– بين خشبتين قضى الرب الإله زمن تجسّده على الأرض: خشبة المذود، وخشبة الصليب ♱
***
أوّلاً: فقرٌ وعوزٌ
فلنوجّه أنظارنا إلى ذلك الطفل المسجود له، ونتعلّم منه فضيلةً أخرى:
كان يسوع فقيرًا لا يملِك شيئًا ويعتاز كلّ شيء. احتاج إلى بيت فوُلِد في اسطبلٍ هجره رعاة المواشي لعدم صلاحيته لإيواء مواشيهم.
واحتاج إلى فراش فنام على قليل من التبن في معلفٍ طُلِيَ بالبُلى والرثاثة. واحتاج إلى الدفء فلم يجد غير أنفاس البهائم وأذرع مريم ويوسف وصدرَيهما. ولولا ذلك لأضنكه البرد القارس الشديد واحتاج إلى القماطات فلُفَّ بخرقةٍ بالية لا تكاد تستر جسمه الإلهيّ.
هل سمعتم أنّ بين البشر فقيرًا كيسوع ؟
للطيور أوجرة وللثعالب أوكار، أمّا ابن الإنسان -أي يسوع المسيح- فليس له موضعٌ يسند إليه رأسه. لماذا وُلِد فقيرًا؟ أما كان قادرًا أن يولد بين الكنوز الثمينة مُنغمسًا في الترف والنعيم ؟ كيف لا وهو ربّ السماء والأرض ! غير أنّه أراد أن يولد فقيرًا لكي يعلّمنا أن نسلخ قلبنا عن حب الغنى والترف، وينظّم فينا الشهوة المشوّشة لأنّها علّة لخطايا كثيرة وحائدة بقلوبنا عن الخيرات السماويّة ومعذّبة لأنفسنا برغائب وشهوات باطلة وذميمة. أراد أن يعلّمنا محبّة الفقر بالروح وهذا النوع من الفقر للغنيّ والفقير. يجب على الغنيّ أن يمارسه حفاظًا على قلبه أن يفسد.
وهو يقوم بأن يمنع الإنسان قلبه من فرط التعلّق بالمال ويحمل على صرفه في وجوه الرحمة للمحتاجين. وهذا الفقر بالروح يندر وجود غالبًا حتى عند مَن لا يملكون شيئًا فإنّهم يتشوّقون لامتلاك أشياء كثيرة ويحسدون الغير على ما عندهم ويتذمّرون من فقرهم متوجّعين. وكان الطفل يسوع عارفًا أنّه سوف يعظُ الجموع من فوق الجبل قائلاً: طوبى للمساكين بالروح لأنّ لهم ملكوت السماوات. غير أنّه عرف أيضًا أنّ كثيرين سوف يستصعبون هذا التعليم ولا سيّما الفقراء إذ يمكنهم أن يحتجّوا قائلين:
إنّ الوعظ في الفقر هيّنٌ أمّا الصبر على الفقر وشدّته فليس كذلك. وليس يعلم ما في ذلك من الضرّ إلاّ مَن تكبّده.
فسدّ يسوع أفواههم قبل أن ينطقوا وتكبّد مشقّات الفقر قبل أن يعلّمه. ولذلك حقّ له أن يقول طوبى للمساكين…
وليس لابن الإنسان موضع… وكيف لا يحقّ له ذلك وقد احتاج طفلاً إلى ما ليس يحتاج إليه ابن أفقر الرعاة. أليس في حياة هذا الطفل المسجود له، توبيخٌ لنا نحن الأغنياء بالروح، أمّا أنّنا نحصُر سعادتنا في الأموال. وإذا ملكنا شيئًا فلا نقنع به وإذا لم نملك شيئًا ملأنا الفضاء تذمّرًا على العناية الصمدانية. ويلٌ لنا لأنّنا ندفن في قلوبنا البغض للأغنياء، ونختلس مال الغير ظلمًا ونستحلّ الغشّ والخديعة محاولة الخروج من العسر والفاقة.
يا أولادي فلنصغِ لتعليم الطفل يسوع، مقتنعين بالحالة التي وضعنا الله فيها. وإن كنّا أغنياء نعبد المال كإلهٍ لأنّنا لا نأخذ المال معنا إلى القبر ولسنا نأخذ سوى غنى استحقاقنا وفضائلنا. وقد عرّفكم الإنجيل أنّ لعازر الفقير المسكين المتسوّل لبرارته كان أعظم من الغنيّ الشره المنهمك في اللذات لفقر نفسه إلى النعمة. وإن كنّا فقراء فلنرضَ بما قسمه الله لنا لأنّ يسوع كان أفقر منّا ولا يكون فقيرًا من يضع حدًّا لشهواته ويملك كنز ضميره الصالح ويقرُّ في قلبه أنّه سيملك السماء.
ثانيًا: صليبٌ من اللّحظة الأولى للتجسد
قبل أن تخرجوا من مغارة الطفل يسوع، اسمعوا تعليمًا آخر ليس بأقلّ اعتبارًا من التعليمين السابقين. هل أمعنتم النظر يا أولادي بما قاساه ذلك الطفل العزيز في ابتداء حياته؟
أما ترون كيف ينخس القشّ القاسي أعضاءَه الناعمة وكيف يرتجف من شدّة البرد والزمهرير. وكيف يتألّم جسمه اللطيف بتلك القماطات الغليظة، وهو يتكبّد ذلك كلّه بالصبر صامتًا لا يشكو ؟ وليس ما يحتمله واجبًا للتكفير عن خطيّة فعلها لأنّه عين البرارة ولا سبيل للإثم إلى نفسه. شفتاه يرجفها البرد والألم ولا يخرج منها كلمةُ تذمّر أو تمرمر. ابتدأ عذابه الشديد منذ ابتداء حياته على الأرض وليس ينتهي إلاّ بتعليقه وموته على الصليب. وبعد أن نكون شاطرنا السّيدة ما ألمَّ بها من الحزن والكآبة لدى مشاهدتها ذلك الحمل البريء من كلّ عيب معذّبًا حبًّا بنا، فلنسأله عن سبب تلك العذابات القاسية.
فيلتفت إلينا ببشاشة وإيناس وابتسامة حب تخلب القلوب فنفهم أنّه يقول لنا:
إنّ أخص أسباب عذابي أن أعلّمك بمثلي أن تختار لنفسك العذاب حبًّا بي. وتميت أهواءك مذللةً وتصبر على ذلك طوعًا. أنا لا إثم (خطيئة) عليَّ فأُغَذّب من أجله وتراني على ذلك أقاسي العذاب صابرًا صامتًا. وأنت الأثيم المحتاج أن تكفّر بالإماتة عن آثامك يثقل عليك الصوم والقطاعة والخسارة وتأنف من مقاساة العذاب. أنا لست بحاجة إلى كبح الشهوات بالإماتة وتراني أتكبّد الإماتات والموت ساكتًا. وأنت الذي ينبغي أن يقاوم تمرّد الأهواء، أنت الذي في أعضائه شريعة لتمرّد دائمًا على الروح. أنت الذي يضطر إلى إماتة حواسه تذليلاً للجسد وحفظًا لطهارة القلب وإخمادًا لنار الشهوات. أيحقّ لك أن تنعم جسدك وتلاطفه وتشبعه من رغائبه وأمانيه؟ ولا ترغب إلاّ في الأفراح والمسرّات. لهذا تعرف يا ابني أنّك من أتباعي. لا يبلغ إلى الملكوت في طريق مفروشة بالأزهار بل في سبل الأشواك والمشقّة. وليس التنعّم شعارًا لتلاميذيبل العذاب، وسبيل الملكوت الصليب والإماتة. إن شئت أن تتبعني فاحمل صليب الإماتة واتبعني.
صلاة للعذراء :
أيتها الأم الكليّة الرأفة والحنو، إنّي قد سمعت تعاليم الطفل يسوع وطبعتها في قلبي. أمرني أن أتعلّم منه التواضع والوداعة. فأنا مستعدّ لإقامة أمره الكريم. أمرني أن أحمل صليب الإماتة فأنا متأهّب لحمله. وعلّمني أن أغلب البخل أي شهوة التملّك المشوشة فأنا مذعن من كل عقلي وقلبي. أيتها الأم القدّيسة الجزيلة التواضع في عظمتها والكثيرة المسكنة في غناها وسموّها والكليّة الإماتة والصبر في أوجاعها. ساعدني فأعمل بهذه المقاصد التي في انجازا يكون سلامي في هذه الحياة وسعادتي في الأبدية.
(كتاب مواعظ شهر أيار (كتاب نادر وقيّم) لأسقف إيطالي، متوفٍ عام 1887، تُرجم الى العربية عام 1914)
المصدر: قلب مريم المتألم الطاهر
heartofmaryarabic.com