أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


حقيقة سوء التفاهم العوني – الشيعي الـ”8 آذاري”… (ميشال بو نجم – اليوم الثالث)

– باسيل وإعلان الحقيقة التي يواربها العديد.. صورة أخرى محدّثة لزعامة عون
– تريدوننا، إقبلونا كما نحن، لا كما تصوركم النمطي..

***

سوء التفاهم هذا، والتناقض في محطاتٍ عدة، واضحٌ وجليّ…

ذلك أنَّ الخصام التقليدي بين التيار الوطني الحر وحركة أمل “حليف الحليف”، تمدد منذ أعوامٍ قليلة إلى “مناوشات” متقطعة لكن دائمة بين نخب عونية وشيعية سياسية وإعلامية تدور في فلك حزب الله أو قريبةٍ منه، وبين مناصري الجمهورين على وسائل التواصل الإجتماعي. ومن بين مكونات هذا الإنطباع الإنتقاد شبه الدائم لصحيفة “الأخبار” بهويتها ومواقفها المعروفة لخطوات رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في محطات عدة كقانون الإنتخاب وصولاً إلى المشاورات الحالية لحل العقدة السُنية.

من الحرارة إلى البرودة

يشكِّل واقع هذه العلاقة تغيّراً من الحرارة التي ميزت العلاقة بين البيئتين الإجتماعيتين للمكونين العوني والشيعي عموماً إضافةً إلى العلاقة مع بعض قوى 8 آذار ذات الإتجاه القومي واليساري، بدءاً من أواخر العام 2005 وبعد توقيع التفاهم – التحول في 6 شباط 2006 وصولاً إلى معمودية النار والدم في حرب تموز والإعتصام ضد حكومة السنيورة بيومياته المعاشة في الخيم وحتى أحداث 23 كانون الثاني 2007. كان ذلك تعبيراً عن تلاقٍ قوي في المصالح السياسية، لكنّه في بعده الأهم، وخاصةً في بنود وخلفيات تفاهم حزب الله – التيار الوطني الحر، لقاءً تاريخياً بين اتجاهات مختلفة ومتناقضة في التاريخ وفي الإتجاهات الفكرية على قواسم ومساحةٍ مشتركة واعدة، في الموقف من قضايا وطنية وسياسية عدة، لا بل لقاءً على الكثير من آفاق الغد اللبناني والمشرقي والعربي.

لكن، لم يعنِ ذلك أبداً، وفي أيّ حالٍ من الأحوال، تغييراً لهوية أي طرف ولا تنصلاً من تاريخه كما يريد بعض أصحاب الرؤوس الحامية في 8 آذار، فالتفاهم لا يعني الإلغاء ولا شطب الذاكرة ولا تغيير الجلد والقناعات. اللقاء على المشتركات وعلى “كلمةِ سواء” في الحاضر والمستقبل لا يعني أبداً إلغاء الماضي، وليس هذا المطلوب أساساً، ولم يحصل بين أي طرفين أو قوتين، لا على المستوى الدولي أو الإقليمي حين استفادت أطراف متعددة من تاريخها لتصنع مستقبلاً أفضل، لا أن تبقى تلوك هذا التاريخ خدمةً لمصالحها ولهيمنتها ولتصوراتها النمطية للوطن وللآخر المختلف، فتؤذي نفسها وصورتها قبل أن تؤذيَ الآخر…

يكمُن سوء التفاهم هذا في عاملين أساسيين، الخلاف حول التاريخ والتصويب على جبران باسيل في خطابه السياسي والإعلامي.

محاولات السطو على التاريخ واستخدامه

التيار الوطني الحر حالة سياسية انطلقت في أواخر الثمانينات من بيئة مسيحية جغرافياً لكنها خاطبت ومثّلت تطلعاتٍ واتجاهات في الطوائف اللبنانية كافةً، في مسألتي السيادة والتلاقي على مساحات مشتركة بالإستفادة من التجارب الخاطئة للقوى اللبنانية المختلفة. وعندما أتت، انطلاقاً من المسار التفاهمي للعماد ميشال عون العائد إلى لبنان على أثر تداعيات سقوط الإدارة السورية للوضع اللبناني المرعي منذ الطائف، إلى المساحة المشتركة مع القوى الحليفة لسوريا وعلى رأسها حزب الله، كان ذلك من أجل ترسيخ دورها سياسياً في المرحلة الجديدة لكن أيضاً محاولة لبناء الواقع السياسي من جديد على أسس تصالحية، لا إلغائية للآخر.

فبالمنطق السيادي نفسه للمواجهة مع السيطرة السورية على لبنان، عَبر ميشال عون بجمهوره وتياره إلى التصالح مع النظام السوري حمايةً للبنان ومن أجل بناء علاقة جديدة تستفيد من أخطاء التاريخ لتبني شبكة أمان في ظلِّ التفكك الإقليمي الآتي من البركان العراقي، ومن استغلال القوى الغربية لهذا التفكك البنيوي مستخدمةً أداة الإرهاب التكفيري، على ما أوضحتهُ الحربُ السورية وتداخلاتها، والموقف العوني حيالها. ومن ضمن هذا المسار، أتى انفتاحُ التيارِ الوطنيّ الحر على القوى التي تدور في فلك 8 آذار التي كانت تحتاج هي الأخرى، في ظل الواقع المعروف، إلى التحالف مع قوةٍ سياسية لبنانية كبيرة تمثل ما تمثّله لبنانياً ومسيحياً. كان ذلك واضحاً في اعترافِ أحزابٍ عقائدية ومن بينها قيادات في الحزب السوري القومي الإجتماعي أنَّ عون أحدثَ تحولاً في التفكير المسيحي اللبناني لم تستطع أكثر من سبعين عاماً من العمل العقائدي والسياسي إنجازه. ولم تذكر ضمناً هذه القوى، أو تناست عمداً، أنَّ هذا التحول الكبير لعون ما كان له أن يقوده ويتحقق لولا شرعيته الكيانية والسيادية في الوجدان اللبناني والمسيحي منه في شكلٍ خاص.

لا يعني ذلك في أيِّ شكلٍ من الأشكال، ومن غير المطلوب أساساً، أنَّ العونيين يجب أن ينسوا أنَّ المقدم ميشال عون كان هو من خطط وقاد الهجوم على المخيم المسلّح في تل الزعتر وأنه من أوقف اختراق “جبهة التحرير الفلسطينية” لجبهة الكحالة صافعاً الضابط الذي أخبره عن الحدث باكياً، وأن يتنصلوا من مقاومةِ مجتمعٍ بكامله لسيطرة المنظمات الفلسطينية المسلحة التي ضلّت الطريق عن “فلسطينها” واعترفت لاحقاً بالخطأ الكبير، أو بالتوازي ينكرون تاريخهم النضالي ضد “السيطرة” أو “الإحتلال” أو “الوصاية” السياسية – الأمنية السورية لكي يرضى عنهم حلفاؤهم الجدد. ما تقوله أصوات بعض الجمهور “الحليف” استطراداً أنَّ مسيحيي لبنان في شكلٍ عام يجب أن ينسوا ويحذفوا أن شبل قبلان عيسى الخوري على سبيل المثال لا الحصر هو شهيد قيادة تحرير أميون وشكا من السيطرة الفلسطينية المسلحة، أو ينسوا أن ميشال بارتي لم يسقط شهيداً على باب صيدليته في حرب المئة يوم في الأشرفية، ويجب أن يضموهما إلى لائحة “الزعران” و”المجرمين” و”المرتكبين”، وفي المقابل يمجِّدون شهداء فريقٍ واحد في لبنان كي يستوي التاريخ المكتوب على وجهة نظر فريقٍ واحد!

تنسحِب هذه المقاربة الشيعية – ال”8 آذارية” على التصريح الأخير للوزير جبران باسيل من نهر الكلب، حين أرادوا مجدداً أن يخلعَ باسيل وتياره جلدهما والتاريخ…

صورة جبران باسيل وخطابه: استفزازُ الحقيقة…

من هو جبران باسيل هذا أساساً؟ وهل هو فعلاً مختلف في الجوهر والسياسة عن الرئيس العماد ومؤسس “التيار”، كما تريد له البيئة التي حددت أساساً الصورة النمطية والقالب التي تريد أن تصهرَ حليفها فيه؟
عندما عاد العماد عون من المنفى، أطلق صرخته الشهيرة “إذا كنتً طائفياً فانبذوني…! لكنه بعد فترةٍ من الوقت اعتمد خطاباً يتحدث عن “حقوق المسيحيين” وموقعه في نظام الطائف أو الطائف المنفَّذ، فهل أخلف رئيس الجمهورية بوعده تجاه اللبنانيين؟

رفعَ عون وقاد مساراً من أجل تحقيق الإصلاح في الدولة. مواجهة الفساد، التغيير، مطالب لبنانية جامعة لا يختلف عليها مواطنان. بالعناد والمشاكسة واستخدام قوة التحالفات مع حزب الله دخلَ إلى النظام، لكنّه لم يستكِن، واندلعت حينها المواجهات و”الموقعِات” القاسية. الجميع يذكر دخول شربل نحاس إلى مقر الإتصالات المحمي من فرع المعلومات الذي كان خطأٌ واحد فيه يشعلُ مواجهة دامية. ومنذ ذلك الحين، حفظَ اللبنانيون صورةً مشاكسة لجبران باسيل على أكثر من جبهة في مجلس الوزراء، فتكرسّت شيئاً فشيئاً صورةٌ “استفزازية” و”قاسية” لباسيل، تسامحوا حيال وجودها في عون، وأنكروها على وزير الخارجية.

النتيجة كانت مشابهة ل”حرب التحرير” بغض النظر عن الملابسات والتوقيت والتحولات. أقفل عون مرافئ الميليشيا المسيحية في العام 1989 وواجهها، وفي المقابل رفضت الميليشيات في البيئة الإسلامية تعميم التجربة، فحوصر في البقعة الجغرافية المسيحية، من دون أن يرغب…

بعد العام 2008 تاريخ أول دخول حكومي للتيار العوني، ووجِه عون مرةً جديدة بشراسة من قوى النظام القديم – الجديد، من ملف الكهرباء إلى تملّك الأجانب وصولاً إلى الصراع على قانون الإنتخابات ورئاسة الجمهورية. لم يطلب عون المتسلح بالدعم الشعبي الكبير إلا تساوياً تحت سقف الميثاقية وهي أساس شرعية أيّ نظام لبناني، من ضمن حصرية التمثيل السياسي للمذاهب الإسلامية، وأكثرها الشيعية، في قوةٍ سياسية واحدة، في موازاة التعدد في الوسط المسيحي.

فهل جبران باسيل، هو منفصل أو متمايز عن ميشال عون الرئيس والزعيم؟

عبثٌ ومحال التفكير في ذلك والرهان عليه. ففي صورة الزعامة، لكلٍ قدراته وتجربته بطبيعة الحال. ميشال عون قامةٌ تاريخية وظاهرةٌ جارفة لا تتكرر كل يوم. في الجانب الآخر، ومن ضمن المشهد السياسي لدخول التيار الوطني الحر النظام السياسي بعد 2005، قد يكون باسيل هو الصورة الأخرى المحدّثة لزعامة ميشال عون، بالطبعة الباسيلية وخطابها الجانح مراتٍ إلى “المسيحية السياسية”.

باسيل هذا، كغيره من ناشطي التيار الوطني، بدأ خطابه وطنياً وعلمانياً. لكنه عندما دخل العمل الوزاري، ودهاليز الإدارة وكيفية إدارتها من قبل القوى السياسية المتحكّمة، وعندما واجه ما واجهه منذ تحريك “المياومين” ضده، بدأ بطرح الأسئلة وبطلب المساواة في تكريس الوجود في المؤسسات الإدارية والسياسية حتى في “حراس الأحراج”، ووصل إلى اللامركزية المالية، كنتيجةٍ للتجربة المريرة.

قد تكون الإشكالية في تلقي خطاب باسيل أنه يعلنُ الحقيقة التي يواربها العديد من الناس. حقيقة المطالب عاريةً… عارية أمام ازدواجية بعض القوى السياسية والنخب التي تتلطى بـ”الوطنيات” لتغطية العصبيات السياسية والمذهبية. يتوازى ذلك مع نبضٍ قوي جارح ربما أحياناً، ما يثير الهواجس والمخاوف في البيئة الشيعية والـ8 آذارية، سائلةً سراً وعلناً: هل هو “بشير جميّل” جديد، بـ”شياطينه” في مخيّلتنا ووجداننا، والتي تعززها مواقفه السجالية أحياناً؟

هذه البيئة نفسها مع تمددٍ إلى البيئات الإسلامية و”الوطنية – القومية”، هي التي تهللُ لخطابه – السقف الأعلى في الجامعة العربية، ولمواقفه من الإعتداءات الإسرائيلية، ما يزيدُ من الحيرة أكثر: “شيطانٌ” جديد، أم وريثٌ مستحق لعون – حليفنا؟؟

جوهرُ المعضلة هنا، أنها ليست قضية عون أو باسيل، أو أي شخصية أخرى…

إنَّها حقيقة المسيحيين اللبنانيين، باتجاههم العوني المختمِر… عونٌ متصالح مع الداخل والمحيط، لكن من دون نكرانٍ وتخلٍ عن الذات والهوية والتاريخ، وعن الموقع في النظام. تريدوننا، إقبلونا كما نحن، لا كما تريدُ مخيلتكم وتصوركم النمطي.

وقد تكونُ الوسيلة الأنجع لتكريس المصالحة أو تجديدها، المصارحة، بالحقائق، وبالتفاعل، وبقبول الآخر كما هو، كما حصل في اللقاءات السياسية المباشرة والنقاشات في خيم الإعتصام. وما عدا ذلك، سوءُ تفاهمٍ سيكبر مع الوقت، ولقوى المجتمع اللبناني، ومن ضمنها عونيوها وشيعيتها السياسية وقوى 8 آذار، أن تختار ما يناسبها!

  • صحافي وباحث سياسي. منسق الأبحاث في “معهد الدراسات المستقبلية” ورئيس تحرير موقع “اليوم الثالث”.