– القداس الإلهي ينتهي قرابة الظهر، والإعترافات بصورة عفوية علنية عَ طريقة القدامى
* ♰ *
ولد عام 1829 في سورا وهي قرية من قرى مقاطعة أرخانغلسك في أقصى الشمال الروسي. من عائلة فقيرة. كان والده قندلفت الكنيسة. زرع فيه محبة الله والصلاة والخدم الليتورجية وأنشأه على اللجوء إلى الله وحده في المحن.
كان بليد الذهن في مدرسته. صلى بحرارة فأطلقه الرب الإله من كثافة عقله فأضحى تلميذاً لامعاً حتى أنه حظي بمنحة خولته متابعة الدراسة في الأكاديمية اللاهوتية في بطرسبرغ.
اهتم بالعلوم عامة وكان يقرأ كثيراً. اضطر، إثر موت أبيه، أن يعمل كسكرتير ليسدّ الحاجات المعيشية لعائلته. عانى من وطأة البؤس والإحباط كثيراً. جاهد في الصلاة بلا هوادة. سأل ربه نعمة الإيمان والفرح. كان يقول أن الحزن خيانة وموت للقلب. وإذا اعتبر أن كل ما يمر به في حياته علامة من عند ربه لها دلالتها. تزوج من ابنة الكاهن الأول في كاتدرائية كرونشتادت إثر حلم. كان يرغب في الانضمام إلى العمل الرسولي البشاري في الصين فجعله زواجه مرسلاً في دياره. يقيم في كرونشتادت القريبة من العاصمة.
كانت كرونشتادت في حال من البؤس والظلم الاجتماعي والانحلال الأخلاقي. من أول زواجه قال لامرأته واسمها ليزا: “من العائلات السعيدة هناك العديد، لا نضيفن إليها عائلة أخرى. هيا بنا، أنا وأنت، نضع أنفسنا في خدمة الله“.
على هذا حافظ الزوجان على عفتهما إلى آخر حياتهما وكانا يدعوان أحدهما الآخر: “أخي وأختي“.
سيم يوحنا كاهناً وهو في سن السادسة والعشرين. ثلاث قواعد شكلت أسس الخدمة الكهنوتية لديه:
- التأمل في الكتب المقدسة بتواتر.
- السهر في صلاة الرب يسوع.
- إقامة الذبيحة الإلهية كل يوم.
قال في كتابه حياتي في المسيح: “القداس الإلهي هو، بحق، خدمة السماء على الأرض، فيها يكون الله نفسه، بطريقة خاصة مباشرة، حاضراً ومقيماً بين الناس باعتبار أنه هو نفسه مقيم الذبيحة غير المنظورة. ليس هناك ما هو أعظم وأقدس وأسمى وأكثر إحياء للنفس من القداس الإلهي”.
كل نشاطات الكاهن، بالنسبة إليه، بما في ذلك عنايته الرعائية بشعبه، هي امتداد للسر الليتورجي. لكهنوت المسيح الفاعل لخلاص المؤمنين وتقديسهم في الكنيسة.
الكاهن إيقونة حيّة للمسيح. لهذا السبب دأب يوحنا، كاهناً، على نقل هذا الحضور البهي المحيي للرب يسوع إلى الأحياء الأكثر بؤساً والأسوأ سمعة.
اعتاد أن يدخل البيوت ويأخذ الأولاد بين ذراعيه ويحدث ذويهم بأقوال مشبعة بالوداعة والمودة. كان يعتني بالمرضى فيحول أسرة ألمهم إلى أسرة بهجة بعزاء الإيمان.
اهتم بتوزيع الحسنات، كل ما كان يأتيه. وكثيراً ما كان يعود إلى بيته بلا حذاء ولا معطف. كان يدخل إلى كل مكان بلا تحفظ ليصلي وينقل حضور المسيح. عند مروره كان الناس يزدحمون عليه فيضطر إلى شق طريقه بينهم شقاً.
كالشمس التي تنشر نورها كان ينشر رائحة المسيح الطيبة في كل مكان، يبارك هؤلاء ويصلي لأولئك. قالوا فقد عقله. لم يأبه. استمر في عمله معتبراً ما يأتي عليه بركة من أجل محبة الرب يسوع. نجح، رغم صعوبات لا عد لها. في تأسيس بيت التعب. وهو مؤسسة تهتم بالإحسان فيها كنيسة ومدارس ومأوٍ ومشاغل. في هذه المؤسسة كان آلاف المعوزين يتلقون المساعدة المادية ويتعلمون ويشتركون في الحياة الكنسية. اهتم، فيما خص الأطفال، بتحصيل المعرفة، لكنه اهتم أولاً بتربية القلب وإعداد الأولاد لاقتبال نعمة الله عن طريق التدريب على الإحساس بجمال الكون وتوقير الناس الذين هم إيقونات الله.
مرت السنوات ومحبة الأب يوحنا لكل الناس تنمو بمقدار ما ذاع صيته أبعد من حدود كرونشتادت. كان يقول: “على الكاهن أن يتمتع برأفة تشمل العالم كله. عليه أن يكون الكل للكل“. في مقابل ذلك، منّ عليه الرب الإله بأن تكون لصلاته قوة فائقة لشفاء أدواء الجسد وهداية وتعزية النفوس المكروبة. هكذا بين العلي ليوحنا ما ينبغي أن تكون عليه رسوليته: أن يكون عموداً حياً للصلاة والضراعة لكل الشعب، أن يصير راعياً لكل روسيا”.
في المرحلة الثانية من حياته، تعدل باتجاه حركة شركته بالناس. لم يعد هو الذي يأتي إلى المضنوكين، صار الشعب الروسي المحب للمسيح هو الذي يسعى إليه بأعداد وافرة. بالآلاف كل يوم كانو يأتون إلى كرونشتادت لتلقي الإرشاد والعون. ليطلبوا صلاته أو لمجرد رؤيته. وقد اضطر مركز البرق والبريد في كرونشتادت إلى تأمين خدمة إضافية خاصة بسبب الحجم الهائل من الرسائل والتلغرافات والتوكيلات التي كانت تصله كل يوم. بالمال الذي كان يصل إليه كان يعيل ما يزيد عن الألف فقير، كما أنشأ عدداً من الكنائس والأديرة.
كان ينهض في الساعة الثالثة صباحاً ليذهب إلى الكنيسة. الكنيسة التي كانت مزدحمة بالناس لصلاة السحر. كانوا يأتون بسلال وسلال من القربان مرفقة بلوائح لا تنتهي من الأسماء. كان الأب يوحنا يأخذها ويرفعها إلى الرب الإله بصلاة حارة متقدة كما لو كان يتشفع بمقدميها والذين قدمت لأجلهم واحداً واحداً.
إقامته للقداس الإلهي كان مشهداً مؤثراً للغاية. كان ينتصب أمام المذبح وكأنه أمام عرش رب المجد. ويتوجه إليه بلهجة ونبرة تحرّك أقسى القلوب. لم يعتد الاشتراك في القدسات إلا ووجهه سابح بالدمع. كان يقول: “أموت إذا لم أقم الذبيحة الإلهية!”
في عظاته النارية كان يحث المسيحيين على المناولة المتواترة لأنه كثيراً ما كان المؤمنون، يومذاك، يكتفون بمرة واحدة في السنة. وإذ لم يكن بإمكانه أن يقبل اعتراف الناس فرداً فرداً، أخذ المؤمنون، بصورة عفوية، يتعاطون الاعتراف العلني على طريقة القدامى.
كان التائبون يقرون بخطاياهم بدموع أمام الإخوة قبل أن يغرفوا من الحياة الجديدة لنبع الفرح. وكانت على الأب يوحنا، بالقول والسيرة. نعمة نقل الإحساس غير العادي بحضور المسيح. اعتاد أن يقول: “المسيح نَفَسي، أكثر من الهواء، في كل لحظة من لحظات حياتي. نوري هو قبل أي نور آخر، طعامي وشرابي، ثوبي، عطري، وداعتي، أبي وأمي، أرضي الثابتة أكثر من الأرض، أرضي الثانية التي لا شيء يزعزعها وهي تحملني”.
كان القداس الإلهي ينتهي قرابة الظهر. بعدما كان الأب يوحنا يقضي بقية نهاره في تقبل طلبات الصلاة وفي زيارة مؤسساته، ينفخ فيها الإيمان والرجاء والفرح بين البائسين، ولا يعود إلى بيته إلا في ساعة متأخرة من الليل. رغم هذه الحيوية الفائقة، لم يكن ذهنه لينصرف البتة عن الصلاة. ولا غرو فأفعاله وأقواله كانت صلوات مشحونة بالقدرة الإلهية.
قرابة نهاية حياته عانى بقسوة من المرض. لكنه واجه كل شيء بوداعة وصبر. تنبأ بيوم رقاده قبل حلوله. رقد بالرب في 20 كانون الأول سنة 1908م. كل الشعب الروسي التف حوله بوقار. من أكثر الناس بؤساً إلى العائلة المالكة. كان بمثابة نبي نفخ اليقظة الروحية في روح الشعب الروسي قبل الثورة البولشفية (1917). رسم صورة لما يجب أن يكون عليه الكاهن الأرثوذكسي: وكيل رأفات الله بين الناس.
غداً الرؤى التي تنبأ بها..