 12)… يُعبر النص عن الحياة الروحية النقية بالحمام، الذي شاهد شبيهها يوحنا عندما حلَّ الروح القدس على المياه (يو 32:1)، لذلك فإن الذي يُعيّن بواسطة اللّه كعيون لجسد الكنيسة يجب عليه أن يغسل أي شيء يعوق بصره، لكي يقوم بوظيفة المراقبة والرؤية كما يجب. يقول اللّه أنه لا يوجد نوع واحد من المياه لغسل عيوننا، بل توجد أنواع كثيرة. فتوجد فضائل عديدة تمثل عدة ينابيع لتنقية المياه التي نغسل بها عيوننا لكي تُصبح نقية. والأمثلة على هذه الينابيع لتنقية المياه هي: المثابرة والعمل الدءوب، والتواضع، والصدق، والبر، والحزم والشجاعة، والرغبة في عمل الخير، والبعد عن الشر. تفيض أنواع هذه المياه وغيرها من نبع واحد وهو يضم مجاريها في مجرى واحد وبواسطتها تتنقى العيون من أي إفرازات للانفعالات. (القديس غريغوريوس النيسي)
“وأنا لم أكن أعرفه،
لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي:
الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه،
فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس” (33).
يسوع المسيح هو ابن اللُه، ومع هذا لم يكرز قبل العماد بالإنجيل (الذي صُلبه التمتع بالتبني للُه خلال السيد المسيح).
إن كان السيد نفسه قد اتبع هذا الوقت المناسب اللائق، فهل يجوز لنا نحن خدامه أن نخالفه النظام؟! إذ (من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز) عندما “نزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة” (مت 17:4، لو 22:3)، لا لكي يراه يسوع فيعرفه، إذ هو يعرفه قبلما يأتي عليه على هيئة جسمية، إنما لكي يراه يوحنا الذي يعمده إذ يقول: “لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس” (يو 23:1).
إن كنت أنت أيضًا تحمل درعًا قويًا فإن الروح القدس يحل عليك، والآب يكلمك من فوق من الأعالي ليس قائلاً: “هذا هو ابني” بل “الآن صرت ابني”، لأن فعل المضارع في “هذا هو ابني” يخص الابن وحده الذي “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند اللُه وكان الكلمة اللُه” (يو 1:1)، فهو وحده الذي يقال له: “هو ابني” إذ هو على الدوام ابن اللٌه. أما أنت فيُقال لك: “الآن تكون” إذ لا تحمل بنوة طبيعية بل تتقبلها بالتبني. هو ابن سرمدي، أما أنت فتقبلت النعمة مؤخرًا.
(القديس كيرلس الأورشليمي)
ما الذي لم يكن قد عرفه؟ إنها قوة معمودية الرب، فهي لن تنتقل من الرب إلى أي إنسانٍ، بل تتم خدمتها بكل وضوح هكذا. لا تنتقل القوة من الرب إلى أي أحدٍ، يقوم بالخدمة الشخص الصالح أو الشرير. لا ترتد الحمامة عن خدمة (الخادم الشرير) بل تتطلع إلى قوة الرب. أي ضرر يليق بكم من الخادم الشرير ما دام الرب صالح؟
لقد عرف (يوحنا المعمدان) أنه هو الرب، واعترف أنه هو الحق، وأنه (يوحنا) إنسان حق مُرسل من الحق، هذا ما عرفه يوحنا. ولكن ماذا كان في (المسيح) لم يعرفه يوحنا؟ إنه قد حان الوقت أن يحتفظ لنفسه بقوة عماده، ولا يحولها إلى أي خادم… ما الذي لم يكن يعرفه؟ إن سلطان المعمودية العظيم هو للرب وأنه يرده لنفسه سواء وهو حاضر هنا على الأرض أو عند غيابه بالجسد في السماء، وحضور جلاله، لئلا يقول بولس: “معموديتي”، ولئلا يقول بطرس: “معموديتي”. انظروا وانتبهوا لكلمات الرسل. لم يقل أحدهم: “معموديتي”. مع وجود إنجيل واحد للكل، لكنك تجدهم يقولون: “إنجيلي”، ولا تجدهم يقولون “معموديتي”. هذا ما تعلمه يوحنا يا اخوتي. ما تعلمه يوحنا بالحمامة فلنتعلمه نحن أيضًا. لأن الحمامة لم تعلم يوحنا دون تعليم الكنيسة، هذه التي قيل عنها: “واحدة هي حمامتي” (نش 6: 8). ليت الحمامة (الروح القدس) تعلم الحمامة (الكنيسة).
تقول لي: هذا الشخص أو ذاك عمدك، لكن بالحمامة (الروح القدس) يُقال لي ولك: “إنه هو (الرب) الذي يعمدك. من الذي أصدقه: الحدأة أم الحمامة؟
هذا السرّ مقدس جدًا حتى أن خدمة قاتل له لن يفسده.
أي نفع كان في أن تتقبل عماد خادمٍ معين لكي ما لا تزدري من قبول عماد الرب؟…
إن كنت قد جئت إلى الخادم فهل تستنكف من المجيء إلى الرب؟ إن كنت قد قبلت معمودية الخادم، فهل تستنكف من أن تتعمد بواسطة الرب؟
لو أنه كان يجهله تمامًا لما قال له عند مجيئه إلى النهر ليعتمد: “أنا محتاج أن أعتمد منك، فكيف تأتي إليّ؟”… لقد عُرف الرب بواسطة الحمامة، لا لذاك الذي لم يعرفه، بل لذاك الذي عرفه بطريقة ما، ولم يعرفه من جانب آخر. إنه من أجلنا لكي نكتشف ما هو فيه، الأمر الذي لم يعرفه يوحنا وتعلمه بالحمامة. (القديس أغسطينوس)
أظن أننا لا نستطيع أن نكف عن رؤية تلك النار عندما نقرأ أن الرب يسوع يعمد بالروح القدس ونار (33)، كما يقول يوحنا في إنجيله… لذلك يقول إرميا بعد قبوله الروح: “صارت في قلبي كنارٍ حارقة ملتهبة في عظامي، وأنا كحقير لا أحتملها ” (إر 9:20)… ماذا يعني هذا – أعني أن هذه النار تصير ماءً، والماء يستدعي نارًا – إلا تلك النعمة الروحية التي تحرق خطايانا بالنار وتغسلها بالماء؟ فإن الخطية تُغسل وتحترق. (القديس أمبروسيوس)
قَبِلْ العماد من يوحنا لهذا الهدف، وهو إذ يقبل ما هو أقل ممن هو أقل، يحثنا نحن الأقل أن نقبل ما هو أسمى.
لو أن ربنا يسوع المسيح وحده اعتمد بمعمودية يوحنا، لظن البعض أن معمودية يوحنا أعظم من معمودية المسيح. إذ يقولون: إن هذه المعمودية هي الأعظم، لأن المسيح وحده هو الذي تأهل لها. لهذا كمثال للتواضع يقدمه لنا الرب أن ننال خلاص المعمودية.
قبل المسيح ما هو ليس ضروري له، لكنه ضروري لحسابنا نحن.
مرة أخرى لئلا ما تقبله المسيح من يوحنا يُفضل عن عماد المسيح سمح للآخرين أيضًا أن يعتمدوا بواسطة يوحنا. وأما الذين اعتمدوا بواسطة يوحنا فمعموديتهم لم تكن كافية، إذ كان يلزمهم أن يعتمدوا بمعمودية المسيح.
كما كان المسيح هكذا كانت معموديته: معمودية الرب، إلهية لأن الرب هو اللَّه. (القديس أغسطينوس)
“وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن اللَّه” (34).
لما كان يوحنا قد عمد، والمسيح قد عمد، فلكي لا يتوهم متوهم من الحاضرين أن القول الذي قيل من أجل يوحنا، جاء الروح متلافيًا هذا التوهم واستقر على المسيح. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
- شهادة تلاميذه الأولين له
- شهادة يوحنا لمسيحانية يسوع (35-37) كسبت أندراوس (38-40).
- شهادة أندراوس بالتالي كسبت سمعان الذي دعاه يسوع صفا (42).
- دعي فيلبس من بيت صيدا على بحر الجليل، فكسب نثنائيل (45-51) الإسرائيلي الذي لا غش فيه.
وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح