حسان الحسن-
فيما يعيش لبنان على وقع تداعيات حادثة قبرشمون وتعطيل مجلس الوزراء أكثر من 40 يوماً، يروي الرئيس الأسبق للجمهورية العماد إميل لحود بعض تجاربه مع أحداث مماثلة. ومنها في العام 1991 حين صدر قرار عن مجلس الوزراء، باستعادة كل ممتلكات الدولة التي كانت خاضعة لسطوة الميليشيات إبان الحرب. وقد صدر هذا القرار، صباح يوم جمعة ونصّ على تطبيقه خلال مهلة ثلاثة أيام، أي حتى مساء الإثنين، وذلك بعد مضي نحو 20 عاماً على احتلال هذه الممتلكات من الميليشيات.
ويشير لحود الى أن بعض الساسة كانوا يراهنون على فشل الجيش في مهمة استعادة أملاك الدولة، وكانوا أيضاّ في صدد تحميله المسؤولية في ذلك، ولكنه لم يتخلّف عن واجبه وباشر بالتنفيذ.
وبعد صدور أوامر قائد الجيش العماد لحود بالمباشرة بتطبيق قرار الحكومة، أمر قائد لواء السادس الذي كان ينتشر في بيروت العميد عصام عطوي، بالتحرك وبدء المهمة انطلاقاً من مبنى الحجر الصحي في الكرنتينا، الذي حوله “زعيم القوات اللبنانية” في حينه سمير جعجع إلى مقر و”مجلس حربي” للميليشيا التي كان يتزعمها. وهكذا حصل فدخل جنود اللواء السادس المبنى المذكور بعد منتصف الليل، وفي أقل من نصف ساعة، استعاد الجيش المبنى، أما جعجع الذي كان يقيم وزوجته في أحد أجنحة هذا المبنى، فرفض المغادرة في الليل، خوفاً من تعرّضه لمحاولة اغتيال. وبناءً عليه أعطى قائد الجيش تعليماته بإعطاء مهلة زمنية قصيرة لجعجع، إلى حين توفّر الظروف المناسبة للمغادرة.
بعدها تابع الجيش تطبيق قرار الحكومة، واستعاد مبنى في بربور من حركة أمل، ومباني في طرابلس وسواها أيضاً. وكانت خطة قيادة الجيش تقضي باستعادة ممتلكات الدولة الواقعة في الشوف في اليوم الثاني، ثم ثكنة الشيخ عبد الله في بعلبك في اليوم الثالث والأخير. ولكن في الليل وقب استكمال الجزء الثاني من المهمة، استدعى رئيس الجمهورية الياس الهراوي لحود إلى لقاء في حضور الوزير مروان حماده، وهي كانت المرة الأولى التي يلتقي فيها لحود وحماده.
ويروي لحود أن حماده تحدث إليه قائلاً “هناك علاقة عائلية تربطك بالوزير جنبلاط، وهي بين والدك المرحوم اللواء جميل لحود والشهيد كمال جنبلاط. ولدى وليد بك سلاح، تسلّمه من سورية، وسيعيده إليها. أما بالنسبة لقصري بيت الدين و”المير أمين” والمكتبة، فستتم إعادتها الى كنف الدولة من دون مشكلة، ولا داع لاستردادها بقوة الجيش”. عندها التفت قائد الجيش الى الهرواي، وسأله إذا كان يريد ذلك، فأجابه: “نعم يا إميل ما بدنا نعمل مشكل”، فكان رد لحود ” أصدر قراراً معكاساً لقرار استعادة ممتلكات الدولة في مجلس الوزراء، وعندها سأتوقف عن متابعة مهمتي، عملاً بقرار المجلس، وفقاً لما جاء في اتفاق الطائف”. حينها طلب الهرواي تأخير تنفيذ مهمة الجيش من الخامسة فجراً الى الثامنة صباحاً، افساحاً في المجال لاستصدار قرار في مجلس الوزراء لتجميد المهمة. وعند الثامنة لم يتبلغ الجيش أي قرار، فتوجه نحو الشوف واستعاد أملاك الدولة على الرغم من حركة اعتراضية قام بها أنصار جنبلاط الذين حذرهم الجيش بشكل صارم من الخروج عن القانون. وهكذا لم تجد كل الاعتراضات والتدخلات الخارجية والداخلية، صدى وعاد الحق إلى أصحابه أي الدولة.
ويتذكر لحود أنه وبعد انتهابه رئيساً للجمهورية، أبلغ مجلس الوزراء في إحدى الجلسات في العام 1998 أنه ينوي المداومة في المقر الصيفي الرئاسي في بيت الدين في صيف 1999، وفقاً “للبروتكول”، وكان الرئيس شارل حلو آخر الرؤساء الذي داوم فيه. فتدخل وزير الثقافة في حينه محمد يوسف بيضون، وقال ” لايمكنكم فخامة الرئيس، فالقصر مؤجر لجنبلاط بقيمة رمزية، منذ 1991، تاريخ استعادته للدولة”، فكان رد الرئيس “لا أحد يستطيع تأجير بيتي”.
وبعدها ذهب الرئيس لحود الى بيت الدين ووجد هناك تمثالاً لكمال جنبلاط، فاستدعى أقرب صاحب منشار حجر، وتم نشر التمثال من مكانه، وطلب لحود من معاونيه التواصل بجنبلاط لنقل التمثال.
وإثر إزالة التمثال، قصد رئيس الجمهورية قصر “المير الأمين” لتناول وجبة طعام، وكان شبه خالٍ، بعدما سادت أجواء من الخوف لدى المواطنين. وخلال تناول الطعام اتصل المدير العام للأمن العام اللواء جميل السيد، بقائد الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان الذي كان برفقة الرئيس ليبلغه بأن اللواء غازي كنعان يريد التحدث إليه. واتصل الأخير بلحود، وقال له “ماذا فعلت، الدنيا خربانة، والدم رح يصير للركب، وين فخامتكم؟”، فردّ الأول “أنا في الشوف في بيتي وما في شي أبداً”، فاعتذر كنعان لأنه لم يكن يعلم أن الرئيس في الشوف.
بعدها رن هاتف قائد الحرس الجمهوري مجدداً، وإذ بجنبلاط على الهاتف ليطالب لحود عبر حمدان، بإبقاء ناطور القصر في مكانه لأن لديه باعاً طويلاً في تشذيب الأشجار وسواها من الأشغال، كذلك إبقاء متحف كمال جنبلاط، واستمرار المهرجانات. أما الطلب الأخير، فكان لقاء رئيس الجمهورية، الأمر الذي لاقى رفضاً منه في ذلك التوقيت، أي بعدما ادّعى جنبلاط بأن الشوف يشتعل، لأنه سيظهر في ذلك أنه هو المبادر الى تبريد الأجواء في الجبل، وذلك حفاظاً من لحود على هيبة رئاسة الجمهورية. وبعد هذا الرفض، حاول كنعان إقناع لحود باستقبل رئيس “التقدمي”، فلم يتجاوب كي لا يأتي الموعد، بعد ضغوط من الأمن السوري، حفاظاً على هيبة الرئاسة الأولى أيضاً.
بعد مضي شهرين، يلفت الرئيس الأسبق إلى أنه التقى جنبلاط الذي استهل اللقاء معاتباً لحود بشأن إزالة تمثال والده، ومذكّراً بالعلاقة الأخوية التي تربط والديهما، ولم يتنكر لحود للعلاقة التاريخية بين والده والشهيد جنبلاط، ولكنه أكد أن القصر ملك للدولة، والمسألة ليست شخصية، وسأل زعيم المختارة “هل يعقل أن يقيم كل من يأتي إلى قصر بيت الدين، تمثالاً لوالده فيه، فهل يصح على سبيل المثال أن أعيد تمثال والدك الى مكانه، وأضع تمثالاً لوالدي بقربه”، فردّ جنبلاط “بركي غلطنا، خير إن شاء الله”.
وهنا يشدد لحود، بعد سرد هذه التجارب التي مرت خلال توليه قيادة الجيش، ثم خلال عهده في رئاسة الجمهورية، على أن قرارت الدولة يجب ألا تخضع لأي استنسابية، كذلك لا يجوز تطبيقها بالتراضي، تحت أي ظرفٍ من الظروف، والأخطر من ذلك، التغاضي عن إمكان عودة المحميات الأمنية.
وعن تدخل السفارة الأميركية في الشؤون الداخلية، خصوصاً بعد إصدارها بيان دعم لجنبلاط في الأيام القليلة الفاتئة، يروي رئيس الجمهورية الأسبق، أحد تجاربه مع السفارة عينها، خلال توليه قيادة الجيش. فبعد اتهام القوات اللبنانية، بارتكاب جريمة تفجير كنيسة سيدة النجاة في الذوق، أقام الجيش حاجزاً عند المستديرة المؤدية الى غدراس حيث يقطن جعجع، وتلقى قائد الجيش رسالة من السفير الأميركي، يطلب فيها إزالة الحاجز، فمزق الأول الرسالة، وقال لحاملها “لا أحد يفرض أوامره على الجيش”.
ويذكّر الرئيس الأسبق أيضاً، بتهديد وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت له، يوم حاولت أن تفرض عليه، تأكيد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من لبنان، على رغم احتلاله مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وقد رفض لحود هذا الإملاء الأميركي، حفاظاً على سيادة لبنان.
بناءً على ما ورد، يطرح السؤال: هل كان بوسع لحود، اتخاذ هذه القرارات وتطبيقها، لولا الدعم السوري له؟ يجيب “أن أركان الجهاز الأمني السوري – اللبناني، هم عبد الحليم خدام، والعماد حكمت الشهابي واللواء غازي كنعان، وشركاؤهم في لبنان، كانوا على رأس السلطة منذ العام 1992، لغاية نهاية العام 2004، قبيل الانسحاب السوري من لبنان، وأنا من تصدّى لقرار هذا الجهاز بضرب المقاومة في العام 1993، والتاريخ يشهد”.
في المحصلة، يؤكد الرئيس اللبناني الأسبق، أنه أمضى أعوامه في قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية، يعمل بعيداً جداً من الإعلام، ولم يظهر على وسائل الإعلام، الإ بعد محاولة محاصرته من القوى التي يصفها بالانقلابية، وجلّ ما قصده من نشر هذه المعلومات والتجارب، أن ما من قوة في العالم بإمكانها فرض إملاءاتها علينا، ما دمنا متسلّحين بحق الدفاع عن وجودنا وسيادتنا، مشدداً على وجوب ألا يعلو أي صوت على قرارات الدولة.
-tayyar.org-