انحلال أخلاقي.. وشكرًا للذي أوجد السيدة ليلى عبد اللطيف، فالأكذوبة لا تدوم مهما طال عمرها.
أ.د. جورج زكي الحاج –
عندما نسمع أحد المسؤولين الأميركيين يقول منذ مدةٍ قصيرة إنّ أميركا أنفقت 500 مليون دولار لإعلاميين لبنانيين ولبعض السياسيين لتشويه صورة “حزب الله”، ولعرقلة الانتخابات الرئاسية، نُدرك أمرين:
الأمر الأول: هو الانحلال الأخلاقي، وفقدان الحس الوطني، والدناءة والخساسة عند بعض الإعلاميين الذين مهمتهم هي كشف الحقيقة، والوقوف إلى جانب الوطن قبل أيّ شيءٍ آخر، وليس غير ذلك.
الأمر الثاني: هو تأكيد ما كنا نقوله ونُنبّه إليه منذ مدةٍ غير قصيرة، وقد كتبته في غير مقالةٍ، وهو وجود بعض الإعلاميين المأجورين الذين يمتهنون سياسة التقسيم والانقسام، وإبقاء النار الدّاخلية مستعرةً، وقد كان ذلك مكشوفًا وواضحًا لكل لبيبٍ يفقه ما وراء القصد، خصوصًا عندما نرى عددًا معيّنًا من جهابذة الإعلام يدورون من قناةٍ إلى قناة، على مدى شهورٍ طويلة، ومهمتهم السباب والشتائم ودسّ السموم، وإلهاء الناس عن القضيّة الكبرى التي هي الوطن، والتلهي بحرتقاتٍ داخلية، حتى أنهم صنعوا من الديوك نسورًا وبزاةً، وحتى حسبنا أنّ سياسة الشرق الأوسط والعالم تنبع من أفواههم، لأنهم يعرفون ماذا دار بين الرئيس أوباما والسيّدة كلينتون، وماذا أسرّ الرئيس بوتين لدونالد ترامب في خلوتهما السرّية… وهم لا يفقهون في الفكر السياسي شيئًا، وإنما كان همُّهم تنفيذ المهمة الموكلة إليهم، والتي كانوا يتقاضون أجرها.
وعلى الرغم من حصول الانتخابات الرئاسية، وفوز العماد عون وفشل تحليلاتهم الهمايونية، وتكذيب مُنَجّمَتِهِمْ الألمعية، وعلى الرغم من تصريح المسؤول الأميركي وفضحهم… ما زال بعضهم يُكمل المسيرة، مُتّكلاً على بعض الوسائل الإعلامية التي تحاول أن تجد لنفسها مكانًا في السياسة، وقد غَيَّروا هدفهم هذه المرّة، وتحوّلوا إلى زرع بزور الخلاف بين حليفين كبيرين هما: التيّار الوطني الحر وحزب الله، وتحديدًا بين صادقين وفيين هما الرئيس العماد عون وسماحة السيّد نصرالله…وهذا دأبهم منذ وصول العماد إلى قصر بعبدا، وإنْ كان بعضهم قد بدأ الحملة منذ إعلان ورقة النوايا بين التيّار الوطني الحر والقوّات اللبنانية، وهم يُسيئون إلى الرجلين عندما يُشككون بالتحالف وبوثيقة التفاهم، وليسوا مُستعدين أن يسمعوا، وإن سمعوا فلا يريدون أن يقتنعوا من كلام سماحة السيّد أو نواب حزب الله، ولا من كلام رئيس التيّار الوزير جبران باسيل أو نواب تكتل الإصلاح والتغيير…وعنزة ولو طارت.
لماذا قامت الدنيا ولم تقعد منذ أن ظهرت ورقة إعلان النوايا مع القوات اللبنانية، ومنذ أن أعلن الرئيس سعد الحريري قبوله بترشيح العماد عون لرئاسة الجمهورية؟ وكأنّ المطلوب هو إبقاء الخلاف والصدام والعداوة بين الأفرقاء اللبنانيين، وإبقاء حالة الشلل والاستنزاف قائمةً، أو كأنه ممنوعٌ على الناس أن يلتقوا ويتفقوا وينهوا صراعهم في ما بينهم، وكأنّ اللبنانيين لم يشبعوا من حروبٍ دونكيشوتية دفعوا ثمنها الغالي والنفيس، وهؤلاء يُدركون أنّ أيَّ خللٍ في هذه الأمور كفيلٌ بإعادة الحالة إلى بدايات الحرب المشؤومة.
فيا أيها العابثون بمصير الوطن، ويا أيها الغارقون في وحول الطائفية والمذهبية، ويا أيها البائعون ضمائرهم في أسواق العمالة والاستزلام، ويا أيها المنتظرون ما لن يحدث….. يجب أن تعلموا أنّ وثيقة التفاهم بين التيّار الوطني الحر وحزب الله ثابتة.. ثابتة.. ثابتة، لأنها ليست تقاسم حصص، ولا هي ثنائية ضدّ أحد، وليست لكسب المغانم في النيابة والوزارة أو الإدارة العامة، ولا تتأثّر بمزاجية أحد، أو بمقالة من هنا وأخرى من هناك، أو بخلافٍ طالبي في إحدى الكلّيات أو الجامعات.
وثيقة التفاهم تزدان بالاتفاق على السياسة العامة لمصلحة لبنان العليا، كعداوة إسرائيل ومساندة المقاومة لتحرير الأرض، والعلاقة مع الدول الصديقة، والحفاظ على السلم الأهلي وعدم العودة خطوةً واحدةً إلى الوراء، والنظر إلى لبنان وطنًا نهائيًّا لأبنائه جميعهم، والتطلع إلى لبنانٍ جديد يكون على مستوى طموحات أبنائه، ويواكب العقود القادمة….وهذا كله لا يمنع الاتفاق على ما تيسّر من الأمور الداخلية، مع حريّة كلٍّ من الطرفين التصرف كيفما يرى مصلحته الخاصة، أو مصلحة منطقته في أمور السياسة الداخلية، مع حرية التعبير عن الرأي… فإذا كانت الوثيقة مُلزمة في الأمور المصيرية للوطن، وفي إطارها العام، فهي غير مُلزمةٍ في السياسة الداخلية وفي تصرف الأفرقاء، وبتعبيرٍ آخر: الوثيقة هي اتفاق على سياسة لبنان العامة لأنها رؤيةٌ ورؤيا تتطلعان إلى أبعد من الأطر الضيّقة، وأوسع من الحدود المرسومة… وقد اتسمت هذه الوثيقة بالواقعية والعقلانية، من دون الانجراف في المغالاة سلبًا أو إيجابًا، أما الأمور الأخرى فهي تفاصيل يجب أن تكون موجودةً في أيِّ حكمٍ ديمقراطي.
أما التوافق مع القوات اللبنانية فشأنٌ آخر، فهو كان مطلبًا مسيحيًّا مُلحًّا بالدرجة الأولى، فقد شبع المسيحيون من الانقسامات والحروب وسياسة التبعية التي ما جرّت عليهم إلا الويلات والهجرة والنهجبر والتقهقر في المجالات كلها، كما كان مطلبًا وطنيًّا بعد وصول الحالة إلى ما وصلت إليه. أما تركيبته فهي بعكس تركيبة وثيقة التفاهم مع حزب الله.
فالهدف الأول من هذا التوافق هو، بالدرجة الأولى، الحفاظ على السلم الأهلي، وحقن التشنّج الذي وصل إلى أقصاه غير مرة على مدى أربعة عقود، وفي غير مكان، وكاد يصل ، في بعض الأحيان، إلى الاشتباك المُسلح…كما هو لإعادة لملمة بعض المحازبين الذين ضاقوا ذرعًا بالانقسام الذي كان موجودًا.
أما الهدف الثاني منه فهو جمع كلمة غالبية المسيحيين لاستعادة حقوقهم المسلوبة، خصوصًا في المجلس النيابي من الأحزاب والمكوّنات الأخرى، وحزب الله وحركة أمل هما أقل المصادرين لهذه الحقوق.
ويتطلب الهدفان السابقان تنسيقًا بين الفريقين حول الأمور الداخلية في الوطن… هذا مع ترك حرية التعبير لكلٍ منهما في انتهاج السياسة الخارجية التي يريد، وأن يتحمل نتائج موقفه، فالقوات اللبنانية حرةٌ في نظرتها إلى سلاح حزب الله، وإلى مشاركته في الحرب السورية، وإلى علاقة القوات مع الدول العربية أو الأجنبية… وهذه المواقف، كيفما كانت، لكنّ هذا كله لن يُغيِّر من موقف التيار الوطني الحر تجاه الحزب والمقاومة. أما المغالاة في طبيعة العلاقة إلى حدّ العشق، أو إلى أن يكون أحدهم ملكًا أكثر من الملك، فهذه من ضمن المسالك السياسية، وألعاب السياسة للوصول إلى غايات مُعيّنة.
وما نقوله عن توافق التيّار الوطني الحر والقوات اللبنانية، ينطبق إلى حدٍّ كبير على تيار المستقبل لجهة التفاهم الداخلي، ولجهة السياسة الخارجية… ويُضاف إلى هذا كله أمرٌ مهم يطال الأفرقاء جميعهم، وهو كيفية إعادة تكوين السلطة في لبنان، وشكل الحكم فيه، وتفادي الثغرات والمطبّات الموجودة في ما أسموه دستور لبنان الجديد قبل الوقوع فيها لأنها كثيرة ومتشعبة، فهذا الدستور غير قابل للحياة، وغير قابل للتطبيق، لأنّ الذي وضعه أراد منه هذه النتائج، عن معرفة أو عن غير معرفة، ليبقى لبنان في حالةٍ دائمةٍ من الفوضىى وليسهُل وضع اليد عليه بالوسائل المتاحة.
فمتى يُدرك هؤلاء الجهابذة أن عبقريتهم الفذّة جعلت الناس يُقلعون عن السياسة والسياسيين قرفًا من المتطفلين على خوض الغمار، وهل يعرف هؤلاء أنّ قرّاء الصحف باتوا بأقل من واحد بالألف، وأنّ متابعي البرامج السياسية على الشاشات الصغيرة تدنّى إلى حدّه الأدنى، وأنّ الناس بمعظمهم باتوا يتبعون الحدس أكثر من أيِّ شيءٍ آخر، وأن كلام الرجال الرجال أهم بكثيرٍ من تفاهاتهم وثرثراتهم وتحليلاتهم المنحلّة والمتحلّلة… وشكرًا للذي أوجد السيدة ليلى عبد اللطيف وأتى بها، كي تُتحفنا بتنبؤاتها الكاذبة في كلّ صعيدٍ وميدان، والتي كان لها الأثر الأكبر في سقوط مصداقية الطبقة السياسية برمّتها، لأنها صنع أكذوبةٍ، والأكذوبة لا تدوم مهما طال عمرها.
المصدر: tayyar.org