يظنّ المكلف بتشكيل الحكومة في لبنان أنّ الدستور اللبناني أعطاه الصلاحية المطلقة ومن غير ضوابط، ومن غير أيّ شريك في تشكيل الحكومة، كما ويظن أن عدم تحديد سقف زمني لعملية التشكيل تجعل منه الأوحد صاحب القرار بتحديد التاريخ الذي يشكل الحكومة فيه.
والأدهى من ذلك ان هناك فريقاً من السياسيين اللبنانيين ولأسباب طائفية مذهبية محضة يؤيدون الرئيس المكلف في ظنه، لا بل يزايدون عليه للتمسك بهذا بالحق والتصرف، لأنهم حسب زعمهم يحصنون بذلك موقع رئاسة الحكومة ويحمون اتفاق الطائف الذي جاء بصلاحياتها هذه.
بيد أن هؤلاء نسوا او تناسوا ان الحكم في لبنان هو حكم برلماني ديمقراطي أي هو حكم الأكثرية النيابية القائمة في مجلس النواب والمشكلة بما يحترم الميثاقية، أي إشراك جميع الطوائف في الحكم، إشراك يأخذ بالاعتبار الأكثرية في كل طائفة إذا أمكن، وإلا يكتفى بالأقلية الوازنة فيها بشكل لا يقل عن الثلث او الربع إن تعذر تحصيل النصف. وهذه الأغلبية العامة والميثاقية بأحد وجهيها الاكثري او الاقلي هي وحدها صاحبة القرار وبها يكون المجلس النيابي سيد نفسه.
فالأغلبية الميثاقية تلك هي وفقا لروح النظام اللبناني هي التي تختار رئيس الحكومة. وهي التي تمنح الحكومة الثقة او تسقط حكومة مشكّلة سبق أن نالت الثقة. ومن هذه الزاوية بالذات أي حجب الثقة عن حكومة قائمة وتوسيعاً للنص بمقتضى روح النظام اللبناني ينبغي ان يكون لهذه الأكثرية او يجب الاعتراف لهذه الأكثرية بحق سحب تكليفها او اختيارها للشخص الذي سبق واختارته لتشكيل الحكومة اذا تبين أنه عاجز عن التشكيل ولم يبادر من تلقائه إلى الاعتذار او إذا ثبت لها أن من اختارت يريد ان يتجاوزها او يماطل بتشكيل حكومة تمثلها أو يمتنع عن تشكيل الحكومة أصلاً حتى ينسف وجود الأكثرية أصلا ويعطل مجلس النواب الذي تشكل عماده.
نقول هذا، ونبدي هذه الهواجس بعد الوقوف على سلوك الرئيس المكلف سعد الحريري، وبعد دراسة عروضه الأخيرة لتشكيل الحكومة. وكلها يشير إلى انه لا يأخذ بخريطة مجلس النواب القائم ويكاد يعتبر ان الانتخابات لم تجر وان المجلس السابق الذي كان يعطيه هو وفريقه الارجحية مستمر في ولايته.
فهو من جهة يتمسك ويجاهر بأنه لن يعتذر عن تشكيل الحكومة مهما طال الزمن وتعقدت العراقيل. كما ولن يشكل إلا الحكومة التي يريد هو وفقاً لقناعته ومصلحة الفريق الذي ينتمي اليه. ولذا تنصرف إرادته لإعطاء من تريدهم السعودية او ترى فيهم خطوطاً حمراً لا يمكن تجاوزها في لبنان فوق ما يخوّلهم حجهم النيابي الحصول عليه ـ ففي حين أن هؤلاء الثلاثة تيار المستقبل + القوات اللبنانية + الحزب التقدمي الاشتراكي لا يملكون الا 42 مقعداً نيابياً 19+15+8 أي أقل من ثلث المجلس فإنهم يصرون على نيل 14 مقعداً وزارياً 6+5+3 أي نصف حكومة من 30 وزير ويوافقهم الحريري على طلبهم، لا بل يبدو ملتزماً أمامهم او أمام مرجعيتهم الخارجية بذلك.
وفي الوقت نفسه يعرض الحريري على الأكثرية النيابية المشكلة من 67 نائباً 13 وزيراً ويبقي لرئيس الجهورية 3 وزراء، ثم أنه وبكل مكابرة وتعنت يرفض تمثيل 20 نائباً ينتظمون في تكتلات صغيرة من 3 أو 4 نواب او هم مستقلون خارج أي كتلة وأهم هؤلاء كتلة نواب الحزب السوري القومي الاجتماعي 3 والنواب السنة خارج تيار المستقبل 10 .
ثم يريد الحريري أن يخير الأكثرية متحصناً بما يدعي من صلاحيات دستورية بين الانتظار من غير سقف زمني للتشكيل أو القبول بعرضه الذي يقود بكل بساطة إلى حرمان الأكثرية النيابية من تشكيل حكومة قادرة على الانعقاد إن لم توافق الأقلية. وإن انعقدت يمنعها من اتخاذ القرار في المواضيع الجوهرية التي يفرض الدستور فيها أكثرية الثلثين ما يعني أنه يريد ان يجرد الأكثرية النيابية من حقها في الحكم ويجعل نتائج الانتخابات النيابية لغواً.
أمام هذا المشهد، وفي ظل غياب النص الدستوري على مهلة قصوى لتشكيل الحكومة يعتبر بعدها التكليف لاغياً، كما هو معمول به في معظم الدول التي تعتمد الأنظمة البرلمانية الديمقراطية، فإننا نرى ان التسليم لرئيس الحكومة المكلف بالحق المطلق او المهلة المفتوحة لتشكيل الحكومة هو أمر منافٍ للمنطق الدستوري ولروح القانون والدستور والنظام البرلماني وقواعد انتظام المؤسسات الدستورية واحترام صلاحياتها، فضلاً عن كونه بالغ الخطورة على النظام السياسي برمّته إذا ماذا لو حبس الشخص المكلف هذا الحق وامتنع عن تشكيل الحكومة طيلة ولاية مجلس النواب؟ ألا يعد فعله خرقاً وانتهاكاً للدستور ومصادرة لقرار الشعب المعبر عنه بالأغلبية النيابية؟ وهنا نقول لجهابذة الدستور المتباكين على صلاحيات رئيس الحكومة ما هو حكمكم الدستوري لمعالجة هذا الاحتمال؟
إن الأحمق الجاهل وحده الذي يمكن ان يقبل بحصول هذا الأمر او السكوت عليه، ولذلك وفي ظل غياب النص وقياساً على حق المجلس بحجب الثقة عن حكومة سبق ونالتها، فإننا نتمسك بالتفسير القائل بحق الأكثرية النيابية بسحب التفويض بالتكليف في أي لحظة تريد، طبعاً من دون ان يكون هناك تعسف في استعمال الحق. كما ويمكن للأكثرية أن تطلب من المكلف بتشكيل الحكومة ان يقدم أي حكومة يريد ثم تحاسبه عندما يلجأ اليها لنيل الثقة فتسقط حكومته وتكلف سواه. وعلى هذا الأساس نرى حلاً للمأزق الذي يتخبط فيه لبنان منذ شهرين. والأمر مفتوح إلى ما شاء الله، نرى ان الحل يمكن ان يكون في واحد من تدبيرين اثنين:
أما الأول فيكون عبر الطلب من الحريري نفسه ان يشكل أي حكومة يريد، ويصدر رئيس الجمهورية مراسيمها، فاذا رضيت الأكثرية بها تمنحها الثقة، وإلا فأنها تسقطها وتسارع إلى تشكيل حكومة أكثرية تعكس نتيجة الانتخابات.
الثاني ويعمل به إذا أصرّ المكلف على المماطلة وامتنع عن تنفيذ الحل الأول. وهو حل سبق ان طرحناه قبل شهر من الآن، وتبنّاه واقترحه مشكوراً بعد ذلك أحد النواب ما استدعى رداً غاضباً من الحريري بالقول «يروح يبلط البحر».
عبارة ذكّرتنا بما قال أبوه قبله «طويلة على رقبتهم». ومع ذلك نصرّ على هذا الحل لقطع الطريق على المماطلة في تشكيل الحكومة التي تعكس نتائج الانتخابات النيابية. والحل ببساطة يتمثل بتوقيع 65 نائباً عريضة تسحب التكليف للحريري بتشكيل الحكومة أو تعطيه مهلة نهائية يصبح التكليف بعدها لاغياً. وهنا يصار إلى استشارات جديدة ويختار من يشكل حكومة أغلبية.
هذه هي السبل التي نراها متاحة دستورياً أمام الأغلبية النيابية إن أرادت ممارسة حقها في الحكم، وقد لا يكون مقبولاً من هذه الأغلبية إلقاء اللوم على الخارج في عرقلة تشكيل الحكومة، فبإمكان الغالبية إثبات استقلالها وعدم انصياعها لإرادة الخارج عبر سلوك واحد من هذين الحلين، أما الإحجام وعدم المبادرة ثم إلقاء اللوم على الغير فاني اعتقد انه لن يحجب مسؤولية الأغلبية عن عدم تشكيل حكومتها. إذ قد يرى الفريق الآخر مصلحته في تعطيل نتيجة الانتخابات، ويجب على الأكثرية ان تعمل وفقاً لمصلحتها بتأكيد هذه النتيجة.
-البناء-