جلس شربل في صالة الانتظار في مطار “موستار” بعد زيارة دينية الى مديوغوريه، وبجانبه لبناني آخر.
بعد التعارف قال الرجل : أنا أعمل في التجارة، وقد أنعمت علي العذراء بزيارتها للسنة العاشرة على التوالي…
أومأ شربل برأسه وقال: انشالله زيارة مقبولة
ابتسم الرجل ، وقال : ولك أيضاً
و أنت هل جئت الى هنا قبل الآن ؟
أجاب شربل بعد تردد :
– و الله يا أخي لزيارتي هذه قصة طويلة ولا أريد أن أوجع رأسك بها.
ضحك الرجل ، وقال :
– أرغب بأن اسمعها ، فكما ترى نحن لانفعل شيئا سوى الانتظار .
ابتسم شربل وقال :
– نعم، الانتظار! وهو ما تبدأ به قصتي ،
فقد انتظرت ١٠سنوات حتى أقوم بزيارتي هذه، وخلال عملي كمعالج فيزيائي في مستشفى خاص استطعت أن أجمع كلفة الرحلة ، وفي نفس اليوم الذي ذهبت الى المستشفى لطلب عطلة للسفر، صادفت إحدى الأمهات التي كنت أعالج ابنها المشلول وقد كسا وجهها الهمّ والغمّ وقالت لي : الى اللقاء يا شربل فهذه آخر زيارة لنا لهذا المستشفى.
استغربت كلامها وحسبت أنها غير راضية عن علاجي لابنها وتفكر في نقله لمكان آخر فقالت لي : بالعكس، لقد كنت لابني أحن من الأب وقد ساعده علاجك كثيراً بعد أن كنا قد فقدنا الأمل به .
ومشت حزينة!!!
استغرب الرجل وقاطع شربل قائلاً :
– غريب، طيب إذا كانت راضية عن أدائك، وابنها يتحسن فلم تركت العلاج ؟
أجابه شربل :
– هذا ما فكرت به وشغل بالي فذهبت إلى الإدارة وسألت فتبين أن والد الصبي فقد وظيفته ولم يعد يتحمل نفقة العلاج..
حزن الرجل وقال :
– يا حرام، مسكينة هذه المرأة .
وماذا فعلت ؟
أجاب شربل :
– ذهبت إلى المدير ورَجوته أن يستمر بعلاج الصبي على نفقة المستشفى او الضمان ولكنه رفض رفضاً قاطعاً وقال لي : هذه مؤسسة خاصة وليست جمعية خيرية اما الضمان فهو لا يلبّي كامل الكلفة.
خرجت من عند المدير حزيناً مكسور الخاطر على المرأة وفجأة وضعت يدي على جيبي الذي فيه نقود الرحلة
فتسمَّرت في مكاني لحظة ثم رفعت رأسي إلى السماء وخاطبت ربي قائلاً :
يا رب أنت تعلم بمكنون نفسي وتعلم أنه لاشيء أحب إلى قلبي من زيارة العذراء ملكة السلام في مديوغوريه، وقد سعيت لذلك طوال عشر سنوات ولكني أفضل ان اساعد هذه المسكينة وابنها على التزامي بوعدي للعذراء في زيارتها هناك.
فذهبت إلى المحاسب ودفعت كل ما معي له عن أجرة علاج الصبي لستة أشهر مقدماً، وتوسلت إليه أن يقول للمرأة بأن المستشفى لديها ميزانية خاصة للحالات المشابهة .
تأثر الرجل و دمعت عيناه وقال :
– الله يباركك ويقبل منك.
ثم قال : إذا كنت قد تبرعت بمالك كله فكيف جئت الى هنا إذن؟ فاجاب : رجعت يومها إلى بيتي حزيناً على ضياع فرصة عمري في الزيارة، ولكن الفرح ملأ قلبي في نفس الوقت لأني ساعدت المرأة وابنها ، فنمت ليلتها ودمعتي على خدي، فرأيت في المنام أنني جالس امام شخص العذراء في مديوغوريه، والناس يسلمون علي ويقولون لي : زيارة مقبولة يا شربل فقد قمت بزيارتك في السماء قبل زيارتك على الأرض، صلِّي لنا.
فاستيقظت من النوم وأنا أشعر بسعادة غير طبيعية،
فشكرت الله على كل شيء ورضيت بالأمر .
وما إن نهضت من النوم حتى رنَّ الهاتف، وإذا به مدير المستشفى الذي قال لي : أنجدني فصاحب المستشفى يريد الذهاب إلى “مديوغوريه” هذا العام وهو لا يذهب دون معالجه الخاص، لكن زوجة معالجه في أيام حملها الأخيرة ولا يستطيع تركها، فهلا أسديتني خدمة.. ورافقته الى هناك .. فخررت على الارض راكعاً، شاكرا الله ..
وكما ترى فقد عوضني الله ان اقوم بالزيارة دون أدفع شيئاً، وفوق ذلك أصرّ صاحب المستشفى على إعطائي مكافأة كبيرة لرضاه عن خدمتي له، وحكيت له عن قصة المرأة المسكينة فأمر بأن يعالج ابنها في المستشفى على نفقته الخاصة وتعيين زوجها بوظيفة في إحدى شركاته ، كما امر بأن يكون في المستشفى صندوق خاص لعلاج الفقراء.
أرأيت كم كان الله كريماً معي!
نهض الرجل وقبّل شربل على جبينه قائلاً :
– والله لم أشعر في حياتي بالخجل مثلما أشعر الآن فقد كنت أزور سنة تلو الأخرى وأحسب نفسي قد أنجزت شيئاً ًعظيماً، وأن مكانتي عند الله ترتفع بعد كل زيارة ولكني ادركت الآن أن زيارتك بألف زيارة مني ؛ فقد ذهبت أنا إلى العذراء ، أما أنت فقد دعتك هي إليها.