تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين للإنجيل المُقَدَّس لمجيء المجوس 🕯
( أغسطينوس – يوحنا الذهبي الفم – أوريجينوس – جيروم – غريغوريوس الكبير – يعقوب السروجي )
إنجيل القديس متى البشير ٢: ١-١٢
حقًا إن مجيء كلمة الله متجسّدًا قد شغل ذهن الله قبل خلقنا، وقد هيأ له وسط شعبه بالآباء والأنبياء والناموس، بطرق متنوّعة، ومع هذا إذ تحقّق الأمر تجاهله الشعب تمامًا اللهمّ إلا القليل النادر. لهذا قدّم الله توبيخًا خلال الغرباء، فجاء إليه المجوس كباكورة كنيسة الأمم. جاءوا إلى بلدٍ غريبٍ ليسجدوا لطفل بسيط في مزود، وليس مولود قصر ملكي، لكن يقود موكبهم نجم سماوي، يُعلن عن وجود سرّ خفي فيه.
والمجوس هم كهنة وفي نفس الوقت ملوك كلدانيون أو فارسيون يقضون جل وقتهم في دراسة الظواهر الفلكية والتكهن بالحوادث المقبلة.
غالبًا ما جاء المجوس في موكب عظيم يتقدّمهم ثلاثة من كبارهم يحملون الهدايا للملك العجيب، هؤلاء يمثّلون كل أجناس البشريّة المتسلسلة عن أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. وكأنهم بكور الشعوب الأممية جاءوا يلتفون مع بسطاء اليهود – الرعاة – في السجود للمسيّا، فيضمهم معًا كنيسة واحدة له.
يقول القدّيس أغسطينوس: [من هم هؤلاء المجوس إلا بكور الأمم؟ لقد كان الرعاة إسرائيليّين والمجوس أمميّين. كان الأوّلون ملاصقين له، والآخرون جاءوا إ ليه من بعيد. لقد أسرع الكل إلى حجر الزاوية“].
وما هو هذا النجم؟
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه لم يكن نجمًا حقيقيًا كسائر النجوم، إنّما هو ملاك ظهر في شكل نجم أرسله الله لهداية المجوس العاملين في الفلك، ويعلّل ذلك بالآتي:
أولاً: أن مسار النجم الذي ظهر مختلف عن مسار حركة النجوم الطبيعيّة.
ثانيًا: كان النجم ساطعًا في الظهيرة والشمس مشرقة، وليس كبقيّة النجوم تسطع ليلاً.
ثالثًا: كان يظهر أحيانًا ويختفي أحيانًا أخرى.
رابعًا: كان منخفضًا، قادهم إلى حيث المزود تمامًا.
ويرى العلاّمة أوريجينوس أنه نجم حقيقي لكنّه من نوع فريد، إذ يقول: [إننا نعتقد أن الذي ظهر في المشرق كان نجمًا جديدًا، ليس كالنجوم العاديّة… لكنّه يُحسب في عداد المذنبات التي تشاهد في أحيان كثيرة، أو النيازك، أو النجوم الملتحمية أو النجوم التي على شكل الجرار، أو أي اسم ممّا يصف به اليونانيّون أشكالها المختلفة].
لماذا استخدم النجم؟
أولاً: استخدم الله كل وسيلة للحديث مع شعبه موضّحًا لهم أسرار التجسّد الإلهي وأعماله الخلاصيّة، لكن إذا أظلمت عيون قلوبهم بظلمة الشرّ وتقسّى قلبهم، بعث إليهم غرباء الجنس كعطشى للحق يوبّخونهم. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ لتوبيخ اليهود على قسوتهم، ولينزع عنهم كل عذر يحتجّون به على جهلهم الإرادي]. ويقول القدّيس جيروم: [ لكي يعرف اليهود بنبأ ميلاد المسيح من الوثنيّين حسب نبوّة بلعام أحد جدودهم، بأن نجمه يظهر من المشرق. وإذ أرشد النجم المجوس حتى اليهوديّة وتساءل المجوس عنه، لم يبقَ لكهنة اليهود عذر من جهة مجيئه]. حقًا في كل عصر إذ يتقسّى قلب المؤمنين أبناء الملكوت يحدّثهم الرب أحيانًا خلال الملحدين والأشرار الذي يقبلون الإيمان في غيرة متّقدة توبّخهم.
ثانيًا: الله الذي يحب البشريّة كلها يُعلن ذاته للجميع، محدثًا كل واحدٍ بلغته. فقد تحدّث مع اليهود بالناموس والنبوّات، واستخدم الفلسفات اليونانيّة بالرغم ممّا ضمّته من أضاليل كثيرة كطريق خلاله قبل كثير من الفلاسفة إنجيل الحق. وها هو يحدّث المجوس رجال الفلك بلغتهم العمليّة.
يحدّث الله كل إنسان باللغة التي يفهمها، فأرسل للرعاة ملائكة وللمجوس نجمًا يقول القدّيس أغسطينوس: [أظهر الملائكة المسيح للرعاة، وأعلن النجم عنه للمجوس. الكل تكلم من السماء!… الملائكة تسكن السماوات، والنجم يزيّنها، وخلال الاثنين تُعلن السماوات مجد الله].
ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [كان من اللائق أن كائنًا عاقلاً، أي ملاكًا هو الذي يخبر هؤلاء الذين استخدموا عقولهم في معرفة الله، أمّا الأمم فإذ لم يعرفوا أن يستخدموا عقولهم في معرفته لم يقدهم الصوت الملائكي بل العلاّمة (النجم). لهذا السبب يقول بولس أن النبوّة ليست لغير المؤمنين بل للمؤمنين، وأما الآية (العلامة) فليست للمؤمنين بل لغير المؤمنين (1 كو 14: 22)].
ويرى بعض الآباء مثل العلاّمة أوريجينوس أن المجوس أدركوا أن تعاويذهم قد بطلت، وشعروا أثناء عملهم أن أمرًا يفوق السحر قد حدث في العالم، فتطلّعوا إلى النجوم ليروا علامة من الله في السماء، عندئذ أدركوا كلمات بلعام: “يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل… ” (عد 24: 17). يقول القدّيس جيروم: [تعلّموا عن ظهور هذا النجم من نبوّة بلعام إذ هم من نسله].
ثالثًا: يرى البعض أن المجوس تسلّموا هذا التقليد الخاص بظهور النجم عند مجيء الملك المخلّص عن دانيال النبي الذي عينه الملك كبيرًا للمجوس حين كان في السبي البابلي، وفد حدّد في نبوّاته موعد مجيئه.
رابعًا: أراد الله أن يخرج من الآكل أكلاً، ومن الجافي حلاوة، فالنجوم التي اُستخدمت كوسيلة للتضليل يعبدها الناس (عا 5: 26) صارت وسيلة للدخول بهم إلى الالتقاء مع الله. حقًا ما أعجب معاملات الله معنا، إنه لا يحطّم ما لنا حتى إن صار طريقًا للشرّ إنّما يغيّر مساره ويحوّله إلى الخير؛ عِوض أن يكون خادمًا لمملكة الظلمة يصير آلة برّ لحساب مملكة النور. كل ما وهبنا الله من طاقات ومواهب ومشاعر ودوافع إن تدنّست لا يحطّمها الله، بل بروحه القدّوس يجدّدها ويقدّسها لتصير سرّ بنياننا الروحي ووسائط للشهادة له.
والعجيب أن الله استخدم النجوم للكرازة بين الفلكيّين، فإذا ببعضهم أرادوا تأكيد مفاهيمهم الشرّيرة بذات العمل الإلهي الفائق، فادّعوا أن لكل إنسان نجمه الذي يُسيّر حياته لا يقدر أن ينحرف عنه. وقد انبرى كثير من الآباء يواجهون هذه الادعاءات مثل الآباء غريغوريوس الكبير، يوحنا الذهبي الفم، وأغسطينوس.
نذكر على سبيل المثال بعض عبارات للقدّيس أغسطينوس: [لم يكن للنجم الذي رآه المجوس السلطان على المسيح المولود حديثًا، لم يكن هذا النجم أحد النجوم التي خُلقت في بدء الخليقة ويجرى في مساره حسب قانون خالقه، إنّما كان نجمًا جديدًا ظهر في هذا الميلاد العجيب من عذراء، وعكس خدمته على المجوس الباحثين عن امرأة، فتقدّمهم ليضيء لهم الطريق حتى قادهم إلى الموضع حيث فيه كان كلمة الرب كطفل. لم يُولد الطفل لأن النجم كان هناك، وإنما جاء النجم لأن المسيح قد وُلد. إن كان يجب أن نتحدّث عن المصير بالأحرى دعنا نقول لم يحدّد النجم مصير المسيح (كما يدَّعي المنجّمون) بل المسيح الذي حدّد مصير النجم.]
خامسًا: جاء النجم يكمّل شهادة الطبيعة للسيّد المسيح. إن كانت البشريّة العاقلة لم تعرف كيف تستقبله كما يجب انطلقت الطبيعة الجامدة تشهد له بلغتها الخاصة.
يقول القدّيس أغسطينوس: [شهدت له السماوات بالنجم، وحمله البحر إذ مشى عليه (مت 14: 25)، وصارت الرياح هادئة ومطيعة لأمره (مت 23: 27)، وشهدت له الأرض وارتعدت عند صلبه (مت 27: 51).] هكذا قدّمت الطبيعة تمجيدًا لخاِلقها بلغتها، ونحن أيضًا إذ صرنا سماءً يليق بنا أن نشهد له بظهور نجمه فينا يقود الخطاة إلى المسيّا المخلّص، ينحنون له ويتعبّدون بالحق. ما هو هذا النجم إلا سِمة الصليب الحيّ المعلن في حياتنا الداخليّة وتصرّفاتنا في الرب.
يقول القدّيس أغسطينوس: [عرفه المجوس بواسطة نجم كعلامة سماويّة وجميلة قدّمها الرب، لكنّه لا يرغب فينا أن يضع المؤمن نجمًا على جبهته بل صليبًا. بهذا يتّضع المؤمن ويتمجّد أيضًا، فيرفع الرب المتواضعين، هذا الذي في تواضعه تنازل.]
متى بدأ ظهور النجم؟
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النجم قد ظهر مبكرًا قبل الميلاد ربّما بحوالي سنتين، حيث قاد المجوس ليبلغوا بيت لحم في وقت الميلاد. ويرى البعض أنه ظهر عند ميلاده، وقد أخذ المجوس بعض الوقت حتى بلغوا بيت لحم، لهذا إذ تحقّق هيرودس الأمر أمر بقتل الأطفال من سنتين فما دون، إذ حسب المدّة بناءً على ظهور النجم.
بالنجم التقَى المجوس باليهود.
يروي لنا الإنجيلي اللقاء الذي تمّ بين المجوس واليهود على كل المستويات، خاصة الملك ورؤساء الكهنة وكتبة الشعب، إذ يقول: “ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهوديّة في أيام هيرودس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم، قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإنّنا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يُولد المسيح؟ فقالوا له: في بيت لحم اليهوديّة، لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل” [1-6].
لقد وُلد السيّد في “بيت لحم” التي تعني “بيت الخبز“، فجاء إلينا خبزًا سماويًا يتناوله الجياع والعطاش إلى البرّ. للأسف جاء المجوس من المشرق يحتملون آلام الطريق وأتعابه، يبحثون عن غذاء نفوسهم، بينما بقيَ الملك ورؤساء الكهنة والكتبة في أماكنهم يرشدون الغرباء للخبز الحيّ، وأما هم فلا يقتربون إليه. لعلّهم صاروا كالعاملين في بناء فلك نوح، الذين هيّأوا فلك الخلاص ولم يدخلوه!
حقًا ما أبعد الفارق بين المجوس ورؤساء اليهود، فقد تمتّع الغرباء بسرّ الحياة، وحُرم الرؤساء منه.
يقول القدّيس أغسطينوس: [صار اليهود أشبه بالنجّارين الذين صنعوا فلك نوح، فأقاموا لغيرهم طريق النجاة، أمّا هم فهلكوا في الطوفان. إنهم يشبهون المعالم التي توضع للكشف عن الطريق لكنها تعجز عن السير فيه. السائلون تعلّموا وكمّلوا الطريق، والمعلّمون نطقوا بالتعليم وبقوا متخلّفين.]
ويقول القدّيس يعقوب السروجي: [صاروا كارزين له وهم سائرون في الطريق، يبشّرون بأن ملكًا للعالم كلّه قد أشرق. انبسطت كرازتهم لأميال في الطريق، وكسروا قلوب الملوك الذين جازوا في تخومهم، حثّهم الحق ليكونوا له كارزين. الذين هم من الخارج صاروا شهوده وبلغوا أرض اليهوديّة… نظروها فإذا هي هادئة والسكوت يخيّم على حكمائها الذين لم يُدركوا الملك الآتي لخلاصهم. أتى البعيدون ليبشّروا القريبين بميلاد الملك. ابنة الكلدانيّين أرسلت الهدايا للمخلّص، وابنة إبراهيم التي في بيته لم تكرمه.]
ثورة هيرودس
تكرّر اسم هيرودس بين عدد من حكّام فلسطين وملوكها أو بعض أجزاء منها أو المناطق القريبة إليها، وفي العهد الجديد ذُكر أربعة ملوك بهذا الاسم، وكان ذلك أثناء الحكم الروماني على فلسطين، من بينهم هيرودس الكبير هذا. وكان هيرودس هذا أدوميًا مولدًا، تجري في عروقه العداوة ضدّ اليهود. لم يكن له حق المُلك، لكنّه صار ملكًا على اليهوديّة، بمساعدة الرومان الذين تحالف معهم أبوه، وكان عنيفًا وشاذًا صار في أواخر أيّامه عرضة للهواجس. كان محبًا لسفك الدماء، قتل الكثير من أعضاء السنهدرين، كما قتل ابنيه الإسكندر وأرسطوبولس، وقبل موته بخمسة أيام قتل ابنه أنتياباتير. وفيما هو يسلّم أنفاسه الأخيرة أمر بقتل جميع عظماء أورشليم حتى يعم الحزن المدينة، ولا يجد الملك الجديد مجالاً للبهجة، لكنّه مات قبل أن تتحقّق أمنيته الأخيرة.
مات هيرودس بعد قتل أطفال بيت لحم بثلاثة شهور، وقد وصف المؤرخ اليهودي يوسيفوس، كيف اشتدّت شراهته في الفترة الأخيرة في أكل اللحم بدرجة بالغة، وأصيب بمرض النقرس وداء الاستسقاء، وقد تصاعدت منه رائحة كريهة جدًا، حتى لم يقدر أحد أن يقترب إليه.
هذه الصورة تكشف لنا عن مشاعر هذا الوحش المفترس، عند سماعه عن موكب المجوس ومجيئهم للسجود لملك اليهود. لقد جمع عدوّ اليهود رؤساء الكهنة والكتبة يسألهم خشية أن يسحب الكرسي من تحته.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد خشيَ أن ترجع المملكة إلى يهودي، فيطرده اليهود هو وذرّيته ويقطعونهم من الملوكيّة. حقًا كثيرًا ما يتعرّض السلطان العظيم لمخاوف شديدة. فإن الأفنان (أعالي الأشجار) يمكن أن تحرّكها ريح خفيف، وهكذا الذين يسكنون الأماكن العالية تهزّهم كل إشاعة! أمّا الذين يقطنون الأماكن المنخفضة، أيّا كانت، فيكونون كالأشجار التي في الوادي غالبًا ما لا تؤثّر فيها الرياح.]
ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [اضطرب الملك الأرضي عندما وُلد الملك السماوي، لأن السيادة الأرضيّة تضطرب عندما تظهر العظمة السماويّة.]
اضطرب هيرودس الأرضي الذي اتسم بالشرّ عندما أدرك أن من تخدمه النجوم السماويّة قد جاء. حقًا إن تجلِّي رب المجد يسوع في القلب كما في مزود يزعزع هيرودس (الشيطان) الطاغية، الذي يملك بالشرّ. وكأنه إذ يملك الرب بصليبه فينا تنهار مملكة إبليس ولا تقدر أن تثبت.
أخفى هيرودس اضطرابه بمظاهر الخداع، إذ يقول الإنجيلي: “حينئذ دعا هيرودس المجوس سرًا. وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدّتموه فأخبروني، لكي آتي أنا أيضًا وأسجد له” [7-8]. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لكي يغريهم على ذلك تظاهر بالتقوى، مخفيًا السيف وراءها. رسم بالألوان شكل البساطة على حقد قلبه. هذا هو طريق كل فاعلي الشرّ، إذ يخطّطون في الخفاء ليجرحوا الآخرين، فيتظاهرون بالبساطة والصداقة.]
سجود المجوس
“فلما سمعوا من الملك ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًا. وأتوا إلى البيت، ورأوا الصبي مع مريم أمه، فخّروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم، وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرًا” [9-11]. إذ تركوا الملك ظهر لهم النجم وصار يتقدّمهم ليدخل بهم إلى حيث كان السيّد المسيح مضجعًا. ما أحوجنا أن نخرج من دائرة هيرودس الخفي، أي دائرة الخطيّة عمل إبليس، لتتكشّف لنا علامات الطريق الملوكي بوضوح.
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النجم الذي رآه المجوس وتقدّمهم إلى بيت لحم إنّما هو خدمة الفقراء والمحتاجين، إذ يقول: [رأوا النجم وكانوا فرحين، وها أنت ترى المسيح نفسه غريبًا وعريانًا ولا تتحرّك!… هم قدّموا ذهبًا وأنت بالكاد تقدّم قطعة خبز!]
برؤيتهم للسيّد استراحت قلوبهم وزالت عنهم كل المتاعب، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [قبل رؤيتّهم الطفل كانت المخاوف والمتاعب تضغط عليهم من كل جانب، أمّا بعد السجود فحلّ الهدوء والأمان… لقد صاروا كهنة خلال عمله التعبُّدي، إذ نراهم يقدّمون هدايا.]
ماذا تعني هدايا المجوس؟
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقدّموا غنمًا ولا عجول، بل بالأحرى قدّموا الأمور التي تقترب بهم إلى قلب الكنيسة، إذ جاءوا إليه ببداءة التقدمة: معرفة وحكمة وحبًا.]
ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [يقدّم الذهب كجزية الملك، ويقدّم البخور تقدمة لله، ويستخدم المرّ في تحنيط أجساد الموتى. لهذا أعلن المجوس بعطاياهم السرّيّة للذين يسجدون له بالذهب أنه الملك، وبالبخور أنه الله، وبالمرّ أنه يقبل الموت… لنُقدّم للرب المولود الجديد ذهبًا، فنعترف أنه يملك في كل موضع، ولنقدّم له البخور إذ نؤمن أنه الله ظهر في الزمان، مع أنه قبل كل زمان. ولنقدّم له المرّ، مؤمنين أنه وإن كان في لاهوته غير قابل للألم، فقد صار قابلاً للموت في جسدنا. ويمكننا أيضًا بهذه العلامات أن نفهم شيئًا آخر. الذهب يرمز للحكمة كما يشهد سليمان: “كنز مشتهى في فم البار” (أم 21: 20 الترجمة السبعينيّة). والبخور الذي يُحرق أمام الله يرمز لقوة الصلاة كقول المزمور: “لتستقم صلاتي كالبخور قدامك” (مز 141: 2)، والمرّ يرمز لإماتة أجسادنا، حيث تقول الكنيسة المقدّسة لعامليها الذين يعملون فيما لله حتى الموت: “يداي تقطران مرًا” (نش 5:5). إننا نقدّم للملك الجديد الذهب، إن كنّا في عينيّه نضيء بنور الحكمة السماويّة، ونقدّم له بخورًا إن كنّا نحرق أفكار الجسد على مذبح قلوبنا، فنرفع لله اشتياقاتنا السماويّة رائحة طيّبة. ونقدّم له المرّ عندما نُميت بالنسك شرور (شهوات) الجسد، فنقول إنه بالمرّ نحفظ الجسد الميّت من الفساد، كما نقول عن الجسد بأنه فسد متى غلبته الخلاعة، إذ قيل بالنبي، “تعفّنت الحيوانات في روثها”. الحيوانات التي تهلك في روثها تُشير إلى الجسدانيّين الذي يختمون حياتهم وسط غباوة شهواتهم. إذن فلنقدّم لله مرًا لحماية أجسادنا المائتة من فساد الخلاعة ويحفظ في الطهارة.]
إنصراف المجوس
“ثم إذ أوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم” [2].
في بساطة الإيمان قبِل هؤلاء الرجال ما أُوحيَ إليهم في حلم، ولم يتشكّكوا في الطفل. بالإيمان تركوا طريقهم الذي قدموا منه، ليسيروا في طريق أخرى، حتى لا يلتقوا بهيرودس، مقدّمين للمؤمنين مثلاً حيًا للنفس عندما تلتقي بالسيّد المسيح، إذ لا تعود تسلك في طريقها القديم حيث هيرودس (إبليس) يملك. ويرى الأب غريغوريوس الكبير إن هذا الطريق الجديد إنّما هو طريق الفردوس، الذي تلتزم النفس أن تسلكه خلال لقائها مع ربّنا يسوع.
ويقول القدّيس أمبروسيوس: [ لنرجع بعيدًا عن هيرودس صاحب السلطان الزمني إلى حين، فنأتي إلى المسكن الأبدي، إلى مدينتنا السمائيّة.]
في مرارة أقول إنه ليس شيء يحزن قلب الله مثل أن يرى منّا مجوسًا قد شاهدوا النجم السماوي، واستنار قلبهم وانطلقوا إلى حيث يوجد المخلّص، فانتزع عنهم كل تغرّب عن الله، وصاروا قريبين جدًا للآب، يحلّ فيهم ويجعلهم مقدّسا له بروحه القدّوس، لكنهم للأسف بعد أن قدّموا حياتهم هدايا ثمينة يفرح بها الرب، عادوا مرتدّين إلى طريق هيرودس، أيضًا إلى أعمال إنسانهم القديم وخضوعهم لإبليس، وكأنه – إن صح هذا التعبير – يسلّمون مسيحهم الداخلي لهيرودس، فيبيد منهم العدوّ ثمر نعمة الله السماويّة فيهم. في مرارة يوبّخهم الرسول بولس، قائلاً: “من خالف ناموس موسى، فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة، فكم عقابًا أشرّ تظنّون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحَسِبَ دم العهد الذي قُدِّس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة؟” (عب 10: 28-29). إذن ليتنا لا نرتدّ إلى طريق هيرودس المخادع، فلا نسلّم يسوعنا الداخلي في يديه فيصلب مرّة ثانية – إن صح التعبير – ويشهّر به بسببنا، وينطفئ الروح الذي فينا.
وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح
📖 كلمات من نور 🕯
{ هديتي لك }
“فلمّا [المجوس القادمين من الشّرق] رأوا النّجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا؛ ودخلوا البيت فوجدوا الصّبي مع أمّه مريم. فجثوا وسجدوا له، ثمّ فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا، ذهبًا وبخورًا ومرًّا”. (مت ٢: ١٠- ١١). 🎁 ⚱ 🕯
- المجوس قدّموا لك هدايا خارجية، ورمزية. ما عرفوك عن قرب، ليعرفوا ذوقك بالهدايا، ليقدموا لك ما يناسب طلبك وحاجتك.
- القديس بنوا، قدّم لك هدايا كثيرة… لكنها كلّها كانت من خيراتك، عاد وأدرك أنك تريد هدية من صنعه، فقدّمَ لكَ خطاياه، وكانت هي الهديّة التي تنتظرها منه، ومن كل إنسان.
المجد والحمد والتسبيح والشكران، لك أيها الربّ يسوع المسيح. يا هديّة السماء إلينا نحن القابعين في الظلام وظلال الموت، في عالم الأرض. المجد لك، أيّها الغنيّ لأنّك تبنّيت فَقرنا لتغنينا بفقرك. المجد لك، لأنّك كإله تريد أن نهديك خطايانا، لتغفرها لنا برحمتك، وتريد “نَعَمَنا”، لتصنع بنا العظائم. وكَمَلِك 👑 تريد قلوبنا لتغمرها بمحبّتك، التي هي اثمن الجواهر. وكإنسان، تريد منّا خدمتنا ومشاركتنا، مع أخواتنا الأكثر فقرًا وتهميشًا واحتقارًا وإذلالاً وبؤسًا واهمالاً حتى ننعم بكَ ☝ كلّنا، ونهتف إليك، الحمد والمجد والشكر.
👈 النجم دلَّ المجوس على يسوع، وكان لهم فرح عظيم. هل أنا بتواصلي اليومي، مع الناس، أهديهم بسيرتي إلى معرفة المسيح ❓❓❓
👈 صلاة القلب 💜
يا ربّ يسوع، هبني روح التوبة 🛐 لاقدّم خطاياي هديّة إليك.
يا ربّ يسوع، سيّدي وملك حياتي، أني أقدّم لك طاعة إيماني، لتجعل حياتي كلّها “نَعَم” لارادتك ☝
يا ربّ يسوع، إلهي ومخلّصي، إني اقدّم لك خطاياي 🛐 لتحولها برحمتك، نِعَمْ تجدّد حياتي.
يا ربّ يسوع، يا ابن الإنسان، أقدّم لك إنسانيتي المعطوبة، لكي تصيغها بروحك 🔥 لتصبح مثل إنسانيتك.☝
👈 نيّة اليوم: نصلّي، من أجل أن تكون أثمن هديّة نقدمها ليسوع، خطايانا 🛐. واثمن هدية نتبادلها مع بعضنا، المحبة والتسامح وأثمن هدية نقدمها للفقراء، مشاركتهم، ومقاسمتهم، لكل ما عندنا.