عَ مدار الساعة


قصة حقيقية مهولة..

– رسالة 18 آذار 2003 

***

“أولادي الأحبّة… أدعوكم إلى الخيار. أعطاكم الله الحرية لإختيار الحياة أو الموت. اسمعوا رسائلي بالقلب لتميّزوا ما يجب أن تفعلوا وكيف تدركون الدرب نحو الحياة. أولادي، بدون الله لا تستطيعون شيئاً، هذا لا تنسوه أبداً..”

إحتضار عامل سكّة الحديد

بلغت الساعة الحادية عشرة ليلاً وما زال الأب أومالي ينظر الى النافذة: يا للعاصفة الهوجاء! كم يحلو له أن يُنزل عن كاهله هموم النهار ويستعدّ للنوم في هدأة بيت الرعيّة. غير أنّه كان يجهل أن الله يهيّء لخادمه، ذلك المساء، مشروعاً آخر…

رنّ جرس الهاتف. إنّها مستشفى أوبورن، وصوت أنثوي يتوسّل:

– أنا الممرّضة بيتي. تعال بسرعة، يا أبتِ. اتّصل بك من مكتبي لأنّ رجلاً يحتاج إلى كاهن. حالته تسوء جداً وقد لا يعيش حتى طلوع الفجر، الأمر طارئ!

يعرف الأب أومالي أنّ العواصف الشديدة على الشاطئ الغربي للولايات المتحدّة لا ترحم. ويُحكى في الإذاعة عن خطر فيضان. الواقع أنّه ينبغي اجتياز نحو ثلاثين ميلاً (45 كلم) ليلاً! إنها مجازفة حقًّا… وفي الغد، يبدو برنامج الرعيّة حافلاً، فيما كان إغراء السرير ينسلّ بنعومة إلى جفنيه.

– سوف أذهب حالما استطيع ذلك، أجاب الممرّضة على مضض. سأصل حين أصل في هذا الطقس السيّء!

كان نداء تلك النفس أقوى وها هو الأب أومالي على الطريق، متحدّياً الأمطار الغزيرة التي لا تنفكّ تهدِّد بسدّ الطريق أمامه. عليه قضاء 4 ساعات لإجتياز تلك المسافة. وفي المستشفى، كانت بيتي تتحيَّن قدومه وقادته فور وصوله إلى غرفة توم الذي تعتني به. بدا الرجل يحتضر فإنّ أعراض المرض لا تخدع.

– قيل لي إنّك تود لقاء كاهن!

جمع الب أومالي كل الرقّة والنعومة اللتين وضعهما المسيح فيه خلال سنيّ كهنوته. لقد تعلّم احترام قيمة النفس اللامحدودة، لا سيّما في ساعتها الأخيرة. فتح الرجل عينيه:

– دعني وشأني! لا أودّ رؤيتك!

بدأ اللقاء بشكلٍ سيّء للغاية. وبدا الأب أومالي حزيناً، لكن بدون أن تخمد عزيمتهوجلس بهدوء واستغرق في الصلاة. ترك الوقت يمضي وبعد ساعة قام بمحاولة جديدة:

– هل ترغب في الكلام قليلاً؟

كرّر الرجل ردّة فعله العنيفة ذاتها وألحقها هذه المرّة بإنذار بوجوب “الإنسحاب” أمّا الكاهن فاحتفظ من جهته بطول أناته وجلس يواصل بهدوء التماس الرحمة للرجل. وأخذ النهار يطلع بخجل وبانت من خلال النافذة بعض أنوار الصباح. ستبدأ المدينة التي غسلتها العاصفة تعجّ بالحركة. هل ستذهب هذه النفس الغالية محرومة من سلام الله؟ با الكاهن من جديد كأنّه شدود إلى السرير.

– أنا متأكّد أنّك ترغب في الكلام، أليس صحيحاً؟!

– أوه، في جميع الأحوال، لا أملك الوقت الكافي لأقول الكثير! إنّي مدمن على الكحول وأعيش وحدي منذ مدّة طويلة. عندما كنت شابًّا كان لي محلّي بين عمّال سكّة الحديد. كنت ميكانيكيًّا، ومنذ أكثر من 30 سنة، هبّت ذات ليلة عاصفة هوجاء ولجأ جميع رفاقي في الخدمة إلى كوخ صغير. وشربنا حتى تعتعنا السكر. وكان القطار يكاد يصل في وقت خدمتي وكان عليّ أن أحوِّل الرافعة. فنهضت وذهبت لرفعها كي يسير القطار على الخطوط الصحيحة. غير أنّني وتحت تأثير الكحول المفرطة، بدّلت الرافعة في الإتجاه الخطأ. عندئذٍ حدثت المصيبة: سار القطار في خطّ يُفنرض أن يبقى حرًّا واصطدم مباشرة بسيارة كانت تجتاز ذلك الممرّ المفتوح. قُتلت عائلة بأسرها: الأب والأم وابنتاهما… حدث ذلك بُعَيْد عيد الميلاد ولم استطع أن أغفر لنفسي هذا الأمر على الإطلاق ولن اغفر لها أبداً! ولن يستطيع الله أن يغفر لي ذلك… عندئذٍ، غادرت وهجرت كلّ شيء ولجأت إلى الجبال. وما برحتُ من 30 سنة أعيش وحيداً متوحِّداً.

أخذ توم ينتحب. القى مأساته في قلب هذا الغريب المجهول واستعاد ذكرى ذلك الكابوس وحياته الضائعة وتلك المصيبة التي لا تعوّض والشعور بالذنب الذي يتآكله من الداخل بدون هوادة. لم يشكّ للحظة واحدة أنّ هذه المكاشفة القلقة قد وضعت مُحاورَه في حالة من الصدمة. تأثّر الكاهن شديد التأثّر، ولكنّه ظلّ متماسكاً فاللحظة غير مؤاتية للانجراف وراء العاطفة. يمكن للرجل أن يموت في أي لحظة ولا ينبغي إضاعة أيّ دقيقة! دعا الكاهن توم أن يعهد بجميع خطاياه إلى الله وأن يقبل الحل والمغفرة. كان صوته يرتجف كونه هو أيضاً قد استعاد في ذاكرته مأساة رهيبة:

– تعلم، قال له، في تلك السيارة، في ذاك المساء من عيد الميلاد، كان الأب والأم قد أخذا معهما ابنتيهما… إنّما كان لهما صبيّ صغير بقي في المنزل. وهذا الصبي الصغير… هذا الصبي الصغير… هو انا!

حاول توم أن ينهض مذهولاً، لكنّه لم يستطع أن ينبس ببنت شفّة.

– لك غفراني يا توم… إنّي اغفر لك! همس الكاهن كما يُهمس سرٌّ حميمٌ (1)

عندما رقد الرجل ميتاً، عند طلوع الشمس، لم يعد يشعر بالخوف من الله. إذا كان الصبيالناجي من الموت قد غفر ما لا يغتفر، فهل يمكن الله بعد ذلك أن يحتفظ بالخطيئة (2)؟

(1) “إذا إعترفنا بخطايانا فإنّه أمينٌ بارّ يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كل إثم”. (1يو 1-9)
(2) بحسب Warre Miller, Health Communications, Deerfield. Beach, Florida USA

***

نقلاً عن كتاب الطفل المحتجب في مديوغوريه – الأخت غيمانويل مايّار – ص: 63-64-65

العنوان في اللغة المصدر (الفرنسية): Soeur Emmanuel Maillard – L’Enfant caché de Medjugorje – Éditions des Béatitudes

أصدقاء مريم عائلة ملكة السلام عائلة مديوغوريه في لبنان – ترجمة جمعية “أصدقاء مريم ملكة السلام” عائلة مديوغوريه في لبنان – 2009 (جميع الحقوق محفوظة)