– لا رحموا الخدّ الأيمن ولا رحموا الأيسر… (أمين أبوراشد)
***
نحن أبناء الرجاء في هذا الشرق، لا يدعونا حريق كاتدرائية نوتردام في باريس الى البكاء على الحجر، لأن مَن يتباكون على حجارة نوتردام اليوم، لم يُساهموا يوماً في إزاحة الحجر عن قبر العذابات التي نعيش، ولا عن دروب جلاجل ارتضيناها على الأرض التي سارها السيد المسيح وسَلَكَها خلفه الرُسُل، ورَسَم لنا فيها بولس خارطة طريق رويناها دماءً ودموعاً، وحملنا الصليب على الكتف الأيمن ورسالة حضارتنا المسيحية المشرقية على الأيسر، فلا رحموا الخدّ الأيمن فينا من صفعات الحقد ولا رحموا الأيسر…
لسنا نقف اليوم في ساحة كاتدرائية نوتردام، نبحث في الغرب عن “سمعان القيرواني” لإعانتنا على حمل صليبنا، بل نبحث عن كل “يهوذا” ملعون، كان وما زال يُشارك شياطين الشرق في إبادة وجودنا، عبر التدمير والتهجير والقتل والتنكيل.
نحفر في أطلال نوتردام بأسبوع الآلام، أسماء الكنائس والأديرة ومراكز الإرساليات ومزارات القديسين، التي باتت رماداً في هذا الشرق، ولم يَرِفَّ للغرب جَفنٌ، من العيون التي تنتحب اليوم على حجرٍ في باريس، وتحجَّرت دموعهم عند سقوط شهدائنا لأننا من الشرق، فلا وجدنا من يمسح دماء شهدائنا الذين قضوا برَجم الحجارة القاتلة، ولا وجدنا مَن يمسح الدموع..
لم نطلب من الغرب يوماً “إعانةً قيروانية” تُساعدنا على حمل صليبنا لأجل مجد السيد المسيح، ونحن نُدرِك أن دروب جلجلتنا طويلةٌ طويلة، وسنعيشها ونتوارثها جيلاً بعد جيل، وبكل مراحلها، من الأولى حتى الرابعة عشرة، ويحلو لنا السجود أمام ملك المجد، دون أن تنحني رؤوسنا إلَّا له، وننطق كلمات عهد الإيمان به مخلِّصاً، ونُلملم أشلاء الشهداء على إسم المسيح، من سوريا الى العراق الى مصر مروراً بباكستان ووصولاً الى نيجيريا، ونُلملم معها الدمعة والغصَّة، ونُكَابر على الألم، ونرفع شموع الطفولة في أحد الشعانين، في تحدٍّ لشياطين تكفيريين ثقافتهم الظلامية لا تحتمل رؤية ألوان العيد، ولا الفرحة والأمل في عيونٍ بريئة، لأجيالٍ مسيحية وُلِدَت بالمسيح وعاشت بالمسيح وتستشهد بإسمه، ومع الشموع نرفع القَسَم الوجودية، أننا نرتضي سلوك درب الجلجلة بمُفردنا، وفي إيماننا كل الرجاء، أننا كمسيحيين وأسوَة بالأقليات، دفعنا الأثمان الباهظة وباقون في هذا الشرق لأن إرثنا المسيحي المُبارك باقٍ هنا، ولن نترك الحجر بدون بشر.
غَدَونا من الأقليات؟ نَعَم، لكن خميرة البَرَكة القليلة تُنتِج الكثير، ومن سمكتين وقِطعتيّ خبزٍ أطعم السيد المسيح المئات، وهو سيُبارك لقمة خبزنا وحياتنا، ولو أنها باتت مغمَّسة بدماء الشهادة ودموع الثكالى، لتُقارب طعم الخلّ الذي سُقِي منه ملك المجد على الصليب.
ويا أيها المُتباكون على نوتردام، نحن أيضاً نبكيها معكم ككنيسة ولكن، هي بالنسبة إليكم المَعلم السياحي والصرح الحضاري الغربي، ونحن لنا الشرق ولو على أنقاض كنائسنا، ولن نتسوَّل منكم تبرعات إعادة الترميم التي أغدقتم بها خلال أيام على نوتردام، لأنكم صَمَمتُم آذانكم طيلة سنوات عن صرخات أوجاعنا، وعن قرع أجراسنا المُتهاوية حزناً على قِبَب مدمَّرة وكنائس مُنتهكة، ولا ننتظر منكم حتى تقديم التعازي بشهدائنا، وسنعيش حياتنا المسيحية في هذا الشرق مع أبناء الديانات السماوية الأخرى، مؤمنين برسالة المسيح وبأنفسنا، وسنبقى رُسُل حضارة وتفاعل مع كل آخر يؤمن بواجب وجودنا وامتدَّت يده المُباركة كأخٍ لنا في الله وكانت كما يد سمعان القيرواني، وساعدتنا على الوقوف وإكمال المسيرة، لنستمر في هذا الشرق ونورِث الأجيال القادمة مجد المسيح..