الكاتب : Jean Bricmont عن موقع Mondialisation ca. الالكتروني –
يكشف انتخاب ترامب عن الهوة المتزايدة الاتساع بين ضحايا العولمة والنخب الفكرية اليسارية التي لم تتوقف منذ مدة طويلة، على ما يقوله الكاتب البلجيكي جان بريكمونت، عن الاهتمام بغير نفسها.
ومع هذا، فإنني قد تقدمت في السن بما فيه الكفاية لتسعفني الذاكرة بالعودة إلى فترة حدث فيها لأحزاب اليسار، سواء كانت اشتراكية أو شيوعية، أو عمالية، كما في الولايات المتحدة، أن ارتكزت واعتمدت على العمال أو على “الطبقة العاملة” أو على “الناس العاديين”. لا أحد كان يعمد إلى التحقق مما إذا كان هؤلاء الناس يحملون شهادات جامعية، ولم تكن هنالك استطلاعات لنعرف ما إذا كانت آراؤهم مهذبة من الناحية السياسية حول قضايا العنصرية أو التعصب للجنس أو الخوف من الآخر.
فما كان يتحدد على أساسه العمال بصفتهم أشخاصاً تقدميين كان وضعهم الاقتصادي كمستثمرين (بفتح الميم) من الناحية الاقتصادية، وليس لكونهم يشكلون حالة إيديولوجية قويمة أو حالة صفاء إخلاقي.
البطل الأسطوري إلى حد ما عند اليسار كان قد كف عن أن يكون البروليتاري، ليصبح الهامشي، والمهاجر.
في أواخر سبعينات القرن الماضي، حدث تحول كبير على مستوى أحزاب اليسار : أصبحت تلك الأحزاب يومها مسيطراً عليها، بشكل متزايد، من قبل مثقفين متحدرين من عالم الجامعات، وتغيرت إيديولوجيتها بشكل جذري بالقياس إلى ما كانت عليه إيديولوجيا اليسار التقليدي.
فبعيداً عن السعي لإقامة شكل أو آخر من الاشتراكية، أو حتى من العدالة الاجتماعية، جعل اليسار من نفسه بطلاً للنضال من أجل تكافؤ الفرص، ومناهضة التمييز، والأحكام المسبقة، وانفتاح الأسواق الذي تفرضه العولمة.
البطل الأسطوري لليسار لم يعد البروليتاري. بل المهمش، والمهاجر، والأجنبي، والمنشق، والمتمرد، حتى ولو كان متعصباً دينياً لا يقبله المثقف اليساري جاراً له في الحي الذي يسكنه. ذلك يجبرنا على العودة إلى جان جاك روسو الذي كان يسخر من أولئك الذين يتظاهرون بأنهم يحبون التتار بهدف إعفاء أنفسهم من أن يحبوا جيرانهم.
وهكذا، لم نلبث أن وجدنا أنفسنا إزاء تحالف طبقي جديد : الـ 1 بالمئة، بحسب التسمية التي تطلق عليهم، أو، لكي نكون أكثر واقعية، الـ 10 بالمئة من الأشخاص الأكثر ثراءً والذين يستفيدون من العولمة ويتحالفون مع مجمل البورجوازية الفكرية الصغيرة ويبيعوننا عولمة سعيدة باسم “الانفتاح على الآخر”، ويلوحون بشبح العنصرية والتعصب للجنس لكي يجتذبوا الأقليات وبعض النسوة المتعصبات للأنوثة (مع أن النساء لا يشكلن أقلية وإن كانت المتعصبات يطرحن مطالب مشابهة لمطالب الأقليات).
لكن هذا التحالف كان، من وجهة النظر الاجتماعية-الاقتصادية، مخالفاً للطبيعة إلى أبعد الحدود لأن ضحايا العولمة الرئيسيين هم العمال الأقل إعداداً من الناحية المهنية، والمتحدرون في الغالب من صفوف الأقليات والنساء.
لقد اتخذ اليسار موقفاً مؤيداً للعولمة وهذا الموقف قاده من انحراف إلى انحراف. فمن جهة أولى تخلى اليسار عن كل مطلب متعلق بإخضاع الاقتصاد لأية قواعد مكتفياً بمطلب التوزيع العادل لثمار النمو وتأمين “تكافؤ الفرص”. ولكن ما حدث على أرض الواقع هو تنامي اللامساواة والضعف الشديد على مستوى النمو الاقتصادي.
كما تخيل اليسار أن من الممكن إلغاء القانون الدولي وأن ما يسمى بـ “الأسرة الدولية”، أي، عملياً، الولايات المتحدة وحلفائها سيقومون بفرض النظام على المستوى العالمي، وذلك بالطرق العسكرية. وهنا أيضاً، لم يفض ذلك على مستوى أرض الواقع إلى غير المزيد من الفوضى والبؤس والمهجرين والمقاومة في وجه هذا النظام “الأميركي”. وعلى أرض الواقع أيضاً، وعلى مر الزمن، بدأ سكان الولايات المتحدة بالمعاناة من مرض غريب هو “التعب من الحرب”. باستثناء أقلية من الإيديولوجيين، ولم يعد هنالك أحد على وجه التقريب في الولايات المتحدة يمكنه أن يتحمل تكلفة إقامة الإمبراطورية.
وكان لا بد أيضاً من رد على احتجاجات ضحايا العولمة. فهذه الاحتجاجات كانت تواجه بإيديولوجيا التسامح، حيث اعتبر كل رفض للعولمة بمثابة رفض للآخر، أو عنصرية، أو كراهية تجاه الأجانب. وقد انخرط المثقفون [اليساريون] بحماس في هذه “المعركة ضد العنصرية”، مع حرصهم على المحافظة على موقعهم كأصحاب امتيازات في المجتمع تجعلهم بمأمن من أعاصير العولمة.
انتخاب ترامب هو تعبير عن انتفاضة شعبية أميركية
كان هنالك اكتفاء في الولايات المتحدة بإدانة أصحاب التفكير غير الامتثالي في أوروبا. ووصل الأمر إلى حد ملاحقتهم أمام المحاكم.
وكان لا بد من أن تصل الأمور في يوم ما إلى حد الانفجار، تماماً كما في حالة جدار برلين والاتحاد السوفياتي. وللأسباب نفسها بشكل أساسي : النخبة الراضية عن نفسها والمنفصلة عن الوقائع الاجتماعية وغير الكفوءة والتي تدعي أنها تحقق السعادة للشعب دون أن تطلب رأيه والتي، في نهاية المطاف، لا تفي بما وعدت به من خيرات، تنتهي بإحداث انتفاضة ضد نفسها.
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ها قد أتى ترامب. يمكننا أن نتفلسف إلى ما لانهاية حول هذا الشخص، ولكن بقدر ما يذكره “الليبراليون” الأميركيون بالسوء، بقدر ما يؤكدون ضمناً على ضخامة هزيمتهم : بعد سنوات اعتمدت فيها السياسة المهذبة والتربية وفق قواعد التعصب للنساء والعداء للعنصرية، هل يمكننا أن نتخيل فشلاً أسوأ من انتخاب شخص يتعرض، شأن ترامب، للشيطنة من قبل المتعصبين للنساء والمعادين للعنصرية ؟
بالنسبة للمتعصبين للوحدة الأوروبية وأنصار العولمة والحروب الإنسانية، جاء انتخاب ترامب شبيهاً من حيث تأثيراته بالإضرابات العمالية التي عمت بولندا ضد الشيوعيين. فتلك الإضرابات كانت تعبر عن الاستياء الذي كان سائداً حتى في صفوف البروليتاريا حتى حيث كان من المفترض بأنها تمارس ديكتاتوريتها. انتخاب ترامب هو تعبير عن ثورة الأميركيين داخل قلعة التبادل الحر والإمبريالية.
يبقى أن نعرف بأن ترامب سوف ينجز الجوانب التقدمية في برنامجه : الحمائية التجارية وتدعيم السلم مع روسيا. وهذا بالضبط، وليست أقوال ترامب “القاسية”، هو ما يثير حنق جماعات الهيمنة. وبالتالي، فإن ذلك هو ما يتطلب من ترامب أقصى قدر من الذكاء والتصميم.
إن من واجب اليسار، فيما لو أجرى جردة حساب ونظر بروية إلى ضلالاته السابقة، أن يوظف كل جهوده من أجل دفع ترامب نحو الاتجاه الصحيح، وذلك بدلاً من أن يكسب المزيد من معاداة الشارع الأميركي، بدلاً من أن يتخذ لنفسه موقع العنجهية الأخلاقية، أو أن يبيع نفسه مرة أخرى إلى قيادة الحزب الديموقراطي