– لن “نهشُلَ” من هذا الشرق مهما بلغت الأثمان (أمين أبوراشد)
***
القديسة العظيمة بربارة، التي تُعتبر الشهيدة المسيحية الأولى، لم يُثبِت التاريخ زمان ومكان استشهادها، ووَرَد أن الزمان يتراوح ما بين العامين 235 و 313 للميلاد، والمكان قد يكون مصر أو توسكانا أو آسيا الصغرى أو ربما بعلبك في لبنان.
الرواية التي تناقلتها الأجيال عنها، أنها كانت ابنة رجل وثني متعصب ذي ثروةٍ ومجدٍ وجاه، وبالنظر الى جمال طلعتها، أقفل عليها أبواب قصره غيرةً بانتظار أن يتدبَّر لها عريساً، وبتدبيرٍ من الله التقت بربارة مَن بشَّرها بالسيد المسيح، ونَذَرت له بتولية نفسها بدلاً من عريسِ أرضي تفرضه عليها الوثنية تحت ستر الزواج، وهربت من قصر والدها واختبأت في حقلٍ من القمح وموَّهت وجهها بالوحول كي لا يتعرَّف اليها رجال والدها الى أن قُبِض عليها وسلَّمها والدها الى “مرقيانوس” الحاكم وتم إعدامها.
ليلة إحياء ذكرى بربارة، التي يضع فيها المُشاركون الأقنعة تشبُّهاً بتمويه وجهها هرباً من الظلم، ويتمّ خلالها توزيع القمح لإستذكار الحقل الذي لجأت اليه، هذه الذكرى يُشبِّهها البعض بحفلات “الهالوين” التي تحصل في أميركا حيث يرتدي المُشاركون الأقنعة ويقومون بشعائر لا علاقة لها بذكرى البربارة في شيء، سوى أن القناع هو القاسم المشترك.
ما يهمُّنا اليوم في ليلة ذكرى القديسة بربارة، هو أن نأخذ العِبَر من تعدُّد معلومات التأريخ عن تاريخ استشهادها، وتعدُّد الأمكنة التي يُمكن أن تكون عاشت فيها، وكأن المظلوم على امتداد هذه الأرض حكايته مع الظالم بدأت منذ بدء الخليقة ومستمرَّة في كل زمانٍ ومكان، والقِناع الذي حاولت أعظم قديسة حماية نفسها مِن خلاله، بات مُباحاً للمظلوم الملائكي كما للظالم الشيطاني، ولا فرق بين “البربارة” و “الهالوين”، سوى أننا عبر الأزمنة نعيش خلف الأقنعة، الضعيف يضع قناعه ليتخفَّى عن الظالم، والظالم يضع قناع الغدرِ للظفر بفريسته.
ولأن بربارة هي قدِّيستنا وشهيدتنا التي لاحقها الظُلم، وقَضَت فداء على مذبح السيد المسيح، فإن ذكراها هي بمستوى الجمعة العظيمة، سيما وأننا منذ استشهاد بربارة، نحمل صلبان عذاباتنا ونتعرَّض للتنكيل والتهجير والقتل، وكل خطيئتنا أننا نعيش ونموت على إسم السيِّد المسيح، ومنذ زمن بولس الرسول، نرفع راية التبشير بالمحبة والسلام والوئام بين بني البشر، ونرفع معها رسالة الحضارة الإنسانية لخدمة المجتمعات التي ارتضيناها أوطاناً لنا، ولو أن أرض بولس التي وطئتها قبله أقدام السيد المسيح هي الأقسى على المسيحيين في هذا الزمن، وفي شرقِ بات منبتاً لشياطين التكفير وأعداء الإنسانية.
ختاماً، لا نملِك الليلة خلال ترنيم أنشودة “هاشلة بربارة”، سوى أن نرفع قِناع الخوف والضعف عن وجوهنا، لمُلاقاة وجوه أخوة لنا في الإنسانية يُقبِلون علينا ونُقبِل عليهم بإسم الله الواحد، ونواجه معاً خنازير التكفير التي لم تستحق رسالتنا الحضارية عبر التاريخ ونقول: لن “نهشُلَ” من هذا الشرق مهما بلغت الأثمان التي دفعنا وسوف ندفع، منذ زمن بربارة يوم كانت عبادة الأوثان هي السائدة، حتى زمن البرابرة الذي أعادنا الى الوثنية عبر تدمير الكنائس والمساجد والأضرحة والمعالم الحضارية وانتهاك كل حرمات الآدمية والأخلاق الإنسانية…