عَ مدار الساعة


البابا فرنسيس: آتي الى شبه الجزيرة كأخٍ يبحث عن السلام مع الإخوة.. لندخل سفينة الأخوّة 🙏

– نص وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك 🙏
– الصحراء تُزهر.. بدون الربّ لا شيء ممكن، ولكنّ معه كلّ شيء يصبح ممكنًا 🙏
– الله لا ينظر إلى العائلة البشريّة بنظرة تمييز تستثني، وإنما بنظرة محبّة تدمج 🙏
– عدوّة الأخوّة النزعة الفردانيّة.. التصرّف الديني بحاجة أن يُنقّى دائماً من التجربة المتكرّرة لاعتبار الآخرين أعداء وخصوم.. 🙏

***

خطاب البابا خلال لقاء الحوار بين الأديان الأخوة الإنسانية (4 شباط 2019)

توجّه البابا فرنسيس إلى صرح زايد المؤسس في أبو ظبي برفقة الإمام الأكبر شيخ جامع الأزهر أحمد الطيب وكان في استقبالهما ولي العهد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وعُقد لقاء للحوار بين الأديان حول موضوع الأخوة الإنسانية.

بعد خطابين لولي العهد والإمام الطيب ألقى البابا فرنسيس كلمة قال فيها:

السلام عليكم!

أشكر من كلِّ قلبي صاحب السموّ الشيخ محمّد بن زايد آل نهيان، وفضيلة الدكتور أحمد الطيّب، الإمام الأكبر لجامعة الأزهر، على كلماتهما. أنا ممتنٌّ لمجلس الحكماء على اللقاء الذي تمَّ منذ قليل، في مسجد سموّ الشيخ زايد.

أحيّي السيد عبد الفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية، أرض الأزهر، وأحيي أيضا السلطات المدنيّة والدينيّة والسلك الدبلوماسي. اسمحوا لي أيضًا أن أشكركم جميعًا شكرًا جزيلًا على الاستقبال الحارّ الذي قدّمتموه لي ولوفدنا.

أشكر كذلك جميع الأشخاص الذين ساهموا في جعل هذه الزيارة ممكنة والذين عملوا بتفانٍ وحماس ومهنيّة من أجل هذا الحدث: المنظِّمون، وموظّفو البروتوكول، ورجال الأمن، وجميع الذين وبأشكال مختلفة قدّموا مساهمتهم “خلف الكواليس”. وأتوجه بشكر خاص للسيد محمد عبد السلام، المستشار السابق للإمام الأكبر.

كما أتوجّه من وطنكم إلى جميع بلدان شبه الجزيرة هذه، والذين أرغب في أن أوجّه إليهم أخلص تحيّاتي الودّية، والمقرونة بالصداقة والتقدير.

بروح ممتنٍّ للربّ، في المئويّة الثامنة للقاء بين القدّيس فرنسيس الأسيزي والسلطان الملك الكامل، قبلتُ فرصة المجيء إلى هنا كمؤمن متعطِّشٍ للسلام وكأخٍ يبحث عن السلام مع الإخوة. الرغبة في السلام، وبتعزيز السلام، وبأن نكون أدوات للسلام: هذا هو ما جئنا من أجله.

إنَّ شعار هذه الزيارة يتألف من حمامة تحمل غصن زيتون. وتذكّر هذه الصورة بقصّة الطوفان الأوّل، الموجود في مختلف التقاليد الدينيّة. بحسب الرواية الكتابيِّة، فإن الله، كي ما تُحفظ البشريّة من الدمار، قد طلب من نوح أن يدخل في السفينة مع عائلته. واليوم أيضًا، لكي نحافظ على السلام باسم الله، نحن بحاجة للدخول معًا كعائلة واحدة في سفينة يمكنها أن تعبر بحار العالم العاصفة: إنها سفينة الأخوّة.

نقطة الانطلاق هي الاعتراف بأنَّ الله هو أصل العائلة البشريّة الواحدة. فهو، ولكونه خالق كلِّ شيء وخالق الجميع، يريد أن نعيش كإخوة وأخوات، وأن نقيم في البيت المشترك الذي منحنا هو إياه. هنا تتأسّس الأخوّة، عند جذور بشريّتنا المشتركة، مثل “دعوة ماثلة في مخطّط الله للخلق”. إنها الدعوة التي تخبرنا بأننا جميعًا نملك الكرامة عينها وبأنّه لا يمكن لأحد أن يكون سيّدًا للآخرين أو عبدًا لهم.

لا يمكننا أن نكرِّم الخالقَ دون أن نحافظَ على قدسيّة كلِّ شخصٍ وكلِّ حياةٍ بشريّة: فكلُّ فردٍ هو ثمينٌ على حدّ السواء في عينيّ الله. لأنّ الله لا ينظر إلى العائلة البشريّة بنظرة تمييز تستثني، وإنما بنظرة محبّة تدمج. لذلك، فالاعتراف بالحقوق عينها لكلّ كائن بشريٍّ، إنما هو تمجيد لاسم الله على الأرض. وباسم الله الخالق، بالتالي، يجب أن تُدان، وبدون تردّد، جميع أشكالِ العنف، لأنّ استعمال اسم الله لتبرير الكراهية والبطش ضدّ الأخ، إنما هو تدنيسٌ خطيرٌ لاسمه. فلا وجود لعنفٍ يمكن تبريره دينيًّا.  لا أحد يمكنه أن يستخدم الدين أداة للتحريض على الحقد والعنف والتطرف والتعصب الأعمى، أو استخدام اسم الله من أجل تبرير أعمال القتل والنفي والإرهاب والقمع.

إن عدوّة الأخوّة هي النزعة الفردانيّة، التي تُترجم في عزيمة تأكيد الذات والمجموعة الخاصة على حساب الآخرين. وهو فخّ يهدّد جميع جوانب الحياة، حتى الصفات الأسمى والفطريّة لدى الإنسان، أي الانفتاح على المتسامي والتديُّن. إنَّ الدين الحقيقيّ يقوم على محبّة الله من كلّ القلب، ومحبّة القريب كمحبّتنا لأنفسنا. وبالتالي يحتاج التصرّف الديني لأن يُنقّى على الدوام من التجربة المتكرّرة لاعتبار الآخرين أعداء وخصوم. كلُّ ديانة هي مدعوّة لتخطّي فجوة التمييز بين أصدقاء وأعداء، كي تتبنّى وجهة نظر السماء، التي تعانق جميع البشر بدون محاباة وتمييز.

لذلك أرغب في التعبير عن تقديري لالتزام هذا البلد في الموافقة على حريّة العبادة وضمانها، مواجهًا التطرّف والكراهية. بهذه الطريقة، فيما تُعزَّز الحريّة الأساسيّة للمرء بإعلان إيمانه الشخصي، والتي هي ضرورة جوهريّة كي يحقّق الإنسان ذاته، يتمُّ السهر أيضًا حتى لا يتمَّ استغلال الديانة، وتتعرّض لخطر نكران ذاتها بقبولها للعنف والإرهاب.

لكن الأخوّة بالتأكيد “تعبّر أيضًا عن التنوّع والاختلاف الموجود بين الإخوة، بالرغم من رابط الولادة بينهم وامتلاكهم للطبيعة عينها ولذات الكرامة”. والتعدّد الديني هو تعبير عن ذلك. وبالتالي فالموقف الصحيح في هذا الإطار ليس التجانس القسري، ولا التوفيق الخانع: ما دعينا للقيام به، كمؤمنين، هو أن نلتزم من أجل أن يحصل الجميع على المساواة في الكرامة، وذلك باسم الرحيم الذي خلقنا والذي باسمه علينا أن نبحث عن التآلف في التناقضات والأخوّة في الاختلاف. أريد هنا أن أكرر التأكيد على قناعة الكنيسة الكاثوليكية: “لا يمكننا أن ندعو الله أبًا للجميع إذا رفضنا أن نتصرّف كإخوة مع الناس المخلوقين على صورة الله“.

مع ذلك توجد أسئلة عديدة تفرض ذاتها: كيف نحافظ على بعضنا البعض في العائلة البشريّة الواحدة؟ وكيف نغذّي أخوّة غير نظريّة، تُترجَم في أخوّة حقيقيّة؟ كيف نجعل إدماج الآخر يسود على التهميش باسم انتمائنا الشخصي؟ كيف يمكن للديانات، باختصار، أن تكون قنوات أخوّة بدلاً من أن تكون حواجز إقصاء؟

العائلة البشريّة وشجاعة الاختلاف

إن كنّا نؤمن بوجود العائلة البشريّة، فيجب بالتالي المحافظة عليها، كعائلة. وكما في كلّ عائلة، ذلك يكون أوّلًا من خلال حوار يوميٍّ وحقيقي. هذا الأمر يستلزم هويّة شخصيّة لا يجب التخلّي عنها لإرضاء الآخر. ولكنّه يتطلّب في الوقت عينه شجاعة الاختلاف، التي تتضمّن الاعتراف الكامل بالآخر وبحريّته، وما ينتج عنه من التزام ببذل الذات كي يتمّ التأكيد على حقوقه الأساسيّة، في كلِّ مكان، ومن قِبَلِ الجميع. لأننا بدون حريّة لا نكون بعد أبناء العائلة البشريّة وإنما عبيد. من بين الحرّيات، أرغب في تسليط الضوء على الحريّة الدينيّة. فهي لا تختصر على حريّة العبادة، بل ترى في الآخر أخًا بالفعل، وابنًا لبشريّتي نفسها، ابناً يتركه الله حرًّا، ولا يمكن بالتالي لأيّة مؤسّسة بشريّة أن تجبره حتى باسم الله.  الحرية هي حق لكل شخص: كل واحد يتمتع بحرية المعتقد والفكر والتعبير والعمل. إن التعددية وتنوّع الدين واللون والجنس والعرق واللغة، لهي إرادة إلهية حكيمة، خلق من خلالها الله الكائنات البشرية. هذه الحكمة الإلهية هي المصدر الذي ينبع منه الحق في حرية المعتقد وحرية كوننا مختلفين.

الحوار والصلاة

إن شجاعة الاختلاف هي روح الحوار الذي يقوم على صدق النوايا. والحوار في الواقع هو عرضة للازدواجية التي تزيد المسافة والشكّ: فليس بإمكاننا أن نعلن الأخوّة ونتصرّف بعدها عكس ذلك. بحسب أحد الكتّاب المعاصرين: “إنَّ الذي يكذب على نفسه ويُصغي إلى أكاذيبه، يصل إلى حدّ عدم القدرة على تمييز الحقيقة، لا في داخله ولا من حوله، ويبدأ هكذا بفقدان احترامه لنفسه وللآخرين“.

إنَّ الصلاة هي جوهريّة في هذا كلّه: فهي، فيما تجسّد شجاعة الاختلاف إزاء الله، وفي صدق النوايا، تنقّي القلب من الانغلاق على نفسه. الصلاة التي تُتلى من القلب، تجدّد الأخوة. لذلك “فيما يختصّ بمستقبل الحوار بين الأديان ينبغي علينا أوّلاً أن نصلّي. وأن نصلّي من أجل بعضنا البعض: نحن إخوة! بدون الربّ لا شيء ممكن، ولكنّ معه كلّ شيء يصبح ممكنًا! أرجو أن تُطابق صلاتُنا بالتمام –كلٌّ بحسب تقليده– مشيئةَ الله، الذي يريد أن يعترف جميع البشر بأنّهم إخوة وأن يعيشوا على هذا النحو ويؤسّسوا العائلة البشريّة الكبيرة في تناغم التنوّع”.

ليس هناك من بديل آخر: إمّا نبني المستقبل معًا وإلّا فلن يكون هناك مستقبل. لا يمكن للأديان، بشكل خاص، أن تتخلّى عن الواجب الملحّ في بناء جسور بين الشعوب والثقافات. لقد حان الوقت للأديان أن تبذل ذاتها بشكل فعّال، وبشجاعة وإقدام، وبدون تظاهر، كي تساعد العائلة البشريّة على إنضاج القدرةِ على المصالحة، ورؤيةٍ ملؤها الرجاء، واتّخاذ مسارات سلام ملموسة.

التربية والعدالة

ونعود هكذا إلى الصورة الأولى لحمامة السلام. إن السلام أيضًا، كي يحلِّق، يحتاج إلى جناحَين يرفعانه، إنه يحتاج إلى جناحَي التربية والعدالة.

تتطلّب التربية – وأصل الكلمة اللاتيني يعني الاستخراج والاستخلاص – أن نستخلص ونستخرج الموارد الثمينة في النفس. إنه لأمر مشجّع أن نرى، في هذا البلد، أنه لا يتمّ الاستثمار في استخراج موارد الأرض وحسب، بل أيضًا موارد القلب، أي في تربية الشبيبة. أتمنّى أن يستمرّ هذا الالتزام، وينتشر في مناطق أخرى. إن التربية تتمّ أيضًا في العلاقات والتبادليّة. يجب أن نضيف إلى القول القديم المأثور: “اعرف نفسك” قولاً آخر “اعرف أخاك”: قصّته، ثقافته وإيمانه، لأنه لا توجد معرفة حقيقيّة للذات بدون الآخر. كأشخاص، وبالأكثر كإخوة، علينا نذكّر بعضُنا البعضَ أنه لا يوجد أيّ أمر إنسانيّ يمكن أن يبقى غريبًا عنا. من الأهمية بمكان، بالنسبة للمستقبل، بناءُ هويّات منفتحة، قادرة على التغلّب على تجربة الانغلاق على الذات والتصلّب.

الاستثمار في الثقافة يعزّز انحسارَ الحقد ونموَّ الحضارة والازدهار. فللتربية تَناسُبٌ عكسيٌّ مع العنف. والمؤسّسات الكاثوليكيّة التربويّة – التي تحظى بالتقدير أيضًا في هذا البلد وفي المنطقة – تعزّز هذه التربية على السلام وعلى المعرفة المتبادلة من أجل تدارك العنف.

يحتاج الشباب، الذين غالبًا ما تحيط بهم رسائلُ سلبية وأنباءُ مزيّفة، إلى أن يتعلّموا عدم الاستسلام لإغراءات الماديّة والكراهية والأحكام المسبقة؛ لأن يتعلّموا كيفيّة التصدّي للظلم ولخبرات الماضي الأليمة؛ لأن يتعلّموا الدفاع عن حقوق الآخرين بالحماسة نفسها التي يدافعون فيها عن حقوقهم. سيكونون هم من سيحكمون علينا يومًا ما: إيجابًا، إذا ما قدّمنا لهم أُسسًا صلبة لخلق لقاءاتٍ جديدة من التحضّر؛ وسلباً، إذا ما تركنا لهم مجرّد سرابٍ وتطلّعات كئيبة من الصدامات الشائنة وغير الحضارية.

العدالة هي الجناح الثاني للسلام، التي غالبًا ما لا تتضرّر بفعل أحداث فرديّة، لكنّها تتآكل ببطء جرّاء سرطان الظلم.  العدالة المرتكزة إلى الرحمة هي الدرب الواجب اتّباعها من أجل التوصل إلى حياة كريمة هي حق لكل كائن بشري.

ومن ثمَّ، لا يمكن أن نؤمن بالله وألّا نسعى إلى عيش العدالة مع الجميع، بحسب القاعدة الذهبية: “فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ” (متى 7، 12).

إن السلام والعدالة لا ينفصلان أبدًا! قال النبي أشعيا “وَيَكُونُ صُنْعُ الْعَدْلِ سَلاَمًا” (32، 17). فالسلام يموت عندما ينفصل عن العدالة، لكن العدالة تكون مزيفةً إنْ لم تكُن كونيّة. فالعدالة الموجهّة فقط إلى أفراد العائلة، وأبناء الوطن، ومؤمني الديانة نفسها، هي عدالةٌ عرجاء، إنها ظلم مقنّع!

للديانات أيضًا واجبُ التذكير بأن جشع الربح يجعل القلب دون حراك، وبأن قوانين السوق الحاليّة، التي تطالب بكلّ شيء وعلى الفور، لا تساعد اللقاء والحوار والعائلة والأبعاد الأساسية للحياة التي تحتاج لوقت ولصبر. لتكن الأديانُ صوتَ المهمّشين، الذين ليسوا إحصاءات إنما إخوة، ولتقف الأديان إلى جانب الفقراء؛ ولتسهر كحارسة الأُخُوَّة في ليل الصراعات؛ ولتكن ناقوسًا ساهرًا كي لا تغلق الإنسانيّةُ عينَيها أمام الظلم وكي لا تستسلم أبدًا أمام مآسي العالم الكثيرة.

الصحراء التي تُزهر

بعد أن تحدّثتُ عن الأخوّة كسفينة سلام أودّ الآن الاستلهام من صورة ثانية، صورة الصحراء المحيطة بنا.

هنا، وخلال سنوات قليلة، وبفضل بُعد النظر والحكمة، تحوّلت الصحراء إلى مكان مزدهر ومضياف؛ الصحراء التي كانت حاجزًا عسيرًا ومنيعًا، صارت مكانًا للّقاء بين الثقافات والديانات. لقد أزهرت الصحراء هنا، ليس فقط لأيّام قليلة في السنة، إنما لسنوات كثيرة في المستقبل. إن هذا البلد، الذي تعانقُ فيه الرمالُ ناطحاتَ السحاب، يبقى تقاطعًا هامًا بين الشرق والغرب، بين شمال الأرض وجنوبها، يبقى مكانًا للنمو، حيث الفسحاتُ، التي لم تكن مأهولة في السابق، تقدّم اليوم فرص عمل لأشخاص من أمم مختلفة.

بيد أن النموّ أيضًا له أعداؤه. وإن كانت الفردانية هي عدوّ الأخوّة، أودّ الإشارة إلى أن عائق النموّ هو اللامبالاة، والتي تؤول إلى تحويل الواقع المزهر إلى أرضٍ قاحلة. إن النموّ المنفعيّ البحت، في الحقيقة، لا يوفّر تقدّمًا واقعيًّا ومستدامًا. فوحده النموّ المتكامل والمتماسك يقدّم مستقبلاً لائقًا بالإنسان. إن اللامبالاة تَحُول دون النظر إلى الجماعة البشريّة، أبعد من نطاق الربح، وإلى الأخ أبعد من نطاق العمل الذي يقوم به. اللامبالاة، في الواقع، لا تنظر إلى الغد؛ لا تكترث لمستقبل الخليقة، لا تعتني بكرامة الغريب وبمستقبل الأطفال.

في هذا السياق، أعبّر عن سروري بأن أوّل منتدى دولي للتحالف بين الأديان من أجل مجتمعات أكثر أمانًا، حول مسألة كرامة الطفل في العصر الرقمي، قد عُقد هنا في أبو ظبي في نوفمبر / تشرين الثاني الماضي. لقد استأنف هذا الحدثُ الرسالةَ التي أُطلِقت قبل عام في روما، في المؤتمر الدولي حول الموضوع نفسه، والذي قدّمت له دعمي وتشجيعي الكاملين. إني أشكر بالتالي كلّ القادة الملتزمين في هذا المجال، وأؤكّد لهم دعم وتضامن ومشاركة شخصي والكنيسة الكاثوليكية في هذه القضيّة البالغة الأهمّية، قضيّة حماية القاصرين في كلّ أوجهها.

هنا في الصحراء فُتِحَت دربٌ خصبة للنموّ تقدّم، انطلاقًا من العمل، آمالاً لأشخاص كثيرين ينتمون إلى شعوب وثقافات ومعتقدات مختلفة. ومن بين هؤلاء العديد من المسيحيين، الذين يعود تواجدهم في المنطقة إلى القرون الغابرة، وقد وجدوا فرصًا وقدّموا إسهامًا هامًا في نموّ البلاد ورخائها. إن هؤلاء يحملون معهم أصالة إيمانهم فضلًا عن قدراتهم المهنيّة. إن الاحترام والتسامح اللذين يلقونهما، كما دُور العبادة الضرورية من أجل الصلاة، تسمح لهم بالنضوج روحيًّا بشكل يعود بالفائدة على المجتمع بأسره. أشجّع على الاستمرار في هذه الدرب، كي يتمكّن المقيمون والزوّار من الاحتفاظ، ليس فقط بصورة الأعمال العظيمة التي أُقيمت في الصحراء، إنما أيضًا بصورة أمّة تقبل وتعانق الجميع.

بهذه الروح، أتمنّى أن تبصر النور، ليس هنا فقط بل في كلّ منطقة الشرق الأوسط الحبيبة والحيويّة، فرصٌ ملموسة للقاء: مجتمعاتٌ يتمتّع فيها أشخاصٌ ينتمون إلى ديانات مختلفة بحقّ المواطنة نفسِه، وحيث لا يُنتزع هذا الحقّ إلّا من العنف، بجميع أشكاله.

تعايش أخويّ، يرتكز على التربية والعدالة؛ نموّ بشري، يقوم على الإدماج المضياف وعلى حقوق الجميع: هذه هي بذور سلامٍ، ينبغي على الديانات أن تُنبِتَها. في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة، يقع على عاتق الديانات، ربّما أكثر من أيّ وقت مضى، واجبٌ لا يمكن إرجاؤه بعد اليوم: الإسهام بشكل فاعل في تجريد قلب الإنسان من السلاح. إن سباق التسلّح، وتمديد مناطق النفوذ، والسياسات العدائيّة، على حساب الآخرين، لن تؤدّي أبدًا إلى الاستقرار. الحرب لا تولّد سوى البؤس، والأسلحةُ لا تولّد سوى الموت!

إن الأخوّة البشريّة تتطلّب منّا، كممثّلي الأديان، واجبَ حظر كلّ تلميح إلى الموافقة على كلمة “حرب”. دعونا نعيد هذه الكلمة إلى قسوتها البائسة. فأمام أعيننا نجد نتائجها المشؤومة. أفكّر بنوع خاص باليمن، وسوريا والعراق وليبيا. لنلتزم معًا، كأخوة في العائلة البشريّة الواحدة التي شاءها الله، ضدّ منطق القوّة المسلحة، ضدّ تقييم العلاقات بوزنها الاقتصادي، ضدّ التسلّح على الحدود وبناء الجدران وخنق أصوات الفقراء؛ لنواجه كلّ هذه الأمور بواسطة قوّة الصلاة العذبة والالتزام اليوميّ في الحوار. ليكن وجودُنا معًا اليوم رسالةَ ثقة، وتشجيعًا لجميع الأشخاص ذوي الإرادة الحسنة، كي لا يستسلموا أمام طوفان العنف، وأمام تصحّر الغيريّة. والله هو مع الإنسان الذي يبحث عن السلام. ومن السماء يبارك كلّ خطوة تُتّخذ على الأرض في هذا الاتّجاه.

شكراً!

***

وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك

يحملُ الإيمانُ المؤمنَ على أن يَرَى في الآخَر أخًا له، عليه أن يُؤازرَه ويُحبَّه. وانطلاقًا من الإيمان بالله الذي خَلَقَ الناسَ جميعًا وخَلَقَ الكونَ والخلائقَ وساوَى بينَهم برحمتِه، فإنَّ المؤمنَ مَدعُوٌّ للتعبيرِ عن هذه الأُخوَّةِ الإنسانيَّةِ بالاعتناءِ بالخَلِيقةِ وبالكَوْنِ كُلِّه، وبتقديمِ العَوْنِ لكُلِّ إنسانٍ، لا سيَّما الضُّعفاءِ منهم والأشخاصِ الأكثرِ حاجَةً وعَوَزًا.

وانطلاقًا من هذا المعنى المُتسامِي، وفي عِدَّةِ لقاءاتٍ سادَها جَوٌّ مُفعَمٌ بالأُخوَّةِ والصَّداقةِ تَشارَكنا الحديثَ عن أفراحِ العالم المُعاصِر وأحزانِه وأزماتِه سواءٌ على مُستَوى التقدُّم العِلميِّ والتقنيِّ، والإنجازاتِ العلاجيَّة، والعصرِ الرَّقميِّ، ووسائلِ الإعلامِ الحديثةِ، أو على مستوى الفقرِ والحُروبِ، والآلامِ التي يُعاني منها العديدُ من إخوتِنا وأخَواتِنا في مَناطقَ مُختلِفةٍ من العالمِ، نتيجةَ سِباقِ التَّسلُّح، والظُّلمِ الاجتماعيِّ، والفسادِ، وعدَمِ المُساواةِ، والتدهورِ الأخلاقيِّ، والإرهابِ، والعُنصُريَّةِ والتَّطرُّفِ، وغيرِها من الأسبابِ الأُخرى.

ومن خِلالِ هذه المُحادَثاتِ الأخَويَّةِ الصادِقةِ التي دارت بينَنا، وفي لقاءٍ يَملَؤُهُ الأمَلُ في غَدٍ مُشرِق لكُلِّ بني الإنسانِ، وُلِدت فكرةُ «وثيقة الأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ»، وجرى العَمَلُ عليها بإخلاصٍ وجديَّةٍ؛ لتكونَ إعلانًا مُشتَركًا عن نَوايا صالحةٍ وصادقةٍ من أجل دعوةِ كُلِّ مَن يَحمِلُونَ في قُلوبِهم إيمانًا باللهِ وإيمانًا بالأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ أن يَتَوحَّدُوا ويَعمَلُوا معًا من أجلِ أن تُصبِحَ هذه الوثيقةُ دليلًا للأجيالِ القادِمةِ، يَأخُذُهم إلى ثقافةِ الاحترامِ المُتبادَلِ، في جَوٍّ من إدراكِ النِّعمةِ الإلهيَّةِ الكُبرَى التي جَعلَتْ من الخلقِ جميعًا إخوةً.

الوثيقة

باسمِ الله الَّذي خَلَقَ البَشَرَ جميعًا مُتَساوِين في الحُقُوقِ والواجباتِ والكَرامةِ، ودَعاهُم للعَيْشِ كإخوةٍ فيما بَيْنَهم ليُعَمِّروا الأرضَ، ويَنشُروا فيها قِيَمَ الخَيْرِ والمَحَبَّةِ والسَّلامِ.

باسمِ النفسِ البَشَريَّةِ الطَّاهِرةِ التي حَرَّمَ اللهُ إزهاقَها، وأخبَرَ أنَّه مَن جَنَى على نَفْسٍ واحدةٍ فكأنَّه جَنَى على البَشَريَّةِ جَمْعاءَ، ومَنْ أَحْيَا نَفْسًا واحدةً فكَأنَّما أَحْيَا الناسَ جميعًا.

باسمِ الفُقَراءِ والبُؤَساءِ والمَحرُومِينَ والمُهمَّشِينَ الَّذين أَمَرَ اللهُ بالإحسانِ إليهم ومَدِّ يَدِ العَوْنِ للتَّخفِيفِ عنهم، فرضًا على كُلِّ إنسانٍ لا سيَّما كُلِّ مُقتَدرٍ ومَيسُورٍ.

باسمِ الأيتامِ والأَرامِلِ، والمُهَجَّرينَ والنَّازِحِينَ من دِيارِهِم وأَوْطانِهم، وكُلِّ ضَحايا الحُرُوبِ والاضطِهادِ والظُّلْمِ، والمُستَضعَفِينَ والخائِفِينَ والأَسْرَى والمُعَذَّبِينَ في الأرضِ، دُونَ إقصاءٍ أو تمييزٍ.

باسمِ الشُّعُوبِ التي فقَدَتِ الأَمْنَ والسَّلامَ والتَّعايُشَ، وحَلَّ بها الدَّمارُ والخَرَابُ والتَّناحُر.

باسمِ «الأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ» التي تَجمَعُ البَشَرَ جميعًا، وتُوحِّدُهم وتُسوِّي بينَهم.

باسم تلك الأُخُوَّةِ التي أرهَقَتْها سِياساتُ التَّعَصُّبِ والتَّفرِقةِ، التي تَعبَثُ بمَصائِرِ الشُّعُوبِ ومُقَدَّراتِهم، وأَنظِمةُ التَّرَبُّحِ الأَعْمَى، والتَّوَجُّهاتُ الأيدلوجيَّةِ البَغِيضةِ.

باسمِ الحُرِّيَّةِ التي وَهَبَها اللهُ لكُلِّ البَشَرِ وفطَرَهُم عليها ومَيَّزَهُم بها.

باسمِ العَدْلِ والرَّحمةِ، أساسِ المُلْكِ وجَوْهَرِ الصَّلاحِ.

باسمِ كُلِّ الأشخاصِ ذَوِي الإرادةِ الصالحةِ، في كلِّ بِقاعِ المَسكُونَةِ.

باسمِ اللهِ وباسمِ كُلِّ ما سَبَقَ، يُعلِنُ الأزهَرُ الشريفُ – ومِن حَوْلِه المُسلِمُونَ في مَشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها – والكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ – ومِن حولِها الكاثوليك من الشَّرقِ والغَرْبِ – تَبنِّي ثقافةِ الحوارِ دَرْبًا، والتعاوُنِ المُشتركِ سبيلًا، والتعارُفِ المُتَبادَلِ نَهْجًا وطَرِيقًا.

إنَّنا نحن – المُؤمِنين باللهِ وبلِقائِه وبحِسابِه – ومن مُنطَلَقِ مَسؤُوليَّتِنا الدِّينيَّةِ والأدَبيَّةِ، وعَبْرَ هذه الوثيقةِ، نُطالِبُ أنفُسَنا وقادَةَ العالَمِ، وصُنَّاعَ السِّياساتِ الدَّولِيَّةِ والاقتصادِ العالَمِيِّ، بالعمَلِ جدِّيًّا على نَشْرِ ثقافةِ التَّسامُحِ والتعايُشِ والسَّلامِ، والتدخُّلِ فَوْرًا لإيقافِ سَيْلِ الدِّماءِ البَرِيئةِ، ووَقْفِ ما يَشهَدُه العالَمُ حاليًّا من حُرُوبٍ وصِراعاتٍ وتَراجُعٍ مناخِيٍّ وانحِدارٍ ثقافيٍّ وأخلاقيٍّ.

ونَتَوجَّهُ للمُفكِّرينَ والفَلاسِفةِ ورِجالِ الدِّينِ والفَنَّانِينَ والإعلاميِّين والمُبدِعِينَ في كُلِّ مكانٍ ليُعِيدُوا اكتشافَ قِيَمِ السَّلامِ والعَدْلِ والخَيْرِ والجَمالِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المُشتَرَكِ، وليُؤكِّدوا أهميَّتَها كطَوْقِ نَجاةٍ للجَمِيعِ، وليَسعَوْا في نَشْرِ هذه القِيَمِ بينَ الناسِ في كلِّ مكان.

إنَّ هذا الإعلانَ الذي يأتي انطِلاقًا من تَأمُّلٍ عَمِيقٍ لواقعِ عالَمِنا المُعاصِرِ وتقديرِ نجاحاتِه ومُعايَشةِ آلامِه ومَآسِيهِ وكَوارِثِه – لَيُؤمِنُ إيمانًا جازمًا بأنَّ أهمَّ أسبابِ أزمةِ العالمِ اليَوْمَ يَعُودُ إلى تَغيِيبِ الضميرِ الإنسانيِّ وإقصاءِ الأخلاقِ الدِّينيَّةِ، وكذلك استِدعاءُ النَّزْعَةِ الفرديَّةِ والفَلْسَفاتِ المادِّيَّةِ، التي تُؤَلِّهُ الإنسانَ، وتَضَعُ القِيَمَ المادِّيَّةَ الدُّنيويَّةَ مَوْضِعَ المَبادِئِ العُلْيَا والمُتسامِية.

إنَّنا، وإنْ كُنَّا نُقدِّرُ الجوانبَ الإيجابيَّةَ التي حقَّقَتْها حَضارَتُنا الحَدِيثةُ في مَجالِ العِلْمِ والتِّقنيةِ والطبِّ والصِّناعةِ والرَّفاهِيةِ، وبخاصَّةٍ في الدُّوَلِ المُتقدِّمةِ، فإنَّا – مع ذلك – نُسجِّلُ أنَّ هذه القَفزات التاريخيَّةَ الكُبرى والمَحمُودةَ تَراجَعَتْ معها الأخلاقُ الضَّابِطةُ للتصرُّفاتِ الدوليَّةِ، وتَراجَعَتِ القِيَمُ الرُّوحِيَّةُ والشُّعُورُ بالمَسؤُوليَّةِ؛ ممَّا أسهَمَ في نَشْرِ شُعُورٍ عامٍّ بالإحباطِ والعُزْلَةِ واليَأْسِ، ودَفَعَ الكَثِيرينَ إلى الانخِراطِ إمَّا في دَوَّامةِ التَّطرُّفِ الإلحاديِّ واللادينيِّ، وإمَّا في دوامة التَّطرُّفِ الدِّينيِّ والتشدُّدِ والتَّعصُّبِ الأعمى، كما دَفَعَ البعضَ إلى تَبَنِّي أشكالٍ من الإدمانِ والتَّدمِيرِ الذاتيِّ والجَماعيِّ.

إنَّ التاريخَ يُؤكِّدُ أنَّ التطرُّفَ الدِّينيَّ والقوميَّ والتعصُّبَ قد أثمَرَ في العالَمِ، سواءٌ في الغَرْبِ أو الشَّرْقِ، ما يُمكِنُ أن نُطلِقَ عليه بَوادِر «حربٍ عالميَّةٍ ثالثةٍ على أجزاءٍ»، بدَأَتْ تَكشِفُ عن وَجهِها القبيحِ في كثيرٍ من الأماكنِ، وعن أوضاعٍ مَأساويَّةٍ لا يُعرَفُ – على وَجْهِ الدِّقَّةِ – عَدَدُ مَن خلَّفَتْهم من قَتْلَى وأرامِلَ وثَكالى وأيتامٍ، وهناك أماكنُ أُخرَى يَجرِي إعدادُها لمَزيدٍ من الانفجارِ وتكديسِ السِّلاح وجَلْبِ الذَّخائرِ، في وَضْعٍ عالَمِيٍّ تُسيطِرُ عليه الضَّبابيَّةُ وخَيْبَةُ الأملِ والخوفُ من المُستَقبَلِ، وتَتحكَّمُ فيه المَصالحُ الماديَّةُ الضيِّقة.

ونُشدِّدُ أيضًا على أنَّ الأزماتِ السياسيَّةَ الطاحنةَ، والظُّلمَ وافتِقادَ عَدالةِ التوزيعِ للثرواتِ الطبيعيَّة – التي يَستَأثِرُ بها قِلَّةٌ من الأثرياءِ ويُحرَمُ منها السَّوادُ الأعظَمُ من شُعُوبِ الأرضِ – قد أَنْتَجَ ويُنْتِجُ أعدادًا هائلةً من المَرْضَى والمُعْوِزِين والمَوْتَى، وأزماتٍ قاتلةً تَشهَدُها كثيرٌ من الدُّوَلِ، برغمِ ما تَزخَرُ به تلك البلادُ من كُنوزٍ وثَرواتٍ، وما تَملِكُه من سَواعِدَ قَويَّةٍ وشبابٍ واعدٍ. وأمامَ هذه الأزمات التي تجعَلُ مَلايينَ الأطفالِ يَمُوتُونَ جُوعًا، وتَتحَوَّلُ أجسادُهم – من شِدَّةِ الفقرِ والجوعِ – إلى ما يُشبِهُ الهَيَاكِلَ العَظميَّةَ الباليةَ، يَسُودُ صمتٌ عالميٌّ غيرُ مقبولٍ.

وهنا تَظهَرُ ضرورةُ الأُسرَةِ كنواةٍ لا غِنى عنها للمُجتمعِ وللبشريَّةِ، لإنجابِ الأبناءِ وتَربيتِهم وتَعليمِهم وتَحصِينِهم بالأخلاقِ وبالرعايةِ الأُسريَّةِ، فمُهاجَمةُ المُؤسَّسةِ الأسريَّةِ والتَّقلِيلُ منها والتَّشكيكُ في أهميَّةِ دَوْرِها هو من أخطَرِ أمراض عَصرِنا.

إنَّنا نُؤكِّدُ أيضًا على أهميَّةِ إيقاظِ الحِسِّ الدِّينيِّ والحاجةِ لبَعْثِه مُجدَّدًا في نُفُوسِ الأجيالِ الجديدةِ عن طريقِ التَّربيةِ الصَّحِيحةِ والتنشئةِ السَّليمةِ والتحلِّي بالأخلاقِ والتَّمسُّكِ بالتعاليمِ الدِّينيَّةِ القَوِيمةِ لمُواجَهةِ النَّزعاتِ الفرديَّةِ والأنانيَّةِ والصِّدامِيَّةِ، والتَّطرُّفِ والتعصُّبِ الأعمى بكُلِّ أشكالِه وصُوَرِه.

إنَّ هَدَفَ الأديانِ الأوَّلَ والأهمَّ هو الإيمانُ بالله وعبادتُه، وحَثُّ جميعِ البَشَرِ على الإيمانِ بأنَّ هذا الكونَ يَعتَمِدُ على إلهٍ يَحكُمُه، هو الخالقُ الذي أَوْجَدَنا بحِكمةٍ إلهيَّةٍ، وأَعْطَانَا هِبَةَ الحياةِ لنُحافِظَ عليها، هبةً لا يَحِقُّ لأيِّ إنسانٍ أن يَنزِعَها أو يُهَدِّدَها أو يَتَصرَّفَ بها كما يَشاءُ، بل على الجميعِ المُحافَظةُ عليها منذُ بدايتِها وحتى نهايتِها الطبيعيَّةِ؛ لذا نُدِينُ كُلَّ المُمارَسات التي تُهدِّدُ الحياةَ؛ كالإبادةِ الجماعيَّةِ، والعَمَليَّاتِ الإرهابيَّة، والتهجيرِ القَسْرِيِّ، والمُتاجَرةِ بالأعضاءِ البشَرِيَّةِ، والإجهاضِ، وما يُطلَقُ عليه الموت (اللا) رَحِيم، والسياساتِ التي تُشجِّعُها.

كما نُعلنُ – وبحَزمٍ – أنَّ الأديانَ لم تَكُنْ أبَدًا بَرِيدًا للحُرُوبِ أو باعثةً لمَشاعِرِ الكَراهِيةِ والعداءِ والتعصُّبِ، أو مُثِيرةً للعُنْفِ وإراقةِ الدِّماءِ، فهذه المَآسِي حَصِيلَةُ الانحِرافِ عن التعاليمِ الدِّينِيَّة، ونتيجةُ استِغلالِ الأديانِ في السِّياسَةِ، وكذا تأويلاتُ طائفةٍ من رِجالاتِ الدِّينِ – في بعض مَراحِلِ التاريخِ – ممَّن وظَّف بعضُهم الشُّعُورَ الدِّينيَّ لدَفْعِ الناسِ للإتيانِ بما لا علاقةَ له بصَحِيحِ الدِّينِ، من أجلِ تَحقِيقِ أهدافٍ سياسيَّةٍ واقتصاديَّةٍ دُنيويَّةٍ ضَيِّقةٍ؛ لذا فنحنُ نُطالِبُ الجميعَ بوَقْفِ استخدامِ الأديانِ في تأجيجِ الكراهيةِ والعُنْفِ والتطرُّفِ والتعصُّبِ الأعمى، والكَفِّ عن استخدامِ اسمِ الله لتبريرِ أعمالِ القتلِ والتشريدِ والإرهابِ والبَطْشِ؛ لإيمانِنا المُشتَرَكِ بأنَّ الله لم يَخْلُقِ الناسَ ليُقَتَّلوا أو ليَتَقاتَلُوا أو يُعذَّبُوا أو يُضيَّقَ عليهم في حَياتِهم ومَعاشِهم، وأنَّه – عَزَّ وجَلَّ – في غِنًى عمَّن يُدَافِعُ عنه أو يُرْهِبُ الآخَرِين باسمِه.

إنَّ هذه الوثيقةَ، إذ تَعتَمِدُ كُلَّ ما سبَقَها من وَثائِقَ عالَمِيَّةٍ نَبَّهَتْ إلى أهميَّةِ دَوْرِ الأديانِ في بِناءِ السَّلامِ العالميِّ، فإنَّها تُؤكِّدُ الآتي:

– القناعةُ الراسخةُ بأنَّ التعاليمَ الصحيحةَ للأديانِ تَدعُو إلى التمسُّك بقِيَمِ السلام وإعلاءِ قِيَمِ التعارُّفِ المُتبادَلِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المشترَكِ، وتكريس الحِكْمَةِ والعَدْلِ والإحسانِ، وإيقاظِ نَزْعَةِ التديُّن لدى النَّشْءِ والشبابِ؛ لحمايةِ الأجيالِ الجديدةِ من سَيْطَرَةِ الفكرِ المادِّيِّ، ومن خَطَرِ سِياساتِ التربُّح الأعمى واللامُبالاةِ القائمةِ على قانونِ القُوَّةِ لا على قُوَّةِ القانونِ.

– أنَّ الحريَّةَ حَقٌّ لكُلِّ إنسانٍ: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا ومُمارَسةً، وأنَّ التَّعدُّدِيَّةَ والاختلافَ في الدِّينِ واللَّوْنِ والجِنسِ والعِرْقِ واللُّغةِ حِكمةٌ لمَشِيئةٍ إلهيَّةٍ، قد خَلَقَ اللهُ البشَرَ عليها، وجعَلَها أصلًا ثابتًا تَتَفرَّعُ عنه حُقُوقُ حُريَّةِ الاعتقادِ، وحريَّةِ الاختلافِ، وتجريمِ إكراهِ الناسِ على دِينٍ بعَيْنِه أو ثقافةٍ مُحدَّدةٍ، أو فَرْضِ أسلوبٍ حضاريٍّ لا يَقبَلُه الآخَر.

– أنَّ العدلَ القائمَ على الرحمةِ هو السبيلُ الواجبُ اتِّباعُه للوُصولِ إلى حياةٍ كريمةٍ، يحقُّ لكُلِّ إنسانٍ أن يَحْيَا في كَنَفِها.

– أنَّ الحوارَ والتفاهُمَ ونشرَ ثقافةِ التسامُحِ وقَبُولِ الآخَرِ والتعايُشِ بين الناسِ، من شأنِه أن يُسهِمَ في احتواءِ كثيرٍ من المشكلاتِ الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والبيئيَّة التي تُحاصِرُ جُزءًا كبيرًا من البَشَرِ.

– أنَّ الحوارَ بين المُؤمِنين يَعنِي التلاقيَ في المساحةِ الهائلةِ للقِيَمِ الرُّوحيَّةِ والإنسانيَّةِ والاجتماعيَّةِ المُشترَكةِ، واستثمارَ ذلك في نَشْرِ الأخلاقِ والفَضائلِ العُلْيَا التي تدعو إليها الأديانُ، وتَجنُّبَ الجَدَلِ العَقِيمِ.

– أنَّ حمايةَ دُورِ العبادةِ، من مَعابِدَ وكَنائِسَ ومَساجِدَ، واجبٌ تَكفُلُه كُلُّ الأديانِ والقِيَمِ الإنسانيَّةِ والمَوَاثيقِ والأعرافِ الدوليَّةِ، وكلُّ محاولةٍ للتعرُّضِ لِدُورِ العبادةِ، واستهدافِها بالاعتداءِ أو التفجيرِ أو التهديمِ، هي خُروجٌ صَرِيحٌ عن تعاليمِ الأديانِ، وانتهاكٌ واضحٌ للقوانينِ الدوليَّةِ.

– أنَّ الإرهابَ البَغِيضَ الذي يُهدِّدُ أمنَ الناسِ، سَواءٌ في الشَّرْقِ أو الغَرْبِ، وفي الشَّمالِ والجَنوبِ، ويُلاحِقُهم بالفَزَعِ والرُّعْبِ وتَرَقُّبِ الأَسْوَأِ، ليس نِتاجًا للدِّين – حتى وإنْ رَفَعَ الإرهابيُّون لافتاتِه ولَبِسُوا شاراتِه – بل هو نتيجةٌ لتَراكُمات الفُهُومِ الخاطئةِ لنُصُوصِ الأديانِ وسِياساتِ الجُوعِ والفَقْرِ والظُّلْمِ والبَطْشِ والتَّعالِي؛ لذا يجبُ وَقْفُ دَعْمِ الحَرَكاتِ الإرهابيَّةِ بالمالِ أو بالسلاحِ أو التخطيطِ أو التبريرِ، أو بتوفيرِ الغِطاءِ الإعلاميِّ لها، واعتبارُ ذلك من الجَرائِمِ الدوليَّةِ التي تُهدِّدُ الأَمْنَ والسِّلْمَ العالميَّين، ويجب إدانةُ ذلك التَّطرُّفِ بكُلِّ أشكالِه وصُوَرِه.

– أنَّ مفهومَ المواطنةِ يقومُ على المُساواةِ في الواجباتِ والحُقوقِ التي يَنعَمُ في ظِلالِها الجميعُ بالعدلِ؛ لذا يَجِبُ العملُ على ترسيخِ مفهومِ المواطنةِ الكاملةِ في مُجتَمَعاتِنا، والتخلِّي عن الاستخدام الإقصائيِّ لمصطلح «الأقليَّاتِ» الذي يَحمِلُ في طيَّاتِه الإحساسَ بالعُزْلَةِ والدُّونيَّة، ويُمهِّدُ لِبُذُورِ الفِتَنِ والشِّقاقِ، ويُصادِرُ على استحقاقاتِ وحُقُوقِ بعض المُواطِنين الدِّينيَّةِ والمَدَنيَّةِ، ويُؤدِّي إلى مُمارسةِ التمييز ضِدَّهُم.

– أنَّ العلاقةَ بينَ الشَّرْقِ والغَرْبِ هي ضَرُورةٌ قُصوَى لكِلَيْهما، لا يُمكِنُ الاستعاضةُ عنها أو تَجاهُلُها، ليَغتَنِيَ كلاهما من الحَضارةِ الأُخرى عَبْرَ التَّبادُلِ وحوارِ الثقافاتِ؛ فبإمكانِ الغَرْبِ أن يَجِدَ في حَضارةِ الشرقِ ما يُعالِجُ به بعضَ أمراضِه الرُّوحيَّةِ والدِّينيَّةِ التي نتَجَتْ عن طُغيانِ الجانبِ الماديِّ، كما بإمكانِ الشرق أن يَجِدَ في حضارةِ الغربِ كثيرًا ممَّا يُساعِدُ على انتِشالِه من حالاتِ الضعفِ والفُرقةِ والصِّراعِ والتَّراجُعِ العلميِّ والتقنيِّ والثقافيِّ. ومن المهمِّ التأكيدُ على ضَرُورةِ الانتباهِ للفَوَارقِ الدِّينيَّةِ والثقافيَّةِ والتاريخيَّةِ التي تَدخُلُ عُنْصرًا أساسيًّا في تكوينِ شخصيَّةِ الإنسانِ الشرقيِّ، وثقافتِه وحضارتِه، والتأكيدُ على أهميَّةِ العمَلِ على تَرسِيخِ الحقوقِ الإنسانيَّةِ العامَّةِ المُشترَكةِ، بما يُسهِمُ في ضَمانِ حياةٍ كريمةٍ لجميعِ البَشَرِ في الشَّرْقِ والغَرْبِ بعيدًا عن سياسةِ الكَيْلِ بمِكيالَيْنِ.

– أنَّ الاعترافَ بحَقِّ المرأةِ في التعليمِ والعملِ ومُمارَسةِ حُقُوقِها السياسيَّةِ هو ضَرُورةٌ مُلِحَّةٌ، وكذلك وجوبُ العملِ على تحريرِها من الضُّغُوطِ التاريخيَّةِ والاجتماعيَّةِ المُنافِيةِ لثَوابِتِ عَقيدتِها وكَرامتِها، ويَجِبُ حِمايتُها أيضًا من الاستغلالِ الجنسيِّ ومن مُعامَلتِها كسِلعةٍ أو كأداةٍ للتمتُّعِ والتربُّحِ؛ لذا يجبُ وقفُ كل المُمارَساتِ اللاإنسانية والعادات المُبتذِلة لكَرامةِ المرأةِ، والعمَلُ على تعديلِ التشريعاتِ التي تَحُولُ دُونَ حُصُولِ النساءِ على كامِلِ حُقوقِهنَّ.

– أنَّ حُقوقَ الأطفالِ الأساسيَّةَ في التنشئةِ الأسريَّةِ، والتغذيةِ والتعليمِ والرعايةِ، واجبٌ على الأسرةِ والمجتمعِ، وينبغي أن تُوفَّرَ وأن يُدافَعَ عنها، وألَّا يُحرَمَ منها أيُّ طفلٍ في أيِّ مكانٍ، وأن تُدانَ أيَّةُ مُمارسةٍ تَنالُ من كَرامتِهم أو تُخِلُّ بحُقُوقِهم، وكذلك ضرورةُ الانتباهِ إلى ما يَتعرَّضُون له من مَخاطِرَ – خاصَّةً في البيئةِ الرقميَّة – وتجريمِ المُتاجرةِ بطفولتهم البريئةِ، أو انتهاكها بأيِّ صُورةٍ من الصُّوَرِ.

– أنَّ حمايةَ حُقوقِ المُسنِّين والضُّعفَاءِ وذَوِي الاحتياجاتِ الخاصَّةِ والمُستَضعَفِينَ ضرورةٌ دِينيَّةٌ ومُجتمعيَّةٌ يَجِبُ العمَلُ على تَوفيرِها وحِمايتِها بتشريعاتٍ حازمةٍ وبتطبيقِ المواثيقِ الدوليَّة الخاصَّةِ بهم.

وفي سبيلِ ذلك، ومن خلالِ التعاون المُشترَكِ بين الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ والأزهرِ الشريفِ، نُعلِنُ ونَتَعهَّدُ أنَّنا سنعملُ على إيصالِ هذه الوثيقةِ إلى صُنَّاعِ القرارِ العالميِّ، والقياداتِ المؤثِّرةِ ورجالِ الدِّين في العالمِ، والمُنظَّماتِ الإقليميَّةِ والدوليَّةِ المَعنِيَّةِ، ومُنظَّماتِ المُجتَمَعِ المدنيِّ، والمؤسساتِ الدينيَّة وقادَةِ الفِكْرِ والرَّأيِ، وأن نَسْعَى لنشرِ ما جاءَ بها من مَبادِئَ على كافَّةِ المُستوياتِ الإقليميَّةِ والدوليَّةِ، وأن نَدعُوَ إلى تَرجمتِها إلى سِياساتٍ وقَراراتٍ ونُصوصٍ تشريعيَّةٍ، ومَناهجَ تعليميَّةٍ ومَوادَّ إعلاميَّةٍ.

كما نُطالِبُ بأن تُصبِحَ هذه الوثيقةُ مَوضِعَ بحثٍ وتأمُّلٍ في جميعِ المَدارسِ والجامعاتِ والمَعاهدِ التعليميَّةِ والتربويَّةِ؛ لتُساعِدَ على خَلْقِ أجيالٍ جديدةٍ تحملُ الخَيْرَ والسَّلامَ، وتُدافِعُ عن حقِّ المَقهُورِين والمَظلُومِين والبُؤَساءِ في كُلِّ مكانٍ.

ختامًا:

لتكن هذه الوثيقةُ دعوةً للمُصالَحة والتَّآخِي بين جميعِ المُؤمِنين بالأديانِ، بل بين المُؤمِنين وغيرِ المُؤمِنين، وكلِّ الأشخاصِ ذَوِي الإرادةِ الصالحةِ؛

لتَكُنْ وثيقتُنا نِداءً لكلِّ ضَمِيرٍ حيٍّ يَنبذُ العُنْفَ البَغِيضَ والتطرُّفَ الأعمى، ولِكُلِّ مُحِبٍّ لمَبادئِ التسامُحِ والإخاءِ التي تدعو لها الأديانُ وتُشجِّعُ عليها؛

لتكن وثيقتُنا شِهادةً لعَظَمةِ الإيمانِ باللهِ الذي يُوحِّدُ القُلوبَ المُتفرِّقةَ ويَسمُو بالإنسانِ؛

لتكن رمزًا للعِناقِ بين الشَّرْقِ والغَرْبِ، والشمالِ والجنوبِ، وبين كُلِّ مَن يُؤمِنُ بأنَّ الله خَلَقَنا لنَتعارَفَ ونَتعاوَنَ ونَتَعايَشَ كإخوةٍ مُتَحابِّين.

هذا ما نَأمُلُه ونسعى إلى تحقيقِه؛ بُغيةَ الوُصولِ إلى سلامٍ عالميٍّ يَنعمُ به الجميعُ في هذه الحياةِ.

أبو ظبي، 4 فبراير 2019

شيخ الأزهر الشريف                  قداسة البابا
أحمد الطيب                              فرنسيس