اعلاميون غربيون ضحايا الغسيل الإعلامي الغربي الناعم… (الجزء 1)
يروي الصحافي والمحلل السياسي سام هيلير كواليس مؤتمر إعلامي سوري، استضافه النظام السوري الشهر الماضي، في مقال له بمجلة “فورين بوليسي” الأميركية، ما دار في المؤتمر.
المؤتمر استضاف صحافيين من اكبر شبكات الأخبار ووكالاتها الأميركية والبريطانية، فضلاً عن محللين سياسيين، والهدف “تقديم واجهة أخرى للحرب، وفتح قناة حوار جديدة مع الغرب”، وفقاً لكاتب المقال.
وفي خضم التحولات الميدانية التي حدثت بالأشهر الأخيرة في سوريا، والتي تصبُّ في مصلحة النظام، خاصة إحكام حصاره على المعارضة شرقي حلب، والسيطرة شبه الكلية على غربي البلاد ذي الأهمية الاستراتيجية، يرى هيلير أن فرصة الحوار بين سوريا والغرب دبَّت فيها الحياة فجأة.
وبعد أن سلَّط الكاتب الضوءَ على محطات زيارته غادر العاصمة السورية وهو يقول: “إن النظام السوري غير قادر على التغيُّر. لكن إن كان كل من حوله يتغيرون، فلعله لن يضطر إلى التغيير من نفسه”.
وهذا نص المقال كاملاً كما نقله موقع “هافنغتون بوست”:
“لنا أن نخمن كم أن الحكومة السورية منتشية بسعادة عارمة حالياً، فقد أحكمت الحكومة وحلفاؤها حصار المعارضة شرقي حلب، أكبر المدن السورية ومركزها الاقتصادي قبل الحرب. كذلك أحكمت سيطرتها شبه الكلية على غربي البلاد، ذي الأهمية الاستراتيجية، خصوصاً المنطقة المحيطة بالعاصمة دمشق. وتتمتع الحكومة بدعم وثيق من إيران وروسيا، كما أنه منذ تاريخ 8 تشرين الثاني غدا للولايات المتحدة رئيس منتخب، أعلن بكل وضوح أنه لا يهمه أمر تغيير نظام دمشق.
إذاً يبدو أن فرصة الحوار بين سوريا والغرب دبَّت فيها الحياة فجأة، ولكن ترى هل تثمر هذه الفرصة للحوار بنتائج ما؟ هذه مسألة أخرى تماماً.
في شهر تشرين الأول الماضي، وعندما كان رئيس العالم الحر يضمر ويداري سراً عدم اهتمامه بالإطاحة ببشار الأسد، قمت بزيارة إلى دمشق لأحضر مؤتمراً سورياً تدعمه الحكومة. وقتها احتفى المنظمون بهذا المؤتمر ووصفوه بأنه فرصة السوريين لتقديم واجهة أخرى للحرب وفتح قناة حوار جديدة مع الغرب، فدعوا صحفيين من كبريات شبكات الأخبار ووكالاتها الأميركية والبريطانية، فضلاً عن محللين سياسيين من أمثالي.
ولكن اتضح أن ثمة هوة كبيرة في أجواء المؤتمر نفسه، بين كبار المسؤولين السوريين وبين الحضور، الذين اغتنموا فرصة المجيء لنقل الوقائع والأخبار من الداخل السوري؛ فالحكومة بدعوتها أعطت الانطباع بأنها تحاول تقريب وجهات النظر مع الغرب وإظهار انفتاحها، بيد أن واقع المؤتمر كان غير ذلك، إذ إن متحدثي المؤتمر الرسميين تحدثوا إلى كبار وفود الحضور بلهجة كلها تحدٍّ وإصرار وثبات على الموقف الحربي، كما أن أجواء الحدث كانت احتفالية اجتماعية جداً، ما أعطى انطباعاً بأن النظام حتى بعد 5 سنوات من الحرب ما زال ثابتاً على تحديه.
إذ بدلاً من تبني موقف أكثر عقلانية وتعاطفاً مع الآخر، بدا كأنما قامت الحكومة بدعوتنا لتقول لنا “بالعكس، نحن تماماً من يظنوننا”.
بين مواضيع حلقات الحوار التي ناقشت قضايا مثل “حرب الإعلام أثناء الأزمة السورية” و “آثار العقوبات على حياة المواطنين السوريين العاديين” أتاح المؤتمر لحضوره فرصة التحدث إلى كبار المسؤولين السوريين ورجال الأعمال وممثلي المجتمع المدني السوري، المصادق عليهم من الحكومة. كذلك أفرد منظمو المؤتمر جلسةً مستقلةً مطولةً لطرح الأسئلة على وزير الخارجية وليد المعلم، فضلاً عن جلسة مع الرئيس السوري بشار الأسد نفسه، اقتصرت على قلة قليلة من الحضور.
لكن رغم كل دعوات الحوار إلا أن نبرة متحدثي المؤتمر فاحت تشبثاً بموقفها واعتداداً به. فمنذ أول حلقة نقاشية بعنوان “خلفية الحرب في سوريا” مضى المتحدثون من مثل مستشارة الرئيس د. بثينة شعبان، والضابط الرفيع في المخابرات العقيد سامر بريدي، في وصف كيف وقعت سوريا ضحية مؤامرة دولية قوامها المتطرفون الإرهابيون “الإسلاميون”، وأعداء الدولة وأتباعهم وأذنابهم الإعلاميون. وقد نفوا تورط الحكومة السورية بأي ذنب أو جريرة خطأ منذ بداية الحرب السورية عام 2011، فمن كلامهم وروايتهم فإن الحكومة السورية نفسها بريئة ويساء فهمها.
واشتكت شعبان من أنها في آخر مرة تحدثت فيها إلى قناة Channel 4 البريطانية -التي كان صحفيوها ومراسلوها من بين الحضور- لم تطرح عليها سوى أسئلة اتهامية مثل: “سألوني “كيف لك أن تناصري نظاماً كهذا؟” ولم تكن هناك أي محاولة للفهم”.
(وقد عقد المؤتمر حسب قواعد معهد تشاتام هاوس الملكي للشؤون الدولية التي تقضي بحرية المشاركين في استخدام المعلومات التي يحصلون عليها من المؤتمر أو المناظرة، شريطة التستر على هوية المتحدثين، بيد أن أحد المنظمين أكد لي أن بوسعي التصريح بأسماء المسؤولين السوريين المتحدثين واقتباس كلامهم).
ثم كان أنه في جلسة الأسئلة والأجوبة التي تلت أول حلقة نقاش، طرحت إحدى أفراد الحضور سؤالاً طلباً لإجابة صادقة عنه، ألا وهو عن رواية الدولة لأحداث مدينة درعا جنوبي البلاد، التي جرت في آذار 2011، حيث تعد تلك شرارة بداية حرب البلاد عندما احتجزت قوى أمن البلاد 15 طفلاً وعذبتهم، لقيامهم برسم وكتابة عبارات وشعارات مناوئة للحكومة على الحوائط، فاستعر غضب الأهالي من المعاملة القاسية لهؤلاء الفتيان، وخرجوا في احتجاجات قوبلت بعنف الأمن، ثم ما لبثت الحركة أن عمت البلاد.
قالت السائلة صاحبة السؤال: “نريد القصة الحقيقية لأطفال درعا. نريد أن نعرف القصة الحقيقية كي ننقلها لإعلامنا المحلي على الأقل كي ينشروها ويخبروا بها الشعب”.
تصدى العقيد سامر بريدي لهذا السؤال بقوله إن الحكومة بادرت آنذاك لتكوين لجنة تقصي واقعة احتجاز هؤلاء الأطفال وتعذيبهم “وتبيَّن في المحصلة أن القضية كلها لم توجد من الأساس“.
ثم في حلقة النقاش التالية التي بعنوان “العلاقات السورية الخارجية أثناء الأزمة”، تحدث نائب وزير الخارجية فيصل المقداد كيف أنه شهد ثورات أوروبا الشرقية ضد الشيوعية عام 1989، وقال إنه بصفته آنذاك ممثلاً عن اتحاد الطلبة الأجانب فقد شهد بأم عينه كيف أن التقارير الكاذبة حول مقتل طالب في الاحتجاجات قد تسببت في إشعال فتيل المظاهرات في عموم تشيكوسلوفاكيا، وقال: “رأيت كيف لبضعة أكاذيب أن تطيح بحكومات وتغير حياة الملايين من الناس”.
فطبقاً لما تقوله الحكومة السورية فإن سوريا مستهدفة لأنها ترفض الانصياع لأجندة الغرب المحابية لإسرائيل الداعمة لها؛ فأعداء سوريا الإرهابيون هم في أكثرهم متطرفون أجانب، أدخلتهم حكومة العثمانيين الجدد التركية بدعم من السعودية التي تتبنى نظاماً “وهابياً”. الولايات المتحدة غير جادة أبداً في موضوع محاربة تنظيم الدولة الإسلامية داعش المزعوم، بل إنها في الواقع تعتمد وتعول على وكلائها الإرهابيين لمهاجمة الحكومة السورية.
قامت الحكومة السورية بمحاولات لحل الأزمة حلاً سياسياً حسبما قاله ممثلون عن الدولة في المؤتمر، فقد طرح الرئيس الأسد خارطة طريق إصلاحية في كانون الثاني 2013 (فخطة عام 2013 طرحت تشكيل حكومة وحدة وطنية وصياغة دستور جديد يتم الاستفتاء عليه، ومن ثم تعقد انتخابات برلمانية جديدة).
الحكومة عازمة على تحرير كافة سوريا والسيطرة على كل أراضيها، كما أنها تحاول في الوقت الحالي إظهار صمودها وشرعيتها من خلال استمرارية عمل مؤسساتها الرسمية بشكل طبيعي، فالحكومة لا تفتأ تشدد التركيز على أن الحياة في دمشق وغيرها تسير سيراً طبيعياً نسبياً، وأنها حافظت على دوام واستمرار العمل في مرافق الدولة، وكيف ثابرت على صرف رواتب موظفي القطاع العام، حتى لسكان المناطق التي سقطت بأيدي قوات المعارضة.
ومع أن الحكومة تزعم أنها تريد تعاوناً أمنياً عالمياً وتطبيعاً اقتصادياً، إلا أن من الواضح أن التغيير واجبٌ على الجميع، لا على الدولة السورية، وخصوصاً إن كان هذا التغيير بناء على أوامر أجنبية.
من بين الشباب السوريين الذين حضروا المؤتمر -وهم ليسوا من الحكومة بيد أنهم دائرون في فلكها- كان هناك البعض ممن عبر عن مخاوف الحكومة بشكل أكثر تفهماً وعمقاً، أما حينما نأتي إلى طبقة كبار المسؤولين -بمن فيهم الأسد نفسه- فلم يظهر أن هناك أي جهد لصياغة آرائهم ومواقفهم بما يتناسب مع الحضور الغربي.
من الصعب معرفة سبب تعنت الحكومة وتشبثها الشديد بموقفها؛ لعل السبب هو إظهار قوتها أمام النخبة الغربية لإثبات أن محاولاتهم لإركاع أو كسر شوكة سوريا قد باءت بالفشل الذريع، كما أنه من المحتمل أن الحكومة كان يهمها إقناع الوفد الغربي بحضور المؤتمر أكثر، مما يهمها إقناع هذه الوفود بوجهة نظرها، فهذا يثبت شرعيتها الدولية أمام مناصريها المحليين السوريين (فقد استثنيت قنوات الإعلام السورية من الحدث، بيد أن هذا لا يعني أن الحدث كان سر دولة يتم في الخفاء).