– يسوع للتلميذ الحبيب: أخبر البشر بأنّ الفادي قد بكى، وبأنّهم، خُلِّصوا أيضاً بدموعي..
***
156 – (في منزل قوزى الريفيّ فيما وراء الأردن) الجزء 7: القسم 1 (30/07/1944)
(PDF) – (Maria-Valtorta_Part7-156) لأنه تمّ إختصار النص..
…«آه! لقد كنّا متأكّدين مِن مجيئكَ. وما السبب الذي يمنعكَ مِن المجيء؟»
يسوع: «ما السبب!!! لأنّني يا قوزى، قد أتيتُ لأبيّن لكَ بأنّني لستُ جباناً. ما مِن جبناء سوى الأشرار، الذين يرتكبون الخطأ الذي يجعلهم يخشون مِن العدالة… مِن عدالة البشر، مع الأسف، فيما عليهم أن يخافوا أوّلاً مِن العدل الأوحد، عدل الله. أمّا أنا فلستُ على خطأ، ولا أخاف مِن البشر.»
«إنّما يا سيّد! كلّ الذين معي يُجلّونكَ! مثلي. وما مِن سبب على الإطلاق يجعلنا نخيفكَ! نحن نريد تكريمكَ، لا أن نهينكَ!» قوزى محزون ويكاد يكون ساخطاً.
يسوع، الجالس قبالته، فيما تتقدّم العربة على مهل مُصدِرة صريراً وسط الريف الأخضر، يجيب: «أكثر مِن الحرب الـمُعلنة للأعداء، عليَّ أن أخشى الحرب المضمَرة للأصدقاء المزيّفين، أو الحماسة المتهوّرة للأصدقاء الحقيقيّين الذين لم يفهموني بعد. وأنتَ واحد منهم. ألا تذكر ما قلتُه في بيت حير؟»…
اللقاء
يسوع، الذي بقي وحيداً، بعدما أعطى لأحد الخدّام نعليه وثوبه كي يتمّ تنظيفها وترتيبها لإزالة آثار رحلات اليوم المنصرم. لا ينام؛ … قوزى يدخل: إنّه يرتدي رداء فاخراً مِن أجل الوليمة. إنّه يَنظُر ويُدرك بأنّ الأريكة لم تُمسّ. «ألم تنم؟ لماذا؟ إنّكَ متعب…»
«لقد ارتحتُ في الصمت والظلّ. وهذا يكفيني.»…
…ينضمّ يسوع للضيوف في الردهة التي تقسم المنزل مِن الشمال إلى الجنوب، مُشكّلاً متّسعاً ذا تهوية ولطيفاً، مزوّداً بمقاعد… يسوع مهيب. وعلى الرغم مِن أنّه لم ينم، فهو يبدو وكأنّه حَصَلَ على حيويّة، ومشيته كالّتي لملك…
يَجلسون بعد صلاة الشكر وبعد غَسل إضافيّ لليدين، ويبدأ العشاء، احتفاليّاً كالمعتاد، بصمت في البداية. ثمّ ينكسر الجليد. يسوع إلى جانب قوزى، الآخرون أجلسهم قوزى، بحكم خبرته كأحد رجال الحاشية الملكيّة، على جانبي المائدة التي هي بشكل حرف U. وحده الأسّينيّ رَفَضَ بشكل قاطع المشاركة بالوليمة والجلوس إلى المائدة مع الآخرين..
إنّها وليمة غريبة، حيث يتواصلون مع بعضهم بالنظرات أكثر منه بالكلام…
الحوار
«يا معلّم» يبتدئ قوزى «لا بدّ أنّكَ قد تساءلتَ عن سبب عقدنا هذا الاجتماع، ولماذا التزمنا بالصمت. إنّما ما سنقوله لكَ خطير جدّاً ويجب ألّا تسمعه آذان متهوّرة. إنّنا الآن وحدنا ويمكننا الكلام. وكما ترى، فإنّ كلّ الحاضرين يكنّون لكَ أعظم احترام. إنّكَ وسط أشخاص يجلّونكَ إنساناً ومسيّا. إنّ برّكَ، حكمتكَ، والمواهب التي منحكَ الله سلطتها، هي معروفة وموضع احترام مِن قِبَلنا. إنّكَ بالنسبة لنا مسيح إسرائيل. المسيح وفقاً للفكر الروحانيّ وكذلك السياسيّ. إنّكَ المنتَظَر الذي سيضع حدّاً لمعاناة وذلّ الشعب بأكمله، لا فقط لهذا الشعب الذي هو ضمن حدود إسرائيل، أو بالأحرى، ضمن حدود فلسطين، وإنّما لكلّ شعب إسرائيل، لجاليات الشتات التي لا تُعَدّ ولا تحصى، المنتشرة في جميع أرجاء الأرض، والتي تجعل اسم يهوه يتردّد تحت كلّ سماء، والتي تُعرِّف بالوعود والآمال، والتي تتحقّق الآن، مِن قِبَل مسيح مُصلِح، منتقم، محرِّر ومبدع للاستقلال الحقيقيّ، والوطن إسرائيل، أي، الوطن الأعظم في العالم، الوطن: المالك والمسيطر، الذي يمسح كلّ ذكريات الماضي، وكلّ آثار العبوديّة الراهنة، حيث تنتصر العبرانيّة على الجميع وعلى كلّ شيء، وللأبد، لأنّ هذا ما قيل وهذا ما يتحقّق. يا سيّد، هنا، في حضرتكَ، كلّ إسرائيل ممثّلاً بكافّة طبقات هذا الشعب الخالد، المعاقَب إنّما المحبوب مِن قِبَل العليّ الذي أعلَنَه “شعبه”. لديكَ قلب إسرائيل النابض والفاعل مع أعضاء السنهدرين والكَهَنَة، معكَ السُّلطة والقداسة مع الفرّيسيّين والصدّوقيّين، لديكَ الحكمة بحضور الكَتَبَة والرابيّين، لديكَ السياسة والقَدْر مع الهيروديّين، لديكَ الغِنى بحضور الأغنياء، لديكَ الشعب مع التّجار وأصحاب الأملاك، لديكَ الشّتات بحضور المهتدين، ولديكَ حتّى أولئك المعزولين، الذين هم جاهزون الآن للإتّحاد لأنّهم يرون فيكَ المنتَظَر: الإسّنيّون، الإسّنيّون الذين يستحيل التوافق معهم. انظر، يا ربّ، إلى هذه المعجزة الأولى، إلى هذه العلامة العظيمة لرسالتكَ، لحقيقتكَ. فَمِن دون عنف، مِن دون إمكانيّات، مِن دون خدّام، مِن دون جنود، مِن دون سيوف، تَجمَع كلّ شعبكَ معاً، كما يَجمَع حوضٌ مياه ينابيع كثيرة. تقريباً مِن دون كلام، لقد جمعتَنا دونما أيّ إكراه، نحن الشعب الذي فرّقتنا المصائب، الكراهية، الأفكار السياسيّة والدينيّة، وأنتَ قد صالحتَنا. أيا أمير السلام، اغتبط لأنّكَ افتديتَ وأصلحتَ حتّى قبل أن تحظى بالصولجان والتاج. ها إنّ مملكتكَ، مملكة إسرائيل المنتظرة ، قد وُلِدَت. ثرواتنا، وقدراتنا، وسيوفنا تحت قدميكَ. تكلّم، مُرْ! فقد حانت الساعة.»
الكلّ يؤيّدون خطاب قوزى. يسوع، الذي يشبك ذراعيه على صدره، يصمت.
«ألا تقول شيئاً؟ ألا تجيب يا ربّ؟ أربّما أدهَشَكَ الأمر… أربّما تشعر بأنّكَ غير مستعدّ، وتشكّ فيما إذا كان إسرائيل مستعدّاً… لكنّ الأمر ليس كذلك. اسمع أصواتنا. إنّني أتكلّم، ومناحين معي، باسم البلاط الملكي. إنّه لم يعد يستحقّ الوجود. إنّه النتانة والخزي لإسرائيل. إنّه الطغيان المخزي الذي يضطهد الشعب، والمنحني بتذلّل كي يتملّق المغتصِب. لقد حانت ساعته. انهض، يا نجم يعقوب، وبدّد ظلام جوقة الإجرام والعار تلك. وحاضر هنا المدعوّوين هيروديّين: وهم أعداء لـمُدنِّسي اسم الهيروديّة، الذي هو مقدّس بالنسبة لهم. الكلام لكَ.»…
يسوع يصمت.
«يا معلّم، أتعتقد بإمكانيّة الارتياب؟ لقد تفحّصنا الكتابات المقدّسة. أنتَ هو ذاك. يجب أن تملك» يقول أحد الكَتَبَة.
«ينبغي أن تكون ملكاً وكاهناً. نحميا جديد، أعظم مِن الأوّل، ينبغي أن تأتي وتُطهّر. المذبح مدنَّس. ولتستحثّكَ غيرة العليّ» يقول أحد الكَهَنَة.
«كُثُر منّا قد حاربوكَ. أولئك الذين يخافون أسلوبكَ الحكيم في الـمُلْك. لكنّ الشعب معكَ، وأفضلنا هم مع الشعب. إنّنا بحاجة إلى حكيم.»
«إنّنا بحاجة إلى نقيّ.» «إلى ملك حقّ.» «إلى قدّيس.» «إلى مُخلّص. إنّنا نصبح أكثر فأكثر مستعبَدين لكلّ شيء وللجميع. دافِع عنّا يا ربّ!.»
«نحن مُداسون في العالم على الرغم مِن كثرة عددنا وغنانا، فنحن مثل خراف بلا راعٍ. ادعُ إلى جمع شعبكَ بالصرخة العتيقة: “عُد إلى خيامكَ يا إسرائيل!”، كالتجنيد يندفع رعاياك مِن كلّ أرجاء الشتات، لهدم العروش المتداعية للمتجبِّرين غير المحبوبين مِن الله.»
يسوع ما يزال صامتاً. هو الوحيد الذي يجلس هادئاً، كما لو أنّ الأمر لا يعنيه، وسط حوالي أربعين شخصاً مهتاجاً. أكاد أتذكّر عُشرَ حججهم، حيث أنّهم يتكلّمون كلّهم بذات الوقت كما في بلبلة السوق. هو يحافظ على وضعه ويبقى صامتاً.
كلّهم يصرخون: «قل شيئاً! أجب!»
يسوع ينهض على مهل، مُسنِداً يديه إلى حافّة الطاولة. يسود صمت مطبق. وقد ألهَبته ثمانون عيناً، يفتح شفتيه، والآخرون يفعلون مثله، كما لاستنشاق ردّه. والردّ مختَصَر، ولكنّه واضح: «لا».
«ولكن كيف؟ لماذا؟ أتخوننا؟ إنّكَ تخون شعبكَ! إنّه يتنكّر لرسالته! يرفض أمر الله!…» يا لها مِن ضوضاء! صَخَب! وجوه كثيرة تغدو قرمزيّة، فيما العيون متأجّجة، والأيدي تبدو مُهدِّدةً… وبدلاً مِن أنصار مُخلصِين، يبدون كأعداء. إنّما الأمر هكذا: عندما تهيمن الأفكار السياسيّة على القلوب، فحتّى الودعاء يصبحون وحوشاً ضارية ضدّ الذين يعارضون أفكارهم.
صمت غريب يلي الهياج. يبدو الأمر كما لو أنّهم بعد استنفاذ قواهم، فإنّهم جميعاً يشعرون بأنّهم منهكون ومهزومون. إنّهم يتبادلون نظرات متسائلة، مقهورة… البعض مستاؤون…
يسوع يجول بنظره ويقول: «لقد كنتُ أعلم بأنّ هذا هو السبب الذي أردتموني مِن أجله. وقد كنتُ أعلم أنّ مسعاكم بلا جدوى هو. يمكن لقوزى أن يؤكّد لكم بأنّني قلتُ له ذلك في تراقية. لقد أتيتُ لأبرهن لكم بأنّني لا أخشى أيّة مكيدة، لأنّ ساعتي لم تحن بعد. ولن أكون خائفاً عندما يحين أوان المكيدة، لأنّني قد أتيتُ تحديداً مِن أجل ذلك. وقد جئتُ لإقناعكم. ليس جميعكم، إنّما كُثُر منكم هم ذوو إيمان حسن. إنّما ينبغي عليَّ أن أصحّح الخطأ الذي وقعتم فيه. أترون؟ إنّني لا ألومكم. إنّني لا ألوم أحداً، ولا حتّى أولئك، الذين كونهم تلاميذي الأوفياء، فقد كان عليهم أن يتصرّفوا ببرّ وأن يضبطوا رغباتهم ببرّ. إنّني لا ألومكَ، أيّها البارّ تيمون، ولكنّني أقول لكَ بأنّه في عمق محبّتكَ التي تريد إكرامي، ما يزال هناك الأنا الذي لكَ المندَفِع والحالِم بزمن أفضل، حيث يمكنكَ رؤية الذين ضربوكَ مضروبين. أنا لا ألومكَ يا مناحين، ولو أنّه يبدو أنّكَ نسيتَ تماماً الحكمة والـمَثَل الروحانيّ اللذين تلقّيتَهما منّي ومِن المعمدان قبلي، ولكنّني أقول إنّ فيكَ كذلك هناك جذر إنسانيّة سوف ينبت مجدّداً بعد حريق محبّتي. أنا لا ألومكَ يا إليعازر، البارّ جدّاً بسبب المرأة العجوز التي تُرِكَت لكَ، البارّ على الدوام، إنّما ليس الآن.
كما لا ألومكَ أنتَ أيضاً يا قوزى، ولو أنّه كان عليّ أن أفعل ذلك، لأنّ الأنا فيكَ حيّة، أكثر ممّا في أولئك الذين يريدونني أن أكون ملكاً بحسن نيّة. نعم، تريدني أن أكون ملكاً. ليس هناك فخّ فيما تقول. أنتَ لم تأتِ كي توقِع بي، لتشكوني للسنهدرين، للملك، لروما. ولكن بدلاً مِن دافع المحبّة -تظنّ بأنّ كل تصرّف منكَ هو محبّة، إنّما الأمر ليس كذلك- وبدلاً مِن أن يكون الدافع هو المحبّة، فأنتَ تفعل هذا كي تنتقم لنفسكَ مِن الإساءات التي ألحَقَها بكَ البلاط الملكيّ. إنّني ضيفكَ. وعليَّ ألّا آتي على ذكر حقيقة مشاعركَ، لكنّني الحقّ في كلّ شيء، وأنا أتكلّم مِن أجل صالحكَ. والشيء ذاته ينطبق عليكَ يا يواكيم بصرى، وعليكَ أيّها الكاتب يوحنّا، وعليكَ، وعليكَ، وعليكَ.» ويشير إلى هذا وذاك، دونما استياء، إنّما بحزن… ويتابع: «لا ألومكم، ذلك أنّني أعلم أنّكم لستم أنتم مَن تريدون ذلك تلقائيّاً. إنّها المكيدة، هو العدوّ الذي يعمل، وأنتم… وأنتم، مِن غير أن تعلموا ذلك، أدوات بين يديه. حتّى الحبّ، حتّى محبّتكم، أيا تيمون، أيا مناحين، أيا يواكيم، وأنتم كلّكم يا مَن تحبّوني بحقّ، وكذلك إجلالكم، أنتم يا مَن تشعرون بأنّني الرابي الكامل، وحتّى بهذا، فهو، الملعون، يستغلّها للإيذاء وإيذائي. ولكنّني أقول لكم، ولأولئك الذين لا يشاطرونكم مشاعركم، والذين بأهداف تنحطّ أكثر فأكثر، إلى درجة الخيانة والجريمة، يريدونني أن أقبل بأن أكون ملكاً، أقول: لا. ملكوتي ليس مِن هذا العالم. تعالوا إليّ، كي أؤسّس ملكوتي فيكم، وما مِن شيء آخر. والآن دعوني أذهب.»
«لا يا ربّ. نحن مصمّمون تماماً. إنّنا بالفعل قد جهّزنا ثرواتنا، لقد أعددنا الخطط وقرّرنا التخلّي عن التردّد، الذي يسبّب استياء إسرائيل، والذي يستغلّه الآخرون لأذيّته. إنّ المكائد قد نُصِبَت لكَ، هذا صحيح. لكَ أعداء في الهيكل ذاته. أنا، أحد القدماء، لا أنكر ذلك. إنّما هناك وسائل لوضع حدّ لذلك: مسحكَ. ونحن مؤهّلون تماماً للقيام بذلك. إنّها ليست المرّة الأولى في إسرائيل التي يُعلَن فيها شخص ملكاً هكذا، لوضع حدّ لمصائب الدولة والنزاعات. هنا مَن يمكنه فِعل ذلك باسم الله. دعنا نقوم بذلك» يقول أحد الكَهَنة.
يسوع «لا. هذا غير مسموح به لكم. فأنتم لا تمتلكون السُّلطة لذلك».
«الكاهن الأعظم هو أوّل مَن يريد ذلك، حتّى ولو لم يكن يبدو ذلك. فهو لم يعد قادراً على تحمّل الوضع الحالي للسيطرة الرومانيّة والعار الملكيّ.»
يسوع: «لا تكذب أيّها الكاهن. إنّ التجديف على شفتيكَ هو دَنَس مُضاعَف. لربّما أنتَ لا تعرف وبالتالي تنخدع، إنّما في الهيكل هم لا يريدون ذلك.»
«أتعتبر تأكيدنا كاذباً؟»
يسوع: «نعم، إنّ لم يكن مِن جميعكم، فَمِن الكثيرين منكم. لا تكذبوا. أنا النور وأنير القلوب…»
«بإمكانكَ تصديقنا» يصيح الهيروديّون. «نحن لا نحبّ هيرودس أنتيباس ولا أيّ أحد آخر.»
يسوع: «لا. أنتم لا تحبّون سوى أنفسكم. هذه هي الحقيقة. ولا يمكنكم أنّ تحبّوني. بل تستخدموني كرافعة لإسقاط العرش، فيُفتَح لكم الطريق لسلطة أعظم، ويتحمّل الشعب اضطهاداً أسوأ. إنّها مكيدة لي، للشعب ولأنفسكم. وبعد سحق الملك روما تسحقكم جميعاً.»
«يا ربّ، في جاليات الشتات هناك الكثيرون مستعدّون للتمرّد… أموالنا سوف تدعمهم» يقول المهتدون.
«وأموالي، ودعم حوران وتراخونيطس بالكامل» يصيح رجل بصرى. «أنا أعلم ما أقول. يمكن لجبالنا أن تُطعِم جيشاً وتُبقِيه بمأمن مِن المكائد، وأن تُطلِقه كسرب مِن النسور في سبيل خدمتكَ.»..
«ومعكَ ضفاف البحر المالح مع البدو الرّحل الذين يعتقدون بأنّنا آلهة، إذا ما وافقت على الانضمام إلينا» يصيح الإسّينيّ ويتابع بكلام طويل هائج يضيع وسط الصخب.
«جبليوّ اليهوديّة ينحَدِرون مِن سلالة ملوك أشدّاء.»
«وأولئك الذين مِن الجليل الأعلى هم أبطال على شاكلة أولئك الذين مِن ديبورا. حتّى النسوة، وحتّى الأطفال هم أبطال!»
«أتظنّ بأنّنا قليلون جدّاً؟ إنّنا نشكّل قوّات كثيرة العدد. إنّ كلّ الشعب معكَ. إنّك الملك مِن نسل داود، ماسيّا! هي الصرخة على شفاه الحكماء والجاهلين، لأنّها صرخة القلوب. معجزاتكَ… كلامكَ… العلامات…» إنّها بلبلة لم أنجح في متابعتها.
يسوع، وكصخرة راسخة وسط إعصار، لا يتحرّك، إنّه حتّى لا يتفاعل. إنّه لا مبال، ودورة الطلبات، التوسّلات، الحجج، تستمرّ.
«أنتَ تخيّب آمالنا! لماذا تريد هلاكنا؟ أتريد أن تفعل ذلك وحدكَ؟ لا تقدر. إنّ متاتياس المكابيّ لم يرفض عون الحسيديّين، ويهوذا حرَّرَ إسرائيل بمساعدتهم… اقبل!!!» إنّهم يصرخون معاً بهذه الكلمات مِن حين لآخر.
يسوع لا يذعن.
أحد الشيوخ، وهو مسنّ جدّاً، يتحدّث بصوت منخفض مع كاهن وكاتب أكبر منه سنّاً. يتقدّمون ويَفرضون الصمت. والكاتب المسنّ، بعد أن دَعَى إلى جانبه إليعازر والكاتبين اللذين يدعوان يوحنّا، يبدأ بالكلام: «يا ربّ، لماذا لا تريد تولّي عرش إسرائيل؟»
«لأنّه ليس لي. فأنا لستُ ابن أمير يهوديّ.»
«يا ربّ، قد لا تعلم ذلك. لقد تمّ استدعائي مرّة مع هؤلاء الاثنين لأنّ ثلاثة حكماء جاؤوا يسألون عن مكان المولود ملك اليهود. أتُدرِك؟ “المولود ملكاً”. ونحن، أمراء الكَهَنَة وكَتَبَة الشعب، قد استُدعينا مِن قِبَل هيرودس الكبير كي نعطي الإجابة. وهيلّيل البارّ كان معنا. وجوابنا كان: “في بيت لحم يهوذا”. ونحن نَعلَم أنّكَ وُلِدتَ هناك، وبأنّ علامات عظيمة رافَقَت ولادتكَ. ومِن بين تلاميذكَ هناك شهود عليها. أتنكر بأنّكَ قد بُجّلتَ كملك مِن قِبَل الحكماء الثلاثة؟»
يسوع: «لا أنكر ذلك.»
«أتنكر بأنّ المعجزة تسبقكَ، ترافقكَ، وتتبعكَ كعلامة مِن السماء؟»
يسوع: «لا أنكر ذلك.»
«أتنكر بأنّكَ ماسيّا الموعود به؟»
يسوع: «لا أنكر ذلك.»
«فإذاً، وباسم الله الحيّ، لماذا تريد أن تخيّب آمال الشعب؟»
يسوع: «لقد آتيتُ كي أتمّ آمال الله.»
«أيّها؟»
يسوع: «فداء العالم، تأسيس ملكوت الله. إنّ ملكوتي ليس مِن هذا العالم. ضعوا جانباً أموالكم وأسلحتكم. افتحوا عيونكم وأرواحكم لقراءة الكتابات المقدّسة والأنبياء وتقبّل حقيقتي، فتحظوا بملكوت الله فيكم.»
«لا. الكتابات المقدّسة تشير إلى ملك محرِّر.»
يسوع: «مِن عبوديّة الشيطان، مِن الخطيئة، مِن الضَّلال، مِن الجسد، مِن الجاهليّة، ومِن الوثنيّة. آه! ماذا فعل الشيطان بكم، أيّها العبرانيّون، الشعب الحكيم، لجعلكم تقعون في الخطأ بشأن الحقائق النبويّة؟ ما الذي يفعله بكم، أيّها العبرانيّون، إخوتي، كي يجعلكم عمياناً إلى هذه الدرجة؟ ما الذي يفعله بكم، يا تلاميذي، بحيث، حتّى أنتم، ما عدتم تُدرِكون؟ إنّ المصيبة العظمى لشعب ولمؤمن هي الوقوع في خطأ تفسير العلامات. وهنا تقع هكذا مصيبة. إنّ مصالح شخصيّة، أحكاماً مسبقة، فقدان الصواب، محبّة زائفة للوطن، كلّ شيء يسهم في خلق الهوّة… هوّة الضَّلال التي سيَهلك فيها شعب بفشله في معرفة مَلِكه.»
«أنتَ مَن يَفشَل بمعرفة نفسه.»
يسوع: «أنتم تفشلون بمعرفة أنفسكم وبمعرفتي. أنا لستُ ملكاً بشريّاً. وأنتم… ثلاثة أرباعكم أيّها المجتمعون هنا، تعلمون وتريدون إيذائي، لا الخير لي. أنتم تتصرّفون بدافع الكراهية، لا بدافع المحبّة. وأنا أغفر لكم. ولذوي القلوب النزيهة أقول: “عودوا إلى رشدكم، لا تكونوا عبيد الشرّ المغيَّبين.” دعوني أمضي. ما مِن شيء آخر يُقال.»
صمت مُفعَم بالذهول…
«الرابي؟… إنّه يقول… نعم، يقول: “العليّ سوف يعطي علامة إذا ما كان هو مسيحه.»
يسوع: «إنّه على حقّ. وما الذي يقوله يوسف الشيخ؟»
«بأنّكَ ابن الله وسوف تَحكم كالله.»
يسوع: «إنّ يوسف لبارّ. ولعازر بيت عنيا؟»
«إنّه يعاني… هو قليل الكلام… ولكنّه يقول… بأنّكَ سوف تَحكم فقط حين تستقبلكَ أرواحنا.»
يسوع: «لعازر حكيم. حين تستقبلني أرواحكم. في الوقت الحاضر أنتم، وكذلك أولئك الذين اعتبرتُهم قلوباً مستقبِلة، لا تستقبلون الملك ولا الملكوت، وهذا ما يحزنني.»
«الخلاصة، أترفض؟» يصيح كُثُر.
يسوع: «أنتم قلتموها.»
«لقد جعلتَنا نتورّط، إنّكَ تؤذينا، إنّكَ…» يصيح آخرون: هيروديّون، كَتَبَة، فرّيسيّون، صدوقيّون، كَهَنَة…
يسوع يغادر المائدة ويمضي موجّهاً نحو هذا الجمع نظرات حادّة. يا لها مِن نظرة! هم يَصمتون بشكل لا إراديّ ويلتصقون بالحائط… يسوع يمضي بحقّ وجهاً لوجه، وعلى مهل، إنّما بحسم قاطع مثل حدّ السيف، يقول: «مكتوب: “ملعون مَن يضرب قريبه بالخفية، ويقبل رشوة لإزهاق حياة بريئة.” وأنا أقول لكم: أَغفر لكم. ولكنّ خطيئتكم معلومة لابن الإنسان. وإن أنا لم أغفر لكم… فإنّ إسرائيليّين كثيرين قد أحالهم يهوه رماداً لأقلّ مِن ذلك بكثير.» لكنّه رهيب جدّاً وهو يقول ذلك، لدرجة أنّ لا أحد يجرؤ على التحرّك، ويزيح يسوع الستارة الثقيلة المزدوجة ويَخرج إلى الردهة مِن دون أن يجرؤ أحد على الإتيان بحركة.
فقط عندما تتوقّف الستارة عن التأرجح، أي، بعد عدّة دقائق، ينتفضون. «يجب اللحاق به… يجب إيقافه…» يقول أكثرهم عنفاً.
«يجب الحصول على المغفرة» يقول أفضلهم فيما يتنهّدون.. يَهرَعون خارج الغرفة. يبحثون عنه، يسألون الخدّام: «المعلّم، أين هو؟»
المعلّم؟ لم يره أحد، ولا حتّى أولئك الذين كانوا عند بابي الردهة. لقد اختفى… «لقد هرب منّا! إنّه شيطان! لا. إنّه الله. إنّه يفعل ما يشاء. سوف يخوننا! لا. سوف يعرفنا على حقيقتنا.» صخب وجهات نظر مختلفة وشتائم متبادلة. الصالحون يصيحون: «لقد ضلّلتمونا. خونة! كان علينا توقّع ذلك!» والأشرار، أي، الأغلبيّة، يتوعّدون، وبعد أن فقدوا كبش الفداء، الذي لا يستطيعون إلقاء اللائمة عليه، فإنّ المجموعتين تهاجمان بعضهما…
يوحنا ووصية يسوع
.. إنّه يسير بسرعة، كما لو أنّ الريح كانت تحمله... إنّما أحدهم قد تَبِعه: إنّه يوحنّا. إنّ يوحنّا نصف عارٍ.. شعره متراصّ وأملس كهيئة مَن كان في الماء، إنّه لاهث ومع ذلك شاحب. إنّه يقترب مِن يسوعه برويّة: إنّه يبدو كظلّ ينزلق على الجرف الوَعِر. يقف على مسافة. يراقب يسوع… لا يتحرّك… فقط وجهه ساقاه وذراعاه العاريان بالكاد تُرى في ظلمة الليل.
ولكن عندما يَسمَع، أكثر منه يرى بأنّ يسوع يبكي، فلا يعود يقوى على المقاومة، ويقترب منه ثمّ يناديه: «يا معلّم!»
يسوع يَسمَع همسه ويرفع رأسه؛ إنّه يجمع ثيابه كي يفرّ.
لكنّ يوحنّا يصيح: «ما الذي فعلوه لكَ يا معلّم، حتّى ما عدتَ تتعرّف إلى يوحنّا؟»
يسوع يتعرّف إلى المفضّل لديه. يمدّ له ذراعيه ويوحنّا يرتمي فيهما، ويبكيان كلاهما لألمين مختلفين ومحبّة واحدة.
إنّما بعد ذلك تهدأ دموعهما، ويسوع أوّلاً يعود لرؤية الواقع بوضوح. إنّه يُدرِك ويرى أنّ يوحنّا نصف عارٍ، بجلباب مبلّل، متجمّد وحافي القدمين. «كيف لكَ أن تكون هنا وعلى هذه الحال؟ لماذا لستَ مع الآخرين؟»
يوحنا: «آه! لا تؤنّبني يا معلّم. لم أستطع البقاء… لم أستطع ترككَ… خَلَعتُ ثيابي، كلّها ما عدا هذا، وسبحتُ عائداً إلى تراقية، ومِن هناك على طول الضفة وتجاوزت الجسر، ومِن ثمّ تبعتكَ. ولبثتُ في الحفرة قرب المنزل، متأهّباً كي أهرع لمساعدتكَ، أو على الأقلّ كي أعرف فيما إذا كانوا قد اختطفوكَ أو آذوكَ. وسمعتُ أصوات مشاجرات، ثم رأيتُكَ تَعبر سريعاً مِن أمامي. لقد بدوتَ وكأنّكَ ملاك. وكي أتبعكَ دون أن أفقد أثركَ، فقد سقطتُ في حُفَر ومستنقعات، وأنا مغطّىً تماماً بالوحل. لا بدّ أنّني قد لطّختُ ثوبكَ… أنا أنظر إليكَ منذ أن وصلتَ إلى هنا… أكنتَ تبكي؟… ما الذي فعلوه بكَ يا ربّي؟ هل أهانوكَ؟ هل ضربوكَ؟»
يسوع: «لا. لقد أرادوا تنصيبي ملكاً. ملكاً مسكيناً يا يوحنّاً! كُثُر بإيمان حسن، بدافع محبّة، بنيّة صالحة… وأغلبهم… كي يشوا بي ويتخلّصوا منّي…»
«مَن هم؟»
يسوع: «لا تسأل.»
«والآخرون؟»
يسوع: «أيضاً لا تسأل عن أسمائهم. عليكَ ألّا تكره وألّا تنتقد… أنا أغفر…»
«يا معلّم… أكان هناك أيّ تلاميذ؟… قل لي فقط هذا.»
«نعم»
«ورُسُل؟»
«لا يا يوحنّا. ولا رسول.»..
يوحنا: «آه! الحمد لله على ذلك… إنّما لماذا لا زلتَ تبكي يا معلّم؟ أنا معكَ. إنّني أحبّكَ عن الجميع. وحتّى بطرس، أندراوس والآخرون… عندما رأوني أرمي بنفسي في البحيرة قالوا بأنّني مجنون، وبطرس كان غاضباً، وأخي قال بأنّني أريد أن أموت في الدوّامات. لكنّهم أدرَكوا بعد ذلك وصاحوا: “ليكن الربّ معكَ. اذهب. اذهب!…” نحن نحبّكَ. إنّما ما مِن أحد يحبّكَ مثلي، أنا الصبيّ المسكين.»
يسوع: «نعم. ما مِن أحد مثلكَ. إنّكَ بارد يا يوحنّا! تعال هنا، تحت ردائي…»
«لا، عند قدميكَ، هكذا… يا معلّمي! لماذا لا يحبّكَ الجميع بقدر الصبيّ المسكين الذي هو أنا؟»
يسوع يجذبه إلى قلبه، وقد جلس بجانبه. «لأنّهم لا يملكون قلبكَ الطفوليّ…»
يوحنا: « أكانوا يريدون تنصيبكَ ملكاً؟ إنّما ألم يفهموا بعد بأنّ ملكوتكَ ليس مِن هذه الأرض؟»
يسوع: «لم يفهموا!».. «لن تأتي على ذِكر الأمر، إلاّ حينما يريد البشر إظهاري كزعيم شعبي عاديّ. وهذا سوف يحصل يوماً ما. إذّاك سوف تكون موجوداً وسوف يتعيّن عليك أن تقول: “هو لم يكن ملكاً أرضيّاً لأنّه لم يشأ أن يكون كذلك. لأنّ ملكوته لم يكن مِن هذا العالم. لقد كان ابن الله، الكلمة المتجسّد، ولم يكن ليقبَل بما هو أرضيّ. لقد أراد أن يأتي إلى العالم ويتّخذ له جسداً كي يفتدي الجسد والنفوس والعالم، لكنّه لم يرضَ بمغريات العالم ومكامن الخطيئة، ولم يكن فيه شيء حسّيّ أو دنيويّ. والنور لم تغلّفه الظلمات، وأنّ اللامحدود لم يتقبّل المحدود. ومِن مخلوقات يحدّها الجسد والخطيئة، عَمل مخلوقات تشبهه، برفعه لأولئك الذين آمنوا به إلى الملكيّة الحقّة، وأقام ملكوته في القلوب، قبلما يؤسّسها في السماوات، حيث سيكون ملكوتاً كاملاً وأزليّاً مع كلّ الذين سيكونون قد خلصوا.” ستقول ذلك يا يوحنّا، للذين لن يروا فيّ سوى كائن بشريّ، وللّذين لن يروا فيّ سوى روح، لأولئك الذين سينكرون أنّني تعرّضت للتجربة… وللألم… ستُخبِر البشر بأنّ الفادي قد بكى… وبأنّهم، أي البشر، قد خُلِّصوا أيضاً بدموعي…»
«نعم يا ربّ. كم تتألّم يا يسوع!…»
«كم أفتدي! أمّا أنتَ فتعزّيني في ألمي. سوف ننطلق مِن هنا عند الفجر. سنجد قارباً. وإذا ما قلتُ لكَ بأنّنا سنكون قادرَين على المضيّ دون مجاذيف، فهل تصدّقني؟»
«أصدّقكَ حتّى ولو قلتَ بأنّنا سنمضي مِن دون قارب…»
يبقَيان متعانِقَين، متدثّرَين فقط برداء يسوع، ويوحنّا، المنهَك، ينتهي به المطاف بأن يغفو في الدفء، مثل طفل بين ذراعيّ أمّه.
***
قصيدة الإنسان – الإله / ماريا فالتورتا
Il Poema Dell’ Uomo-Dio / Maria Valtorta
The Poem Of The Man-God
بالفرنسية: (الإنجيل كما أوحي به إليّ) L’Évangile tel qu’il m’a été révélé
ترجمه إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح…
شكر خاص من موقع “Agoraleaks.ocm” لِ فيكتور مصلح.. يمكن قراءة كتب ماريا فاتورتا مجاناً بالضغط على الرابط (هنا)