– بحسب رؤيا كاتالينا ريفاس ومعلمة الكنيسة القديسة هيلدغارد
***
في القدّاس يوجد سرّين مدهشين. الأول هو انفتاح السماء وظهور الكائنات السماوية عند الهيكل خلال الليتورجيا. والثاني هو تحوّل الخبز والخمر الى جسد ودم المسيح في الجوهر.
في هذا المقال سنتحدّث عن هذين السرّين باستخدام رؤى إثنين من الشهود كاتالينا ريفاس والقديسة هيلدغارد اللتان كشف لهما الرب الأسرار الخفية التي تحدث في كل قدّاس.
ليتورجيا السماء والأرض
القدّاس يعيد أحداث خميس الأسرار، الجمعة العظيمة وأحد الفصح وهو مشاركة في عبادة الله في الهيكل السماوي.
المذبح على الأرض يتّحد ويندمج مع المذبح في السماء. لذا فالقدّاس هو السماء على الأرض.
والليتورجيا على الأرض هي انعكاس مرئي ورمز فعّال عن الليتورجيا الملائكية السماوية.
يُعبَّر عن اتّحاد الطقسين (الأرضي والسماوي)، حينما تُدعى الكنيسة الى الوحدة مع العروش والسيادات والكاروبيم والساروفيم لترنيم النشيد الملائكي، قدّوس، قدّوس، قدّوس. وهذا ما توضحه لنا رؤيا كاتالينا ريفاس:
“فجأة وجدت أشخاصًا لم أرهم قبلاً، كان كلّ واحد منهم يقف إلى جانب كلّ شخص في الكنيسة، وهكذا امتلأت الكنيسة بعدد من الأشخاص رائعي الجمال، يلبسون ثيابًا بيضاء، توجّهوا نحو وسط الكنيسة، باتجاه المذبح.
قالت لي مريم: “أنظري، هؤلاء هم الملائكة الحرّاس، لكلّ واحد من الأشخاص الموجودين في الكنيسة. إنّها اللحظة التي يحمل فيها الملاك الحارس تقديماتكم وصلواتكم إلى مذبح الله”.
وتكمل كاتالينا: “شعرت بالدهشة، لأنّ لهؤلاء الملائكة وجوهًا مشرقة ورائعة الجمال، أرجلهم الحافية لا تطأ الأرض… كان هذا التطواف جميلاً. بعضهم كان يحمل إناء من ذهب تشعّ منه أنوار مذهّبة. قالت العذراء: إنّ الملائكة يقدّمون في هذه اللحظات من القدّاس تقادم المصلّين، الواعين معنى هذا الاحتفال والذين عندهم شيء يقدّمونه لله…
قدّمي أتعابك، آلامك، أفراحك، أحزانك وطلباتك. تذكّري أنّ للقدّاس قيمة لا متناهية، لذلك كوني كريمة بتقادمك وطلباتك.”
ولكن كاتالينا شاهدت شيئاً غريباً جداً، وراء الملائكة الأولين جاء آخرون لا يحملون شيئًا في أيديهم، كانت أياديهم فارغة.
فقالت لها العذراء: إنّهم ملائكة الأشخاص الذين ورغم حضورهم، لم يقدّموا شيئًا لله، لأنّهم غير مهتمّين بعيش ليتورجية القدّاس، ولا يقدّمون شيئًا لمذبح الربّ.
أخيراً قالت كاتالينا: “في نهاية التطواف، رأيت ملائكة تبدو عليهم علامات الحزن، يجمعون أيديهم للصلاة، وعيونهم منخفضة حياء. إنّهم الملائكة الحراس للأشخاص الموجودين هنا جسديًّا لكن عقولهم في الخارج، لا رغبة عندهم في المشاركة في القداس، لذلك هم يتقدّمون بحزن، لأنّ لا شيء يقدّمونه إلى مذبح الربّ، سوى صلواتهم الخاصّة.
تكريس واستحالة الخبز والخمر
اللحظة السريّة بالأكثر في القدّاس هي عندما يكرّس الكاهن الخبز والخمر ويتحوّلان فجأة الى جسد ودم يسوع. هذا يحدث عند الصلاة الإفخارستية.
يصبحان جوهر جسد المسيح، لكن تبقى عوارض الخبز والخمر: التركيب، الملمس، الرائحة، والطعم وغيرها العناصر المادية. وكجوهر المسيح، فكل قطعة صغيرة تحتوي على جسد المسيح الكامل، وكذلك كل قطرة من الخمر. وهذه الاستحالة فورية أي لا تحدث بالتدريج.
استحالة الخبز والخمر بحسب رؤيا معلّمة الكنيسة القديسة هيلدغارد
فيما يلي وصف للرؤيا من كتابها الأول، (Scito Vias Domini، “معرفة طرق الله”)
بعد تلاوة إنجيل السلام وتكريس التقدمة الموضوعة على المذبح، ورتّل الكاهن والشعب التسبحة لله العلي “قدّوس قدّوس قدّوس”، انفتحت السماء فجأة وانحدر إشعاع شديد وبريق لا حدّ له على تلك التقدمة وأضاءها بالكامل بالنور، تماماً كما تضيء الشمس كل ما يُنير. وهكذا، رفعها متألّقة الى أعلى الى الأماكن السرّية في السماء ثم أعادها الى المذبح”.
تشرح القديسة هيلدغارد أنه عند تكريس الخبز والخمر تؤخذ الى السماء بواسطة نور خاص من أجل تحولهم الى جسد ودم المسيح ثم توضع مرة أخرى على المذبح.
القديسة هيلدغارد تشرح السبب في بقاء جسد المسيح ودمه غير مرئيّين.
“يقول الله: “لكن أنت، أيها الإنسان، لا يمكنك أخذ هذه الهبة الروحية بطريقة مرئية، كما تأكل لحماً مرئيّاً وتشرب دماً مرئيّاً؛ لأنك حقارة قذرة. لكن كما أن الروح فيك غير مرئية، هكذا السرّ في هذا القربان حيّ وغير مرئي ويجب أن تقتبله بشكل غير مرئي”.
“روح الإنسان، غير المرئية، تقتبل بصورة غير مرئية السرّ المستتر في القربان. بينما الجسد البشري، الذي هو مرئي، يقتبل القربان المحسوس الذي يُجسّد السرّ. لكن كلاهما واحد، تماماً كما المسيح هو إله وإنسان، وكما أن النفس العاقلة والجسد بشري يشكلان الإنسان”.
هناك علاقة خاصة بين التكريس وميلاد المسيح.
مرة أخرى تخبرنا القديسة هيلدغارد ما يقوله الله لنا بطريقة أبوية ومُحِبّة بأنه يتذكّر ميلاد ابنه في كل لحظة من التكريس:
”لذلك، عندما أرى جسد ودم ابني كل يوم مكرس على المذبح باسمي، وأنت، أيها الإنسان، يتم تقديسك من خلال هذا السر، وتتناول جسده وتشرب دمه، أتأمل دائماً في ميلاده. في الوقت الذي يقوم الكاهن بعمله كما عُيِّن له، بالتماسي بواسطة الكلام المقدّس، هناك تتجلّى قوّتي وسلطاني، كما تجلّت عند تجسّد ابني الوحيد”.
التكريس والاستحالة بحسب رؤيا كاتالينا ريفاس
تحدّثنا كاتالينا عن قسم آخر يحدث خلال القدّاس: عندما انتهت هذه التقدمة، وعندما بدأ المصلّون بالقدّوس قدّوس قدّوس اختفى الملائكة من وراء المصلّين على يسار الأسقف ومن الخلف، ظهر آلاف الملائكة، صغارًا وكبارًا، بعضهم ذوو أجنحة كبيرة وآخرين بأجنحة صغيرة وقسم آخر بدون أجنحة. جميعهم كانوا يرتدون بدلات شبيهة بثياب الرهبان والكهنة.
ركعوا جميعهم، وجمعوا أيديهم للصلاة وأحنوا رؤوسهم إجلالاً. تعالت موسيقى رائعة، وسمعت أصواتًا متعدّدة كلّها ترتّل مع الشعب: قدّوس قدّوس قدّوس.
ها نحن الآن في لحظة التكريس، لحظة الأعاجيب الأكثر روعة… على يمين الأسقف، وعلى خطّ مائل إلى الوراء رأيت آلافًا من الأشخاص، يرتدون نفس البدلات ولكن بألوان الباستيل: الزهري، الأخضر، الأزق السماوي، الزنبق والأصفر، ألوان مختلفة ورائعة.
كانت وجوه الملائكة تتآلف فرحًا، وكأنّها في عمر واحد، وجوههم متساوية، بدون تجاعيد تبدو عليها علامات السعادة. سجدوا كلّهم قبل ترتيلة القدّوس.
وشرحت لها السيدة العذراء:
“هؤلاء هم القدّيسون والطوباويّون والمبتهجون بحضور الله”. ثمّ رأيت السيّدة وهي إلى يمين الأسقف خطوة إلى الوراء. كانت مرتفعة عن الأرض بعض الشيء ساجدة على قماش من الفوال الناعم الشفّاف المنور، كالمياه البلوريّة، كانت تجمع يديها وتنظر باهتمام واحترام إلى المحتفل بالقدّاس. حدثّتني مريم من هناك، بصمت، ومباشرة في القلب، بدون النظر إليّ فقالت:
أنت متعجّبة لرؤيتي وراء الأسقف. أليس كذلك؟ هذا يجب أن يكون… رغم حبّه لي، لم يعطني أبتي الشرف الذي يعطيه للكاهن، وهو أن أحمل بين يدي ما تحمله كلّ يوم أيدي المكرّسين. إعلمي لماذا أشعر باحترام بالغ للكاهن وللأعجوبة التي يصنعها الله من خلاله، ممّا يحملني على السجود هنا.
مقابل المذبح، ظهرت ظلال أشخاص بلون رمادي، يرفعون أيديهم إلى الأعالي قالت لي مريم العذراء: إنّها النفوس المباركة في المطهر التي تنتظر صلواتكم لتجد بعض الانتعاش. هذه النفوس تصلّي من أجلكم ولكنّها غير قادرة على الصلاة لأجل نفسها، لتخرج إلى لقاء الله وتهنأ به للأبد… قولي للبشر، لا يمكن للإنسان أن يكون كما يجب إلاّ عندما يُثني ركبتيه أمام الله.
عندما بدأ الأسقف كلام التقديس، فجأة بدا حجمه يكبر ويمتلئ من النور، نور غير طبيعيّ، أبيض ذهبي، يغمره ويصبح أكثر قوّة عند الوجه، لدرجة إنّني لم أعد أتبيّن ملامحه. وعندما رفع القربانة، انبعثت من ظهر يديه أنوار، وشاهدت يسوع! كان هو ذاته، يغطّي الأسقف وكأنّه يغمر يديه بحبّ كبير.
في هذه اللحظات، بدأت القربانة تكبر وتنمو بطريقة كبيرة وظهر فيها وجه يسوع الرائع وهو ينظر إلى شعبه. أخفضت عينيّ بطريقة لاشعوريّة فقالت لي العذراء: لا تميلي نظرك عن يسوع. إرفعي عينيك، تأمّليه، أنظري في عينيه وردّدي صلاة فاتيما: إلهي، إنّي، أعبد، أرجو وأحبّ أطلب منك السماح لأجل كلّ الذين لا يؤمنون لا يعبدون ولا يرجون ولا يحبّونك سامح وارحم. والآن قولي ليسوع كم تحبّينه، عظّمي ملك الملوك.
ما إن بدأ الأسقف صلاة تكريس الخمر، بدأت خيوط من الأنوار تشبه البرق تلمع في السماء وفي العمق. لم يعد للكنيسة من سقف ولا جدران. كان كلّ شيء معتّمًا، ولم يبقَ سوى ذلك النور المتلألئ على المذبح.
فجأة رأيت يسوع المصلوب معلّقًا في الهواء من الرأس حتّى الخصر. وكان الصليب محمولاً بأيدٍ كبيرة وقويّة من وسط هذا الجمال انبثق نور صغير يشبه حمامة صغيرة منيرة جدًّا تحوّلت بسرعة في كلّ الكنيسة ثمّ عادت لتقف على كتف الأسقف لجهة الشمال، فتحوّل إلى يسوع لأنّني كنت أتبيّن شعره الناعم، وسماته النورانيّة وجسده الكبير ولكنني لم أرَ وجهه.
في الأعلى، بقي وجه يسوع المصلوب منحنيًا صوب الكتف الشمال. كانت علامات الضرب والجروحات باديةً على وجهه ويديه. وعند الجهة اليسرى من الصدر، بدا جرح كبير يتدفّق منه دم وماء من الشمال إلى اليمين. وكانت شعاعات النور تتّجه إلى المؤمنين بحركة نحو اليمين والشمال. دهشت أمام كميّة الدم التي فاضت من الكأس دون أن تقع منها أيّة بقعة على المذبح.
قالت لي العذراء:
هذه هي أعجوبة الأعاجيب. بالنسبة لله، لا وجود للوقت ولا للمسافة خلال لحظة التكريس، إذ يحمل المصلّون إلى رجلي المصلوب، ساعة صلب يسوع. هل يمكن لأحد أن يتصوّر ذلك؟ ليس باستطاعة أعيننا أن ترى، لكنّنا جميعنا هنا، من نفس اللحظة حين يصلب يسوع ويطلب السماح لا لقاتليه فقط بل وكلّ خطايانا: أبتِ اغفر لهم لأنّهم لا يدرون ما يفعلون.
المصدر: الحركة المريمية في الأراضي المقدسة
لقراءة الخبر من المصدر (إضغط هنا)