– كلمة قدسهم Hagiason” مشتقة من مقطعين: “َA” أو “Ha.. (عن القديسين: أغسطينوس؛ يوحنا الذهبي الفم؛ باسيليوس الكبير؛ أمبروسيوس؛ كيرلس الكبير)
* ♰ *
تفسير للإنجيل المقدس لإنجيل اليوم المقدس (إنجيل القديس يوحنا البشير ١٧: ١٤-١٩)
“أنا قد أعطيتهم كلامك، والعالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم، كما إني أنا لست من العالم”. (14)
يسأل الآب أن يقف مع المؤمنين كصديقٍ شخصيٍ لهم، لأن لهم أعداء كثيرون، لأن العالم يقدم لهم الكراهية بلا سبب إلا لأنهم ليسوا من العالم، ويحثوا البشرية على الخروج من العالم الشرير، ليتمتعوا بالقدوس. لهذا يقول المرتل: “أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب… لأني من أجلك احتملت العار” (مز ٦٩: ٤، ٧). إذ قبلوا الكلمة الإلهي لم يعد يطيقهم العالم، لأنه لا يقبل الخلاص. العالم يحتقر ما يُقدم له لأجل مجده، ويبذل كل الجهد ليدمر الإيمان الذي يحطم الدمار. هكذا فإن أبناء العالم يرفضون كلمة المجد والخلاص ويكرسون طاقاتهم لتحطيم الإيمان الحي، فيحطمون أنفسهم وهم لا يدرون.
يعلم العالم أنهم كانوا منه، والآن صاروا ليسوا منه، صاروا خليقة جديدة (2 كو 5: 17)، أشبه بعالمٍ جديدٍ منافسٍ له، مع أنه عالم حب وبذل وخدمة حتى للمقاومين. يبقى العالم القديم يبذل كل الجهد حتى لا يفلت أحد من يديه، إذ يريد أن يكون الكل منه. قد يعجب بقدراتهم وإمكانياتهم وسلوكهم، لكنه في أنانيته لن يكف عن إغرائهم للعودة إلى أحضانه، أو مقاومتهم للخلاص منهم.
يوجد مثل يهودي قائل: “إن لم يعرف العالم قيمة الأبرار فيه يقيم (بالكراهية لهم) سياجًا من اللآلئ يحميهم”.
صلاة السيد المسيح الوداعية تكشف عن عمل الله الفائق في حفظ الخدام والمؤمنين وكلمة الكرازة. بدون هذه النعمة الإلهية لاندثر الإيمان منذ أجيال طويلة، فعبر كل القرون كتَّل العالم طاقاته لإبادة الإيمان وتحطيم الكنيسة وتدمير المسيحيين، لكن تبقى كلمات السيد المسيح هي سرّ بقاء الإيمان والمؤمنين إلى اليوم.
إنه الآب القدوس الذي يقول: “مرة حلفت بقدسي، إني لا أكذب لداود” (مز ٨٩: ٣٥). بكونه القدوس لا يطيق الخطية، ويحسب المقدسين له، ويحفظهم من الخطية التي هم أيضًا يبغضونها ويحسبونها شرًا خطيرًا. إنه كأب قدوس يهتم بأبنائه ويعلمهم ويحفظهم تحت رعايته مباشرة. هم بأنفسهم عاجزون عن أن يثبتوا فيما نالوه من نعم إلهية، لذا فهم محتاجون إلى عون إلهي. يُحفظون لحساب الله كأبناء له.
إذ نصير راسخين في الفضيلة ويضطهدنا الأشرار، أو عندما نرغب في الفضيلة فيسخرون بنا، لا نرتبك ولا نغضب، فإن هذه الأمور طبيعية، وفي كل موضع توَّلد الفضيلة كراهية لدي الأشرار. لأنهم يحسدون الذين يريدون أن يعيشوا بلياقة، ويفكرون في إيجاد عذر لأنفسهم إن أهانوا سمعة الآخرين.
إنهم يبغضونهم لأنهم يسلكون على خلافهم، ويستخدمون كل وسيلة ليُهينون طريقة حياتهم.
يلزمنا ألا نحزن، إذ هذه هي علامة الفضيلة. ولهذا السبب يقول السيد المسيح: “لو كنتم من العالم، لكان العالم يحب خاصته” (15: 19)، وفي موضع آخر يقول: “ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنًا” (لو 6: 26). وبهذا المعنى يقول هنا: “أنا أعطيتهم كلامك، والعالم يبغضهم”. إذ يقول: “لأجلك ولأجل كلمتك ابغضوهم”، لهذا يؤهلوا للتمتع بكل عناية إلهية. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
هذه الكراهية (من العالم) لم تكن بعد قد لحقت بهم في حياتهم، لكنها تحققت فيما بعد.
إنه يتحدث كعادته عن المستقبل في صيغة الماضي. وقد ألحق ذلك بسبب بغض العالم لهم قائلاً: “لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لست من العالم” (١٤). هذا قد مُنح لهم خلال ميلادهم الجديد، لأنهم حسب ميلادهم كانوا من العالم، كما سبق فقال لهم: “أنا اخترتكم من العالم” (يو ١٥: ١6). إنه امتياز لطيف وُهب لهم أن يصيروا مثله إذ هو “ليس من العالم” وذلك خلال الخلاص من العالم الذي قدمه لهم. على أي الأحوال لم يكن هو قط من العالم، فإنه حتى بالنسبة لأخذه شكل العبد وُلد من الروح القدس الذي وُلدوا هم منه ثانية. فإن كانوا هم بسبب هذا لم يعودوا بعد من العالم لولادتهم الثانية من الروح القدس، فبنفس السبب لم يكن هو قط من العالم لميلاده (تجسده) من الروح القدس. (القديس أغسطينوس)
“لست اسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير“. (15)
إذ طلب من الله أن يحفظهم من العالم الشرير أوضح أنه يوجد طريقان لحفظ أولاد الله من العالم.
الطريق الأول أن يأخذهم من العالم بموتٍ مفاجئٍ سريعٍ ليعبروا إلى عالم أفضل. هذا ما اشتهاه بعض رجال الله عندما ضاق بهم الأمر؛ مثل أيوب وإيليا ويونان وموسى، حين اشتدت بهم الضيقات والتجارب. لكن السيد المسيح لم يطلب هذا الطريق لتلاميذه، لأنه جاء إلى العالم ليقدم لمؤمنيه حياة النصرة خلال حمل الصليب، لا أن يهربوا من العالم. ولأن السيد جاء إلى العالم ليخدم البشرية، فصار العالم غير مستحقٍ للمؤمنين (عب ١١: ٣٨).
إن كان العالم بشره صار مظلمًا، فقد جاء السيد المسيح نورًا للعالم يغلب الشر والظلمة، وأقام من تلاميذه كواكب منيرة تضيء في العالم. محبة السيد لمؤمنيه لم تدفعه لسحبهم فورًا من العالم المظلم، وإنما لتقديسهم ليضيئوا في العالم، لهم روح النصرة. لقد اشتهى إرميا النبي أن يهرب إلى البرية (إر ٩: ٢)، لكن مسيحنا يعمل بالكل، وكما يقول بولس الرسول: “وأنا أشكر المسيح يسوع ربنا الذي قوَّاني أنه حسبني أمينًا إذ جعلني للخدمة” (٢ تي ١: ١٢). وكتب القديس بطرس: “فإذا الذين يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعوا أنفسهم كما لخالقٍ أمينٍ في عمل الخير” (١ بط ٤: ١٩). فلا يستطيع حتى الراهب المتوحد أن يهرب من شعوره بالالتزام بالعمل بوسيلة أو أخرى من أجل تقديس العالم. لم يطلب الابن من الآب أن يرسل مركبات نارية تحمل تلاميذه إلى السماء ليخرجهم من وجه العالم الشرير.
والطريق الآخر أن يهبهم روح القوة والنصرة على شر العالم، هذا ما طلبه السيد لتلاميذه، وهو حفظهم من الفساد الذي حلَّ بالعالم، وذلك أن يعهد بهم في حضن الآب، فلا يقترب إليهم الشرير. إنه لم يطلب حفظهم بإزالة التجارب والضيقات من طريقهم، وإنما لينعموا بالنصرة في صراعهم ضد الشر، وشهادتهم لإمكانيات النعمة الغنية العاملة فيهم.
ماذا يقول المسيح للآب؟…. “احفظهم من الشرير”، يعني من الشر الأخلاقي، من الرذيلة، وضعف القلب.
لا يتكلم لأجل خلاصهم من التجارب فحسب، بل ايضًا من أجل استمرارية إيمانهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
من المهم وجودهم في العالم، وإن كانوا لم يعودوا بعد ينتسبون إليه. (القديس أغسطينوس)
“ليسوا من العالم، كما إني أنا لست من العالم”. (16)
يطالب بحفظهم لأنهم تشبهوا به، إذ صاروا كمسيحهم ليسوا من العالم، لا تشغلهم ملذات العالم، ولا يرتبكوا لأتعابه، لأن خدمتهم لمسيحهم تبتلع أفكارهم، وتملأ قلوبهم.
فإن قلت: وما معني قول السيد المسيح أن تلاميذه: “ليسوا من العالم”؟ أجبتك: إنهم ينظرون إلى عالم آخر، وليس فيهم شيء من الأرض، لكنهم قد صاروا كمواطني السماوات. بهذه الأقوال أظهر السيد المسيح حبه لهم إذ مدحهم عند أبيه واستودعهم عنده.
القديس يوحنا الذهبي الفم
ربما يُسأل: إن كانوا لم يعودوا بعد من العالم، سواء وهم لم يتقدسوا بعد في الحق أو تقدسوا فعلاً، فكيف يطلب هكذا (ألاَّ يأخذهم من العالم)؟ أليس هذا لأن حتى هؤلاء الذين تقدسوا يلزم أن يستمروا لأجل نموهم في التقديس، أو في القداسة؛ وهذا لا يتم بغير نعمة الله، بتقديس نموهم كما قدسهم في البداية؟ من هنا يقول بولس عن نفس الأمر: “الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحًا يكمل إلى يوم يسوع المسيح” (في ١: ٦). (القديس أغسطينوس)
طلبة من أجل تقديسهم.
“قدسهم في حقك، كلامك هو حق”. (17)
ما معنى “قدسهم”؟ لا يقف عمل الله فيهم عند حفظهم من من الشر والشرير، وإنما يمتد إلى العمل الإيجابي أن يسلكوا بالقداسة والصلاح وعمل البرّ، يطلب أن تلتهب قلوبهم بحب القداسة. تقديسهم أيضًا يحمل معنى النمو المستمر في الإيمان والالتهاب الدائم للقلب بروح الله.
أما وسيلة التقديس فهي “في حقك”، أي خلال كلمة الله. بالكلمة والصلاة يتقدس كل عمل كنسي كالأسرار المقدسة، وأيضا تتقدس النفس، ويتقدس خدام الله.
بالتقديس مارس الأنبياء عملهم مثل إرميا ١: ٥؛ وأيضًا الكهنة واللاويين. هكذا بالتقديس يتأهل خدام العهد الجديد للعمل ويتكرسوا له (رو ١: ١). هنا يقوم السيد المسيح كرئيس الكهنة بتقديس الكهنة.
كلمة “قدسهم Hagiason” مشتقة من مقطعين: “َA” أو “Ha” وهي في اليونانية تعني النفي، وgee تعني “الأرض”، أي “لا أرض”. وكأن القداسة هي نزع كل ما هو أرضي من القلب، ليتفرغ لحب الله وعبادته وخدمته. وهي تحمل أيضًا معنى “النقاوة” حيث يتنقى القلب من كل شائبة زمنية ليحمل سمة روحية سماوية. الكاهن أو الخادم الذي يرتبك بأمور العالم حتى في خدمة الكنيسة يهين الإنجيل، ويفقد الحق الإلهي، ويخسر قدسية قلبه الداخلي.
جاءت كلمة “مقدس” في العبرية بمعنى تقديم ذبيحة، إذ صارت الذبيحة مخصصة لله وحده، غايتها تمتع الشعب بالشركة مع الله القدوس، بكونهم شعب الله.
سمة “القداسة” خاصة بالله القدوس وحده، لهذا يسبحه السمائيون قائلين: “قدوس، قدوس، قدوس”. فتقديسنا لا يحمل سوى معنى اتحادنا مع القدوس، وتمتعنا بالشركة في الطبيعة الإلهية. الحياة المقدسة ليست مجرد حياة أخلاقية فاضلة، لكنها ارتباط بالحياة الإلهية، وتمتع بعمل القدوس.
ماذا يعني بكلماته: “قدّسهم في حقك” (١٧) سوى “قدّسهم فيّ”… فالآب يقدس في الحق، أي في كلمته، في ابنه الوحيد، يقدس ورثته والوارثون مع الابن. (القديس أغسطينوس)
“قدسهم في حقك”، بمعنى “اجعلهم قديسين بعطية الروح والتعاليم الصادقة”. كما أنه عندما قال: “أنتم أنقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به” (يو 15: 3). هكذا يقول الآن نفس الشيء: “أرشدهم، علمهم الحق”… فإن النطق بالتعاليم المستقيمة بخصوص الله يقدس النفس. وإذ يقول إنهم يتقدسون بالكلمة، لا يتوقف ذلك على أعمالٍ العجيبة… إذ يعرف أن كلمة الله هي أيضًا تطهر. لكن القول: “قدسهم” يبدو لي أيضًا أن تعلن عن أمر آخر مشابه. “كرسهم (اعزلهم) لأجل الكلمة والكرازة. هذا ما يظهر مما جاء بعد ذلك. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
الآب والابن والروح القدس يقدسوا معًا، ويُحيوا، وينيروا، ويهبوا راحة. لا ينسب أحد طاقة التقديس على وجه خاص ومعين لطاقة الروح، بعد سماعه قول المخلص “قدسهم في اسمك” (يو17: 11، 17). هكذا كل الطاقات تتحقق بالتساوي للمتأهلين لها بواسطة الآب والابن والروح القدس، بمعنى كل نعمة وفضيلة وإرشاد وحياة وتعزية وتحول إلى عدم الموت والعبور إلى حياة الحرية وكل الأمور الصالحة الأخرى النازلة إلى الإنسان. (القديس باسيليوس الكبير)
كما أن الآب يقدس، هكذا أيضًا الابن يقدس، والروح القدس يقدس.
الآب يقدس حسب المكتوب: “إله السلام نفسه يقدسكم بالتمام، ولتُحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح” (1 تس 13:5). وفي موضع آخر الآب يقدس: “أيها الآب قدسهم في حقك” (17).
ويقول نفس الرسول عن الابن: “قد صار لنا حكمة من اللَّه وبرًا وتقديسًا وبرًا” (1 كو30:1)…
ويعلم الرسول أيضًا أن الروح القدس يقدس، إذ يقول: “وأما نحن فينبغي لنا أن نشكر اللَّه كل حين لأجلكم أيها الاخوة المحبوبين من الرب أن اللَّه اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق” (2تس13:2)…
لكن التقديس واحد، لأن المعمودية واحدة، ونعمة السرّ واحدة. (القديس أمبروسيوس)
“كما أرسلتني إلى العالم لا أرسلتهم أنا إلى العالم”. (18)
إذ كرس الابن نفسه لعمل الخلاص بعثه الآب في إرسالية لتحقيق هذا العمل الإلهي. لقد دُعي بالشفيع (١ يو ٢: ١)، والرسول (عب ٣: ١)، والخادم (رو ١٥: ٨)، والمُرسل (غلا ٣: ١)، لكنه أُرسل كابن لله، وليس مثل الخدام والعبيد.
لماذا يربط إرساليته من عند الآب بإرساليتهم من قِبَله؟ لأن الإرسالية صعبة والمهمة قاسية، لهذا أراد أن يؤكد لهم أنه يقف بجوارهم، ويعمل معهم وبهم وفيهم، لأن عملهم هو امتداد لعمله هو. كابن الإنسان قبل السيد المسيح عطايا من أجل الناس (مز ٦٨: ١٨)، قدمها بعد ذلك لهم (أف ٤: ٨).
إذ قدم نفسه ذبيحة، فتح الطريق لرسله أن يشاركوه الحب العملي فيصيروا بالثبوت فيه ذبائح مقدسة (في ٢: ١٧؛ ٢ تي ٤: ٦). صار موت القديسين عزيز في عيني الرب، لأنه يرتبط بموت المسيح.
أرسل الآب ابنه ليس في الجسد الخاطئ، بل في شبه الجسد الخاطئ (رو٨: ٣). وأرسل ابنه أولئك الذين وُلدوا في الجسد الخاطئ وقد تقدسوا به من دنس الخطية. (القديس أغسطينوس)
كان من عادته أن يتحدث عن المستقبل كأمرٍ قد حدث فعلاً. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
“ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق”. (19)
إذ بإرادته يسلم نفسه للموت ليفتدي البشرية يحسب أنه قدس ذاته أو كرس حياته كلها لاقتناء خلاصنا. وكما يقول الرسول بولس: “وأما المسيح… بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءً أبديًا” (عب ٩: ١١- ١٣). لقد كرس حياته بالكامل ليتعهد خلاص بني البشر، ليس ما يشغله سواهم، خاصة وأنه الوحيد القادر أن يقدم نفسه ذبيحة بلا عيب عن العالم كله. الآن بكونه رئيس وفي نفس الوقت هو الذبيحة، فتقديسه لنفسه ليس بالأمر الخارجي. إنه غير محتاج إلى دم حيوانات لتقديسه، لأنه بلا خطية، إنما بإرادته كرس كل إمكانياته لتقديس خدامه وشعبه، حتى الموت موت الصليب.
كما كرس الابن رسالته في خلاص البشرية، كمن لا يوجد ما يشغله سوى الإنسان، هكذا يتقدس المؤمن فيكرس كل إمكانياته وطاقاته ووقته لمحبوبه المسيح الذي هو “الحق”. هذا ما تمتع به الرسول بولس فدعا نفسه “المفرز لإنجيل المسيح” (رو ١: ١). هذا ما ناله الأنبياء فيسمعون الصوت الإلهي: “قبلما خرجت من الرحم قدستك” (إر ١: ٥). هكذا كان مفهوم الكهنة واللاويين أنهم مكرسون لخدمة الله. والمؤمن أيضًا وإن لم يتفرغ بوقته للخدمة والكرازة والعبادة، فإن قلبه يتقدس حيث يعمل كل شيء لمجد الله، حتى أكله وشربه ونومه!
يقول هنا يقدس نفسه، وليس أنه يعين نفسه على التقديس بتطهير النفس أو الروح، ولا لكي يشترك في الروح القدس، لأن الروح القدس فيه بالطبيعة، وهو دائمًا وأبدًا مقدس، وسيظل هكذا. يقول هنا: “أقدس أنا ذاتي”، لأنني أقدم نفسي وأحضرها كذبيحة بلا عيب لرائحةٍ ذكيةٍ، لأن ذاك الذي يؤتى به إلى المذبح الإلهي كان مقدسًا، أو يُدعى حسب الناموس مقدسًا.
إذ هو شريك الآب في الوجود سرمديًا يتقبل البنوة بالروح، وبكونه صار في الجسد صار مشابهًا الأبناء بالتبني… لهذا يُقال إنه تقدس. فالتقديس هو خاص بناسوته، أو الجسد، لأن الطبيعة البشرية لا يمكنها أن تقتني القداسة من ذاتها. (القديس كيرلس الكبير)
ماذا يعني: “أقدس ذاتي؟” أقدم ذاتي ذبيحة، فالذبائح كلها تُدعى مقدسة، والتي تقدم لله فهي على جهة التحقيق مقدسة. هذا يقوله إما لأن رأسهم كان في طريقه أن يكون هكذا، أو لأنهم هم أيضًا يُقدمون ذبيحة، إذ قيل: “قدموا أجسادكم ذبيحة حية” (رو 12: 1). (القديس يوحنا الذهبي الفم)
قال الرب هذا لكي تعرف أنه هو مقدس في الجسد لأجلنا، وأيضًا يقدس بفضيلة لاهوته. (القديس أمبروسيوس)
ليس فقط تقدس الكلمة كإنسانٍ، وإنما يقدس ذاته، إنه مصدر التقديس لناسوته. يؤكد القديس كيرلس الكبير أن السيد يقدس جسده. إنه يقبل الروح الذي هو روحه، يقبله بكونه إنسانًا، لكنه يهب الروح لنفسه بكونه اللَّه. صنع هذا لأجلنا، لا لأجله هو.
الكلمة الذي يسكن في جسده يقدس ذات هيكله بالروح القدس ويحول إياه إلى صورة (قوة) طبيعته.
إن قال أحد أن الرب يسوع المسيح الواحد قد تمجد بالروح القدس، بكونه استخدم به قوة غير قوته هو، وأنه منه نال قوة ضد الأرواح الشريرة، وقوة لصنع المعجزات أمام الناس، ولا يعترف أنه هو روحه الذي به يعمل هذه الإلهية، فليكن محرومًا. (أناثيما 9 للقديس كيرلس الكبير)
ماذا عني بكلماته: “ولأجلهم أنا أقدس ذاتي” (١٩) إلاَّ إني أقدسهم فيّ، إذ هم (جزء) مني؟ فإن هؤلاء الذين يتحدث عنهم، كما قلت هم أعضاؤه؛ والرأس مع الأعضاء هم المسيح. وذلك كما يعلم الرسول عند حديثه عن ذرية إبراهيم: “فإن كنتم للمسيح فأنتم إذًا نسل إبراهيم”، وذلك بعد قوله: “لا يقول وفي الأنسال فإن كان نسل إبراهيم هو المسيح” (غلا ٣: ١٦-19)، فماذا يُعلن للذين يقول لهم: “أنتم إذًا نسل إبراهيم” سوى أنتم المسيح؟ وبنفس السمة يقول الرسول نفسه في موضع آخر: “الآن أفرح في آلامي لأجلكم، وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي” (١ كو ١: ٢٤). لم يقل شدائدي بل “شدائد المسيح”، لأنه كان عضوًا في المسيح، وفي اضطهاداته إذ تعَّين للمسيح أن يحتملها في كل جسده، كان يملأ نصيبه من الشدائد. ولكي تتأكد من هذا في العبارة الماثلة أمامنا لاحظ ما يلي بعد ذلك… “ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق” (١٩). وماذا يعني هذا سوى “فيّ”، وذلك حسب الحقيقة أن الحق هو الكلمة التي في البدء، والتي هي الله؟ (القديس أغسطينوس)
وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح.. دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح