قد يكون من السابق لأوانه البدء في تحليل معركة تطهير حلب من الإرهاب وتحقيق اهداف الهجوم التطهيري الذي نفذه الجيش العربي السوري
وحلفاؤه ضد حشد من المسلحين تحصنوا في مساحة من المناطق المبنية والمأهولة بالسكان بحيث تجاوز عددهم ال 12 ألف مسلح انتشروا في احياء يقطنها أصلا 600 ألف مواطن سوري (بقي منهم اثناء المعركة 200الف)، ينتشرون على مساحة تصل الى 75كلم 2.
كانت حلب في احيائها الشرقية التي وضع المسلحون اليد عليها مدعومين و محتضنين من الحلف الأطلسي بقيادة أميركية و مساندين اسنادا جعلهم رقما رئيسا في المعادلة السورية كلها باعتبار حلب العاصمة الاقتصادية هي مركز الثقل النوعي الاستراتيجي السوري بعد دمشق العاصمة السياسية ، لهذا كان العدوان يعول عليها لأكثر من سبب منذ ان وضعت اليد عليها في العام 2012 حيث انطلق العدوان يومها مزهوا بانتصاره مطالبا بتنحي الرئيس الاسد و تسليم السلطة كليا الى المجموعات المسلحة التي تقودها منظومة دولية إقليمية بقيادة اميركا و بالتالي كان سقوط بعض حلب بيد الإرهاب بمثابة اطلاق الصفارة للإعلان عن انتصار العدوان في تحقيق أهدافه ، و لو لم تكن القيادة السورية تمتلك الإرادة والاعصاب الفولاذية الاستثنائية و الثقة بالنفس و بالحق و بالحلفاء لكانت بعد حلب اعترفت بانتصار العدوان و سلمته البلاد ، لكن هذا لم يحصل لان في سورية قائد استثنائي فذ و جيش عقائدي مميز و شعب متمسك بارضه و حلفاء في محور المقاومة ندر وجود حالة تحالفية تشبههم و لذلك لم يقطف العدوان ثمار احتلاله الإرهابي لحلب في العام 2012 .
ولان لحلب هذه الأهمية فقدد بقيت في راس اهتمامات القيادة السورية منذ تاريخ سقوط بعضها بيد الإرهاب ، و عملت القيادة منذ ذاك التاريخ بسياسة تحديد الخسائر و حصر الانهيار في المدينة ما امكن ،و تمكنت في الأشهر الستة التي تلت دخول الإرهابيين من بناء دفاعات محكمة في القسم الغربي من المدينة مستندة في ذلك الى مجموعة المدارس و المراكز و القواعد العسكرية القائمة في المنطقة أصلا ، و نجح الجيش العربي السوري في مهمته تلك و تمكن من تحصين المواقع العسكرية بمعظمها و اقام فيها الحاميات المحلية ثم نظم شبكة عسكرية نارية و ميدانية للإسناد المتبادل فيما بينها ما أدى الى منع الجماعات المسلحة من التقدم الى غربي المدينة و أدى الى رسم خط تماس قسم المدينة بنسبة 40% بيد إرهابيين و 60% تحت سيطرة الدولة وكانت هذه النتيجة مقبولة الى حدما لكنها فرضت على الجيش العربي السوري أعباء كبيرة لجهة الدفاع عن هذا القسم أولا و منع محاصرته وتامين امداده الدائم بحاجيات السكان المعيشية فضلا عن الكهرباء و الماء التي قطعها المسلحون عن غربي المدينة ما اضطر أهلها الى ابتكار قاعدة استعمال كمية الماء الواحدة 3 استعمالات متدرجة حسب الأهمية .
بقي الوضع في حلب على حاله تقريبا 3 سنوات مع بعض الخروقات والكر والفر ولكنه تفاقم في السنة الأخيرة عندما وسع المسلحون سيطرتهم على الريف الحلبي كله تقريبا وصولا الى ادلب وريف حماة الشمالي، اضطر الجيش العربي السوري الى القيام بعمليات عسكرية مكلفة ومؤلمة للإبقاء على ارتباط ما بغرب حلب، ونجح الجيش في ذلك مع كلفة لا باس بها.
لكن عندما تعدل ميزان القوى بين معسكر العدوان على سورية ومعسكر الدفاع عنها، بانضمام روسيا عسكريا الى المعسكر المدافع، كان الشمال السوري في سلم أولويات هذا المعسكر، فوضعت الخطط العسكرية المحكمة للعمل على جبهة حلب وجبهة ريف اللاذقية الشمالي حيث تمكنت سورية وحلفاؤها وفي اقل من أشهر أربعة قلب المشهد الميداني راسا على عقب وطهرت معظم ريف اللاذقية غربا وطهرت كويرس ومطارها شرقا وفكت الحصار عن نبل والزهراء شمالا ورسمت خريطة عسكرية تنبئ بان ساعة تحرير حلب قد دنت.
عندها شعرت اميركا بجدية سورية لتحرير حلب وقدرتها على انجاز المهمة فبدأت بالمناورات التي تمنع تحقيق ذلك، وكانت اول مناورة-خدعة في 27شباط 2016 حيث توصلت مع روسيا الى هدنة في حلب ومنطقتها بشكل خاص وسورية بشكل عام، والاتفاق على إطلاق العملية السياسية التفاوضية في جنيف، لكن سرعان ما تبين ان اميركا كانت تريد من الهدنة منع تحرير حلب وكسب الوقت لتنظيم الجماعات الإرهابية وزجها في معركة السيطرة على كامل حلب وكامل ريفها. وبالفعل ما ان انطلقت اعمال جنيف السوري-السوري (نظريا) حتى سارعت الأدوات الأميركية في اليوم التالي الى تعليق المشاركة وتفجير الجبهات خاصة في حلب ومنطقتها.
لقد حقق الارهابيون في موجة الهجوم الأولى جنوبي حلب إنجازات لا بأس بها من خان طومان الى العيس ودفع المدافعون عن المنطقة خاصة القوات الحليفة للجيش العربي السوري ثمنا باهظا للبقاء فيها حتى افشال اهداف الهجوم. وتكررت العملية بعد اقل من شهر ما حدا بالقيادة السورية إعادة تقدير الموقف ووضع خطة تحرير حلب مهما كانت الاثمان والمهل. وبالفعل وانطلاقا من حزيران 2016 اتخذ القرار باستئناف الاعمال العسكرية التي تؤول الى تنفيذ المهمة، ووضعت الخطة العسكرية الملائمة وجزئت الى مراحل ثلاث: الأولى تهيئة القوات اللازمة وتحشيدها وتنظيمها واعدادها للمهمة، الثانية تهيئة البيئة العملانية وتسوية خطوط التماس مع حصار الاحياء الشرقية وعزلها والثالثة مرحلة التطهير الفعلي للأحياء الشرقية.
لقد أنجزت سورية وحلفاؤها المرحلتين الأولى والثانية من الخطة بنجاح باهر وصولا ال فرض حصار محكم على المسلحين في الاحياء الشرقية وقطع طرق امدادهم الرئيسة والثانوية وعزلهم عن تركيا، ولم تنفع محاولتا هجوم وحشي اعتمدت فيهما استراتيجية الموجات البشرية المتعاقبة كما لم تنفع كل المناورات الاحتيالية الأمريكية في فك الحصار او حمل سورية على التراجع عن فكرة تحرير كامل حلب. ومضت سورية وحلفاؤها في تنفيذ المرحلة الثالثة من الخطة وهنا كان الابداع الميداني الذي أدى الى تحرير حلب وانجاز المهمة في ثلاثة أسابيع فقط في حين كانت التقديرات الأولية تجمع على القول بان المهمة لا يمكن ان تنجز بأقل من ثلاثة أشهر نظرا لتعقيدات الميدان وحجم المسلحين واتخاذهم ل 200 ألف مدني سوري دروعا بشرية وعلمهم بحرص الحكومة السورية على الحجر والبشر معا.
وفي بحث عن الأسباب التي أدت الى هذه النتائج الرائعة فأننا نرى ان تحرير حلب كان نتيجة خطة وضعت منذ ستة أشهر وعمل عل تنفيذها بدقة وصبر تأني واحتراف وتولى تنفيذها الجيش العربي السوري مع الحلفاء بكفاءة عالية وكان تأثيرها على الأرض ونفوس المسلحين مذهلا وهنا نسجل على الصعيد السوري والحلفاء ما يلي:
1) النجاح في العملية الاستخبارية العميقة التي مكنت القيادة العسكرية والميدانية من رسم صورة دقيقة للواقع الميداني.
2) النجاح في التخطيط وإدارة الحرب النفسية ضد المسلحين للتخفيف من إثر وجود المدنيين كما وزعزعة العلاقة بين المسلحين ونسجل أهمية سياسة منح الهدنات القصيرة من جانب واحد ثم صدور العفو الرئاسي ثم فتح الممرات الامنة وتلقي المدنيين الخارجين من الإحياء المحاصرة كل ذلك ساعم في صنع بيئة إيجابية لصالح القوى المقتحمة.
3) النجاح في التمهيد الناري المركز والمستدام واستهداف القواعد النارية للمسلحين واصابتها بدقة بالغة ما أدى الى احداث مفاعيل نفسية وميدانية حلت سلبيا بالمسلحين فأنتجت خوفا ورعبا لديهم وحرمتهم من نار كإنو يعولون عليها.
4) النجاح في عملية الاختراق السريع، وهنا سيتوقف الباحثون العسكريون عند ذاك القرار-المجازفة الذي اتخذ لاختراق المنطقة في الوسط وقطعها الى قسمين شمالي وجنوبي. لقد كان في دخول القوى المقتحمة مساكن هنانو في الوسط مجازفة كبرى أدى نجاحها الى حسم المعركة في الأيام الثلاثة الأولى لانطلاقها.
5) الاسراع في استثمار النجاح الاولي ومتابعة زخم الهجوم لا بل تزخيم الهجوم وعدم إعطاء الخصم فرصة التقاط الانفاس ثم اعتماد سياسة المحاور المتعددة في الان نفسه دون ان تفسح في المجال امام المسلحين اللجوء الى الاسناد المتبادل بين المحاور انقل القوى حيث فرضت على كل جماعة العمل بمقولة “لكل شان يغنيه” وخطر يمنعه عن التفكير بسواه.
اما على صعيد الجماعات المسلحة وتأثيرهم على مسار المعركة فنكتفي الان بذكر أسباب ثلاثة رئيسية أدت الى هزيمتهم:
– أولها وهن القيادة والسيطرة والتشتت في القيادة الامر الذي لم تستطع الخروج منه رغم انشائها بعد الاختراق الأول لمراكزها جيش حلب بعد ن فات الأوان، ومع هذا الوهن لم ينفع ما كدس من سلاح.
– الثاني ثقتها بالقيادة الخارجية التي كانت تعدها بانها ستمنع الهجوم السوري مهما كان الامر، فصدمت بحصوله.
– والثالث عدم قدرتها على احتواء موجة الهجوم الأولى ما أدى الى انهيار مزودج انهيار معنوي لم يعالج وانهيار ميداني لم تسد الثغرات فيه.
وبالنتيجة ارتفعت حلب حرة مطهرة وسقط فيها الإرهاب واهداف العدوان وفتحت الطريق للبحث الجدي في انتهاء الازمة السورية.
العميد د. امين محمد حطيط