عماد مرمل-
يعتبر السنيورة أنّ من “أهم معالم وجود الدولة هو القضاء الذي يجب أن لا يكون هناك أي حائل بينه وبين ممارسته سلطته العادلة والنزيهة، من دون انحياز أو محاباة لأحد على حساب الآخر”، مشيراً الى أنّ تجربته الشخصية “تُبيّن حصول تسخير للقضاء في اتجاه تصفية حسابات سياسية، كما حصل على سبيل المثال حين افتعلوا ما سمّي فضيحة برج حمود وحاولوا إلباسي إيّاها، بحيث أصبح يصح القول: “ليش أنفخ عاللبن؟ لأنّ الحليب كاويني”. ومع ذلك، ليس لنا إلا ان نؤكد ضرورة قيام القضاء النزيه، لأنه إذا فسد الملح، فبماذا يُمَلّح؟”
وفي موقف لافت، ينوّه السنيورة بالكلام الذي أدلى به الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير، لجهة تشديده على مرجعية القضاء وضرورة ان يؤدي دوره حتى النهاية، بعدل ونزاهة، معتبراً أنّ موقف نصرالله يضعه أمام مسؤولية الالتزام به.
ويؤكد السنيورة أنّ “كلام نصرالله في هذا الجانب مهم جداً، وهو محق في أنّه لا يصح أن يُطلق أيّ كان اتهامات عشوائية بالرشوة والفساد، ضد هذا او ذاك، من دون الاستناد الى ركيزة صلبة او ملف متين، خصوصاً أنّ من شأن استسهال الاتهام أن يقود الى إصدار أحكام ميدانية، كتلك التي كانت تصدر أيام الثورة الفرنسية”، منبّهاً الى أنّ هذا الامر مخيف “ولا يجلب الاستقرار، بل ولا حتى رغيف خبز”.
ويوضح السنيورة أنّ “المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم لم يترك تفصيلاً يتعلق بمسألة الـ11 مليار دولار إلّا وناقشه معي خلال جلسة الساعات الثلاث والنصف في مكتبه، بدءاً بفترة تسلمي وزارة المالية وصولاً الى مرحلة رئاستي للحكومة، وكل نقطة طرحها سدّدناها”، مؤكداً أنه فخور بما قام به “ولو انّ الزمن عاد بي الى الوراء لكرّرت ما فعلته”.
ويلفت الى أنّ كل قرش يخرج من الدولة يتطلّب تواقيع عدة، ويمر في آلية إدارية متكاملة، “من هالِك الى مالِك الى قبّاض الارواح. وبالتالي، فالقصة ليست قصة أنك تغرف كما تشاء من خزينة الدولة”، مشيراً الى أنّ “أصل المشكلة يعود أساساً الى انّ هناك مَن عطّل مجلس النواب وصارت السنوات تمر من دون وضع موازنات عامة، لينتهي بنا الامر هنا”.
ويشدد السنيورة على انّ “طريقة إنفاق الـ 11 مليار دولار خلال حقبة ترؤسه الحكومة هي قانونية، ومعظم الحكومات اللاحقة التي تعاقبت على السلطة منذ عام 2010 حتى عام 2016 فعلت الشيء نفسه لناحية الصرف فوق السقف المحدّد بالطريقة إيّاها. ولكن إذا سلّمنا فرضاً لسلامة البحث، أنّ ما قمت به كان غير قانوني، فهذا مؤدّاه انّ الحكومات المتعاقبة أخطأت أيضاً، ما يعني أنّ أي ادّعاء قضائي لا يجب ان يقتصر عليّ، بل ينبغي ان يشمل كذلك وزراء المالية السابقين من جهاد أزعور الى علي حسن خليل، والرؤساء سعد الحريري ونجيب ميقاتي وتمام سلام، متسائلاً: لماذا يصوّبون عليّ ويتجاهلون الآخرين؟”
ويعتبر السنيورة أنّ الهدف من تركيز الحملات عليه هو تدميره واغتياله معنوياً، مشيراً الى انّ “القضاء يخضع الآن في هذا الملف الى امتحان مفصلي، وأتمنى أن ينجح فيه ويحقق العدالة”.
وتعليقاً على اعتصام الحراك امام مكتبه في بيروت ومنزله في صيدا، يحذّر السنيورة من “مُندسّين في التظاهرات، يحاولون حرف وجهة الحراك وصرف انتباهه نحو مسائل غير صحيحة”، معتبراً انّ “هناك فئة من المُضَلَلين والمُضَلِلين في الساحات”، ومشدداً على أهمية المسعى الذي يبذله الحراك باستمرار لنبذ المتسلقين عليه، “خصوصاً أن أحزاباً كثيرة تحاول ان تندسّ في صفوفه”.
وبالانتقال الى المأزق السياسي الحالي، يرى السنيورة انّ تخريب النظام الديموقراطي في الأعوام الماضية، ولاسيما خلال السنوات الثلاث الأخيرة، هو الذي أفضى الى ولادة الحراك، متسائلاً: من سيراقب من؟ وكيف ستتحقق المساءلة والمحاسبة، ما دام معظم القوى الموجودة في مجلس النواب ممثلة في الحكومة؟
وينتقد نزعة التقاسم والمحاصصة التي طغت على سلوك القوى السياسية، تحت مظلة التسوية، مستنتجاً أنّ تجربة الحكومات الائتلافية أثبتت إخفاقها، ومحذّراً من أنّ إعادة إنتاجها مجدداً ستؤدي الى الإخفاق نفسه، “مع فارق انّ كلفته هذه المرة ستكون باهظة جداً”.
ولتقريب الصورة، يروي السنيورة الطرفة الآتية: “حَكم أحد القضاة مرة بإدانة متهم كان يَمثل أمامه، إلّا انه سمح له بأن يختار إحدى 3 عقوبات هي: تناول مئة قرن من الحر، دفع مئة ليرة من الذهب، أو ضربه مئة جلدة. فكّر المذنب قليلاً ثم اختار العقوبة الاولى مفترضاً انها الاقل وطأة، وراح يتناول قرن الحر تلو الآخر، لكنه ما لبث أن صرخ لشدة اللهيب، قائلاً إنه لم يعد يحتمل، وطلب تنفيذ العقوبة الثانية. فلمّا تلاحَق ضرب السياط على ظهره علا صراخه من الألم وناشَد الجلاد ان يتوقف، ثم طلب تنفيذ العقوبة الثالثة وهي دفع ليرات الذهب”.
يصمت السنيورة لبرهة، ثم يقول: “نحن الآن نتناول قرون الحر، ولكم أن تتخيّلوا الآتي ما لم نُحسن التصرّف”.
ويضيف: المسطرة القديمة لم تعد صالحة للاستعمال كأداة قياس، وعلى الجميع ان يدركوا انّ ما بعد 17 تشرين الاول ليس كما قبله. هذه حقيقة لا يجوز ان يستمر البعض في إنكارها، ومن يصرّ على الانكار يكون كمَن هو عالق في حفرة ويحفر نزولاً، بينما المطلوب الاستعانة بسلم للخروج من تلك الحفرة.
ويشدد على أنّ الاولوية حالياً هي لاستعادة السنتمتر الاول من الثقة المفقودة بين الناس والدولة، “وهذا يستوجب تأليف حكومة تكنوقراط برئاسة الرئيس سعد الحريري الذي يشكل الخيار الافضل لمواجهة تحديات هذه المرحلة الصعبة التي تتطلب مقاربة جديدة، تختلف كلياً عمّا كان سائداً في السابق”.
ويرى السنيورة أنّ مسألة الحكومة الجديدة يجب ان تكون جزءاً من سلة كاملة، تشمل التقيد باتفاق الطائف والدستور، واحترام سلطة الدولة وقواعد استقلالية القضاء، وتطبيق معيار الجدارة والكفاءة في تحمّل المسؤوليات، واعتماد الحكمة في السياسات المالية والداخلية والخارجية، “أي انّ المطلوب باختصار الخروج من الزواريب الى الاوتوستراد”.
ويستغرب إجراء مشاورات تأليف الحكومة قبل الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية الرئيس المكلف، ملاحظاً انّ “هذا السلوك ينطوي على استعادة لنمط الجمهورية الاولى التي كانت قائمة قبل عام 1989”. كذلك، يستهجن أن يتولى رئيس جمعية المصارف سليم صفير تلاوة البيان بعد الاجتماع المالي في قصر بعبدا، في حين انّ المتظاهرين يهتفون: يسقط حكم المصرف.
وتعليقاً على اقتراح السيد نصرالله بالاستدارة نحو الشرق اقتصادياً، يعتبر السنيورة انّ “الصين ليست حاتم طي، علماً أنها عندما تنفّذ مشروعاً في دولة ما، فإنها تُحضِر معها حتى عاملي النظافة، بمعنى انها تخدم مصلحتها في الدرجة الاولى”، لافتاً الى أنّ الانفتاح على الاسواق السورية والعراقية “هو أمر طبيعي ومشروع”، “لكن هل لبنان قادر على الدخول إليها بالشكل السليم؟”.
ويؤكد السنيورة انّ هناك أملاً في تفادي الانهيار الشامل، “إنما على أصحاب الشأن ان يعلموا انّ فترة المعالجة بالمراهِم انتهت، ولبنان لم يعد يملك لا ترف الانتظار ولا ترف الاختيار، ما يستوجِب المباشرة على الفور في اتخاذ القرارات التي تؤدي الى إطفاء الحريق وبدء استعادة الثقة في الدولة، وبعد ذلك يمكن البحث في إمكان إجراء انتخابات نيابية مبكرة”.
-الجمهورية-