– النزوح السوري.. تأثيره وتداعياته على سوريا ولبنان.. (داني باخوس القزي)
***
في العام ٢٠١١، امتدت موجة ما سُمي بـ”الربيع العربي” الى سوريا ما نتج عنها حرب اهلية بامتدادات اقليمية ودولية أفرزت بذلك اسوأ موجة نزوح ولجوء في التاريخ الحديث بتدفق مليون ونصف الى لبنان، البلد الصغير المساحة والضعيف الموارد، وكان ذلك اكثر من قدرته على الاستيعاب والتحمّل.
ومع مرور ٨ سنوات من عمر الازمة واستقرار اكثر من ٨٠٪ من أراضي الدولة السورية، يطالب لبنان حفاظاً على امنه واستقراره الهش بالعودة الآمنة الى سوريا دون ربطها بالحل السياسي منعاً لتكرار مأساة فلسطينية أخرى بحق الشعب السوري وهويته وكرامته.
لم يقتصر تأثير هذا النزوح على الشق الأمني وحسب وانما تغلغل في الداخل اللبناني بسبب النزوح العشوائي، في ظل انقسام داخلي ذات أبعاد سياسيّة على ضبط وتنظيم ومعالجة هذا النزوح، وسياسة دوليّة مشبوهة ممانعة أو أقلّه غير متعاونة لاعادة النازحين الى بلادهم. لم يتخلّ اللبناني يوما” عن واجباته تجاه أشقّائه، وما زال حسن الضيافة ميزة يتحلّى بها، لا بل يتفرّد بها في محيطه.
ولكن مهلا”!!!
ماذا سيبقى من ميزات اللبناني وهو يرزح تحت عتبة الفقر بسبب الأوضاع الاقتصاديّة المذرية وعدم توفّر فرص العمل، وبالتالي توجّه الشباب اللبناني الى الهجرة؟ الى متى سوف يبقى يتحمّل غياب الدولة ودفاعها عن حقوقه حتى يستطيع القيام بأدنى واجباته؟!!!
لذا، فانّ معالجتنا لهذه الاشكاليّة تنطلق من عدّة اعتبارات وطنيّة وديمغرافيّة وأمنيّة وقانونيّة واقتصاديّة ومعيشيّة… وهي تتعلّق بالشعب اللبناني كما السوري، وتبتعد كلّ البعد عن العنصريّة وتأتي في مصلحة الشعبين والدولتين.
في 16 كانون الثاني 2017، أصدرت وزارة الطاقة والمياه في لبنان بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) تقريرا” أعدّته شركة استشارات الطاقة (AEMS – Advance Engineering & Management Services).
الهدف من هذا التقرير كان الاضاءة على التأثير السلبي للعدد الكبير من النازحين السوريّين في لبنان على قطاع الكهرباء. يمكنكم الاطّلاع على بعض الأرقام الواردة في هذا التقرير في الجدول رقم 1 بحسب توزّعهم أفرادا” وعائلات على المحافظات.
الجدول 1: حجم التفاوت في الارقام بين المسجلين لدى مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين وبين الامن العام اللبناني.
حيث أنّ مجموع الأفراد بالنسبة للمفوّضيّة هو 1,048,267
بينما هو 1,500,000 بالنسبة للأمن العام اللبناني،
ومجموع العائلات بالنسبة للمفوّضيّة هو 250,245
بينما هو 366,027 بالنسبة للأمن العام اللبناني.
إنّ هذا التفاوت الشاسع بالأرقام ليس تقصيرا” وانّما متعمّدا” 😉 من أجل تخفيف هول هذه الأرقام على المجتمع اللبناني وبالتالي عدم تقديم ذرائع من أجل المطالبة بتسريع العودة من قبل الدولة اللبنانيّة. فكيف للاجئ أن يتخلّف عن التسجيل وبالتالي يحرم نفسه من المساعدات التي تقدّمها المفوّضيّة؟!!! 😉
تجدر الاشارة الى أنّ التسجيل قد عُلّق في المفوضية بقرار من الحكومة اللبنانيّة اعتباراً من 5 أيار 2015، وحتى إشعار آخر. أما الأوراق التي تمنحها المفوضية للاجئين فإنها تؤمن لهم معونة مالية بالاضافة إلى بعض المساعدات العينية.
بمتابعتنا لقضاء كسروان الفتوح على سبيل المثال، استنادا” الى أرقام بلديّات القضاء لسنة 2018، تأتي جونية – حارة صخر في طليعة المناطق الأكثر اكتظاظا” في القضاء حيث يتجاوز عدد النازحين 15,000، يليها ذوق مصبح التي تستقبل حوالي 10,000 نازح، ذوق مكايل حوالي 4,000، ثم مناطق البوار، القليعات، غزير، العقيبة، فاريا، حراجل، الصفرا، جعيتا، طبرجا-كفرياسين التي تستقبل بين 1,000 و2,000 نازح. أما المناطق المتبقية، فالأعداد فيها تتراوح بين 100 و 500 نازح. أما المجموع العام للنازحين في كسروان فهو حوالي 50,000 مع الاشارة الى وجود تقصير في متابعة حركة الخروج والدخول الى المناطق من قبل البلديّات بسبب عدم توفّر الامكانيّات اللازمة لبعضها. أضف الى هذه الأرقام نسبة الولادات التي وصلت الى معدّل ولادتين يوميا” أي أكثر من 700 ولادة في السنة وذلك حسب الأرقام التي حصلنا عليها من مستشفى البوار الحكومي. إنّ الأرقام الكارثيّة للنازحين على مستوى لبنان تشكّل نسبة لا تقلّ عن ثلث السكان. بالتالي، انّ تأثيرها سلبي جدا” على مختلف المستويات التي سنتطرّق الى البعض منها في هذه الدراسة.
على مستوى قطاع الكهرباء الذي يعاني عجزا” كبيرا” في الأساس، الأرقام الواردة في الجدول رقم 1 تشير الى الاستهلاك الاجمالي للنازحين من الكيلوات وهو كبير وتأثيره سلبي جدا” ان كان استنادا” لأرقام المفوّضيّة أم لأرقام الأمن العام اللبناني. تجدر الاشارة الى أنّ معظم أرقام الأمن العام هي من بعض البلديات التي أحصت عدد النازحين في مناطقها ولكن نسبة كبيرة من هذه البلديّات لم تقم بتحديث احصاءاتها والكثير من النازحين يتنقّلون دوريّا” بين منطقة وأخرى دون أيّة متابعة رسميّة.
على المستوى الوطني والديمغرافي، الوضع في كلا البلدين دفع بشبابه الى الهجرة بحثا” عن لقمة العيش، وفي أكثر الأحيان الى بلدان أميركا وأوروبا المتطوّرة بحثا” عن الجنسيّة، ممّا يؤدي مع الوقت الى انعدام الروح الوطنيّة عندهم وبالتالي انعدام فرصة العودة الى وطنهم الأم. لهذه الهجرة تأثيرها الديمغرافي أيضا” حيث أنّ تفريغ البلدان من شعوبها وتوطينهم في بلدان جديدة وأحيانا” في بيئة غريبة عن التي عاشوا فيها، له تأثيره الديمغرافي على البلد الأم كما على بلد الهجرة. وما الوضع اللبناني وتأثيرات الحروب التي اندلعت على أرضه وتحمّله وزر القضيّة الفلسطينيّة إلّا مثال واضح عن الحالة التي وصّفناها.
أمّا على المستوى الأمني، إنّ الحرب الارهابيّة التي شنّت على سوريا تتطلّب من الشباب الجهوزيّة الدائمة للانخراط الى جانب جيشها في عمليّة الدفاع عن الوطن وصونه. حتى بعد انتهاء الحرب، من أفضل من الشباب السوري للوقوف في وجه زعزعة الاستقرار الأمني وتمرير المخططات الخارجيّة الهادفة الى تفتيت الدولة والنيل من هيبتها!!! لكنّ الوضع الأمني في البلاد والمجازر الوحشيّة التي ارتكبت من قبل داعش وأخواتها جعلت الشباب السوري متخوّف من العودة بسبب الزاميّة التحاق البعض منهم بالجيش حسب القوانين السوريّة.
أمّا في لبنان، فالتقارير الأمنيّة تشير الى مستوى التأثير الأمني السلبي للنزوح السوري على المجتمع اللبناني، دون أن ننسى أيضا” ردّات الفعل السلبيّة من بعض اللبنانيّين عليهم.
الجدول 2: عدد الجرائم الواقعة على أشخاص سوريّين داخل الأراضي اللبنانيّة سنويا”
الأرقام التي حصلنا عليها من قوى الأمن الداخلي بين سنة 2011 وسنة 2018، تشير الى هذا الواقع. الجدول رقم 2 يشير الى عدد الجرائم الواقعة على أشخاص سوريّين داخل الأراضي اللبنانيّة سنويا” وبحسب أنواع الجرائم، بالاضافة الى مجموع كلّ الجرائم على مدى ثماني سنوات. إنّ هذه الأرقام لا تعتبر مقلقة جدّا” مقارنة بأرقام الجدول 3 وإنما الوضع اللبناني المتأزّم على كافة المستويات نتيجة هذا النزوح يجعلنا حذرين من احتمال تزايد هذه الجرائم.
أما بانسبة للجرائم التي قام بها أشخاص سوريّون داخل الأراضي اللبنانيّة بين سنة 2011 و2018، فالجدول رقم 3 يشير الى هذه الجرائم بحسب نوع الجريمة والسنة، بالاضافة الى مجموع كلّ الجرائم على مدى السنوات الثماني.
التزايد الكبير في عدد هذه الجرائم بين 2011 و2018 من 1,682 جريمة الى 10,469 مؤشّر خطر جدا” وينذر بالأسوأ في ظلّ تردّي الظروف المعيشيّة التي يعيشونها. الى ذلك، اضافة الى أرقام السرقة المرتفعة، فانّ أرقام جرائم المخدّرات مرتفعة جدا” أيضا” وهي تشكّل خطرا” جدّيا” على المجتمع اللبناني والمجتمع السوري أيضا” حتى بعد عودتهم. ناهيك عن مخاطر تسليح بعض الشباب السوريّين المتواجدين في لبنان بأعداد مهولة في أيّة لحظة اقليميّة دقيقة واستعمالهم لأعمال تخريبيّة في لبنان، ومن لبنان على سوريا. فحالة العوز والحرمان التي يعيشون ممكن أن تأخذ بهم الى حيث لا يتوقّع.
الجدول 3: الجرائم بحسب نوع الجريمة والسنة
ويبقى الشق الاقتصادي والمعيشي المرتبط جزئيّا” بالشق القانوني. ففي ظلّ حالة الاستقرار المقبولة جزئيّا” في سوريا، بدأ التحضير لورشة الاعمار التي من المتوقّع أن تخلق الكثير من فرص العمل للشباب السوري وبالتالي التأثير ايجابا” على الوضع الاقتصادي والمعيشي على مستوى البلد.
وإنما الشقّ القانوني يعيق عودة بعض الشباب الذين إمّا انخرطوا سابقا” في الحرب ضد بلدهم، أو تهرّبوا من الخدمة العسكريّة وما زالوا، أو قاموا ببعض الإرتكابات غير القانونيّة. أمّا في لبنان، في ظلّ انعدام فرص العمل وعدم قدرة السوق المحلّي على استيعاب العدد الهائل من الخرّيجين، أتت هذه الأعداد الهائلة من النازحين صغارا” وكبارا” لتغزو سوق العمل بطريقة غير قانونيّة وتقضي بالتالي على آمال القسم الباقي من الشباب اللبناني.
فالأرقام التي حصلنا عليها من وزارة العمل اللبنانيّة، تؤكّد دون أدنى شك عدم التزام الأكثريّة الساحقة من النازحين السوريّين بقانون العمل اللبناني.
وفقا” للجدول رقم 4 الذي يظهر عدد إجازات “أول مرة” الموافق عليها لسنة 2017 في وزارة العمل اللبنانية بين 1/1/2017 و 31/12/2017، فانّ مجموع الاجازات لكلّ الفئات هو 380. انّ هذا الرقم مقارنة مع عدد الأفراد والعائلات السوريّة الوارد في الجدول رقم 1 سابقا” يشير الى تشدد الوزارة في اعطاء الاجازات من جهة، والى عدم استحصال الأكثريّة الساحقة من السوريّين على اجازات عمل من جهة أخرى. الوصف نفسه ينطبق على الجدول رقم 5 الذي يظهر عدد إجازات “أول مرة” الموافق عليها لسنة 2018 بين 1/1/2018 و 17/12/2018
الجداول رقم 6 و 7 تظهر الأرقام ذاتها وانما مفصّلة بحسب نوع المهنة.
جدول 6:
جدول 7:
اضافة الى الأرقام السابقة، تظهر الجداول رقم 8 و 9 مجموع رسوم الاجازات المستوفاة لسنتي 2017 و 2018 على التوالي بحسب كل محافظة. من خلال عمليّة حسابيّة صغيرة يمكننا استنتاج الرسوم التي لم تستوفيها الدولة اللبنانية على مدى السنوات السابقة ناهيك عن انعدام فرص العمل للشباب اللبناني.
الجداول رقم 10 و 11 تظهر الأرقام السابقة لسنتي 2017 و 2018 على التوالي ولكن بطريقة مفصّلة حسب كلّ قضاء. وبالعودة الى أرقام الجدول رقم 1 نلاحظ أنّ أقضية المحافظات المكتظّة بالنازحين هي بين أقلّ الأقضية التي تدفع رسوم اجازات العمل مما يؤكد على العشوائيّة في العمل والتقصير في المتابعة من قبل الادارات المعنيّة في الدولة اللبنانيّة.
جدول 10
جدول 11
اضافة الى كلّ المشاكل التي أشرنا اليها سابقا”، لا يمكننا أن ننسى تزايد كميّة النفايات في كلّ البلدات اللبنانيّة نتيجة تزايد العدد السكاني وفي ظلّ أزمة نفايات تعاني منها الدولة على مستوى الوطن. مما أثّر سلبا” على البيئة وصحّة المواطنين بشكل خاص، وعلى عمل البلديّات وعجلة الانماء في المناطق جراء تزايد كلفة معالجة النفايات. ناهيك عن تزايد نسبة الأمراض ونسبة الولادات في ظلّ مشاكل تعاني منها المستشفيات في لبنان على مختلف المستويات.
اضافة الى كلفة معالجة النفايات، ترتّب على البلديّات كلفة التعاقد مع عناصر شرطة اضافيّة من أجل الامساك بالأمن في المناطق ومعالجة المشاكل التي لم تكن فقط بين سوريّين ولبنانيّين وانما كانت في كثير من الأحيان بين السوريّين أنفسهم.
أمام هذا الواقع المرير الذي استعرضناه سابقا”، وحرصا” منا على مصلحة الشعب اللبناني كما السوري، من الضروري القيام بالخطوات المناسبة من أجل تسريع وتسهيل عودة النازحين الى ديارهم. لذا، من الضروري عدم التساهل بتطبيق القانون والتحرّك باتجاه النوّاب والوزراء، القائمقامين واتحادات البلديّات والبلديّات، المرجعيّات الروحيّة والعسكريّة، ادارات ومؤسسات الدولة من كهرباء ومياه وعمل وضمان اجتماعي …
بين عودة النازحين الطوعيّة أوالعودة الآمنة، العودة الطوعيّة الآمنة والعودة الآمنة الطوعيّة، وفي خضمّ النقاش على انتقاء المفردات والمصطلحات، من يضمن لنا حياة آمنة وكيف سنواجه عمليّة التوطين المقنّعة والطوعيّة؟ وما من معاناة أصدق من القضيّة الفلسطينيّة لتعبّر عن تداعيات اللجوء وارتداداته فنستخلص منها العبر وبالتالي نباشر فورا” في تفعيل العودة.
أمام مجتمع دولي ممانع ومتفرّج، وأمام دقّة هذا الملفّ ومحاولة بعض الاستغلاليّين استثماره سياسيّا”، لا بدّ من التيقّظ وعدم السماح بتحريك بعض الغرائز التي من شأنها افتعال المشاكل وخلق عداوة بين الشعبين اللبناني والسوري. اضافة الى ذلك، عدم التحرّك الفوري لمعالجة هذا الملف من منطلق وطني وانساني واجتماعي ومعيشي يفتح شهيّة بعض المغرضين من أجل استغلاله وبالتالي استثماره للتحريض سياسيّا” وعنصريّا” وطائفيّا”… تقاطعا” مع السياسات الاقليميّة والدوليّة وحسب ما تدعو الحاجة. آخر هذه الدعوات أتت على لسان مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد الذي أتى الى بيروت مهدّدا” ومحرّضا” لمواجهة حزب الله ولو على حساب الاستقرار في البلاد.
داني باخوس القزي – أستاذ جامعي