أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


ماريا فالتورتا عن المسيح في حوار مع رومانيين عن سقراط

– الحيوانات غالباً ما تكون أفضل مِن الناس
– أمّهاتكم في أمّي لا تريدون قتلها لأنّه يبدو لكم أنّكم تقتلون أمّهاتكم

***

95– (في يافا يسوع يتحدّث إلى يهوذا الاسخريوطيّ وإلى وثنيّين) الجزء 6: القسم 1 (20 / 09 / 1944)

أرى يسوع جالساً في باحة داخل بيت لائق دون أن يكون فاخراً. يبدو تَعِباً جدّاً. يَجلس على مقعد حجريّ قرب بئر ذي حوافّ مرتفعة قليلاً، مغطّى بقنطرة تعريشة خضراء. عناقيد العنب تبدأ بالتشكّل. المفروض أن تكون الزهرة قد سقطت منذ قليل والحبّات تبدو وكأنّها حبّات ذرة بيضاء متدلّية بسويقات خضراء…

تروح امرأة وتأتي والطحين يغطّي يديها، متنقّلة مِن غرفة في البيت إلى غرفة صغيرة ضيّقة في الطرف المقابل للدار، وحيث المفروض أن يكون الفرن. وفي كلّ مرّة تنظر إلى يسوع، ولكنّها لا تُزعج راحته…

عشرة مِن طيور الحمام تنـزل إلى باحة الدار لتناول وجبتها الأخيرة. تدور حول يسوع كما لترى مَن يكون هذا المجهول، ومرتابة، لا تجرؤ على الهبوط إلى الأرض. يبرح يسوع تأمّلاته، يبتسم، يمدّ إحدى يديه وكفّه إلى الأعلى، ويقول: «أأنتِ جائعة؟ تعالي.» كما لو أنّه كان يتحدّث إلى آدميين. الأكثر جرأة تقف على هذه اليد، تَلَتها أخرى وأخرى. يبتسم يسوع. «ليس لديّ شيء، أنا.» يقول أمام هديلها الملحّ. ثمّ ينادي بصوت مرتفع: «يا امرأة! الحمامات التي لكِ جائعة. هل لديكِ حَبّ لها؟»

«نعم، يا معلّم. إنّه في كيس تحت الرواق. أنا قادمة.»

«دعيني أفعل. سأقدّمه لها. فهذا يروق لي.»

«هي لا تأتي. فهي لا تعرفكَ.»

«آه! لديّ منها على كتفيّ وحتّى على رأسي!…»

ويسوع، بالفعل، يسير بقنبرة ريش الزينة الغريبة التي تشكّلها حمامة رصاصيّة اللون على صدره فتبدو وكأنّها درع ثمين ذو انعكاسات متبدّلة.

المرأة، غير مصدّقة، تَظهَر وتقول: «آه!»

«أترين هذا؟ طيور الحمام أفضل مِن الناس. تُدرك مَن يحبّها. الناس…لا.»

«لا تفكّر، يا معلّم، بما حصل. قليلون هنا الذين يبغضونكَ. الآخرون، تقريباً الجميع، يحبّونكَ، يحترمونكَ على الأقلّ.»

«آه! أنا غير مضطرب مِن أجل ذلك. أقول هذا لألفت نظركِ إلى أنّ الحيوانات هي غالباً ما تكون أفضل مِن الناس.»…

 

ضربات على الباب عنيفة. تهرع المرأة لتفتح: إنّهم التلاميذ.

«تعالوا.» يقول يسوع. «هل وزّعتم المال على الفقراء؟»

«نعم، يا معلّم.»

«حتّى آخر فلس؟ تذكّروا أنّ ما أُعطي لنا ليس مِن أجلنا، بل إنّما مِن أجل المحبّة. نحن فقراء ونعيش مِن رحمة الآخرين. بئس التلميذ الذي يستغلّ رسالته مِن أخل خواتيم بشريّة!»

«وإذا ما وُجِدنا يوماً دون قوت واتُّهمنا بنقض الشريعة بإفراغ الحبوب مِن السنابل كما تفعل العصافير؟»

«هل نقصكَ شيء يوماً يا يهوذا؟ شيء أساسيّ مذ أنتَ معي؟ هل وقعتَ مرّة مِن الوهن على الطريق؟»

«لا يا معلّم.»

«وإذن، يا يهوذا؟ لماذا تغيَّرتَ إلى هذه الدرجة؟ ألا تعلم، ألا تشعر أنّ استياءكَ، وبرودكَ يُسبّبان لي الألم؟ ألا ترى أنّ هذا الاستياء ينتقل لإخوتكَ؟ لماذا، يا يهوذا، أيّها الصديق، أنتَ المدعوّ إلى مصير كهذا، أنتَ الـمُقبِل بحماس كبير إلى حبّي وإلى نوري، تهجرني الآن؟»

«يا معلّم، أنا لا أهجركَ. أنا أكثر الناس اهتماماً بكَ، بمصالحكَ وبنجاحكَ. أودُّ أن أراكَ منتصراً في كلّ مكان، ثِق بذلك.»

«أعرف هذا. أنتَ تريد ذلك بشريّاً. وهذا كثير. إنّما ليس هذا ما أريد، يا يهوذا، يا صديقي… لقد أتيتُ مِن أجل شيء آخر تماماً غير النصر البشريّ والـمُلك البشريّ… لم آتِ لأمنح بعض الأصدقاء فضلات انتصار بشريّ، بل مِن أجل أن أمنحكم مكافأة واسعة، مكدّسة، وافرة، مكافأة لم تعد مكافأة لامتلائها: إنّها مشاركة بمملكتي الأزليّة، إنّها اتّحاد بحقوق أبناء الله... آه! يهوذا! لماذا لا يُلهِب هذا الإرث العظيم مشاعركَ؟ والذي يكون البلوغ إليه عن طريق إنكار الذات، ولكنّه لا يعرف غروباً. تعال أيضاً أقرب، يا يهوذا.

أترى؟ إنّنا بمفردنا. لقد أدرَكَ الآخرون أنّني كنتُ أودُّ التحدّث إليكَ، إليكَ أنتَ، موزِّع… خيراتي، الِهبات التي يتلقّاها ابن الإنسان، ابن الله ليمنحها باسم الله والإنسان للإنسان. لقد عادوا. نحن بمفردنا، يا يهوذا، في هذه الساعة اللطيفة مِن المساء التي تطير فيها قلوبنا إلى بيوتنا البعيدة، إلى أمّهاتنا اللواتي، أثناء تحضير عشائهنّ، يفكّرن بنا بالتأكيد، ويلامسن بأيديهنّ المكان الذي كنّا نجلس فيه قبل ساعة الله تلك التي أَخَذَتنا فيها الإرادة القدّوسة لجعله محبوباً بالروح والحقّ.

أُمّهاتنا! أُمّي، القدّيسة للغاية والطاهرة للغاية، التي تحبّكم كثيراً وتصلّي مِن أجلكم، أصدقاء يسوعها… أُمّي، التي ليس لها سوى هذا السلام في قلق أمومتها كأمّ المسيح: سلام معرفتها أنّي محاط بعطفكم… فلا تُخيّبوا ولا تَجرحوا قلب الأمّ هذا، أيّها الأصدقاء. لا تكسروه بفعل واحد مشين! أُمّكَ، يا يهوذا. أُمّكَ في آخر مرّة مررنا باسخريوط، لم تكن تنتهي مِن مباركتي وكانت تريد تقبيل قدميّ لسرورها مِن كون ابنها يهوذا في نور الله، وكانت تقول لي:”آه! يا معلّم! اجعل ابني يهوذا قدّيساً! ماذا يريد قلبي كأُمّ، إن لم يكن خير ابنها؟ وأيّ خير أعظم مِن الخير الأبديّ؟” بالفعل أيّ خير أعظم، يا يهوذا، مِن الخير الذي أريد أن أجلُبه لكم، والذي يمكن البلوغ إليه باتّباع طريقي؟ أُمّكَ امرأة قدّيسة، يا يهوذا، اسرائيليّة حقيقيّة. لم أرد أن تُقبّل قدميّ، ذلك أنّكم أصدقائي، وفي كلّ أمّهاتكم، في كلّ امرأة صالحة، أرى أُمّي، يا يهوذا. وأودُّ لو ترون أمّهاتكم في أمّي بمصيرها المريع كشريكة في الفداء، وأنتم لا تريدون، لا، لا تريدون قتلها لأنّه… لأنّه يبدو لكم أنّكم تقتلون أمّهاتكم.

يهوذا، لا تبكِ. لماذا البكاء؟ إذا لم يكن على قلبكَ ما يُبكّت ضميرك تجاه أُمّكَ وأُمّي فلماذا ذرف هذه الدموع؟ تعال هنا، ضع رأسكَ على كتفي وقل لصديقكَ ما يُقلقكَ. هل فشلتَ؟ هل تشعر أنّكَ على وشك الفشل؟ آه! لا تبقَ وحيداً! انتصر على الشيطان بمعونة مَن يحبّكَ. أنا يسوع، يا يهوذا. أنا يسوع الذي يُشفي المرضى ويطرد الشيطان. أنا يسوع الذي يخلّص… والذي يحبّكَ كثيراً، والذي يتعذّب لرؤيتكَ بهذا الضعف. أنا يسوع الذي يُعلّم المغفرة سبعين مرّة سبع مرّات. ولكن أنا، أنا، فيما يخصّني، فأغفر لكم ليس سبعين مرّة، بل سبعمائة، بل سبعة آلاف مرة سبع مرّات… وما مِن خطيئة، يا يهوذا، ما مِن خطيئة، يا يهوذا، ما مِن خطيئة يا يهوذا، لا أغفرها أنا، لا أغفرها أنا، لا أغفرها أنا إذا ما قال لي المخطئ التائب: “يا يسوع لقد خطئتُ.” وأقلّ أيضاً، لو قال فقط: “يا يسوع!” وأقلّ أيضاً، لو نَظَرَ إليّ مسترحماً. والأخطاء الأولى التي أغفرها، هل تعلم يا صديقي لمن أغفرها؟ للأكثر إثماً والأكثر توبة. والأولى التي أغفرها على الإطلاق هل تعرف ما هي؟ هي التي ارتُكبَت ضدّي.

يهوذا؟… ألا تجد كلمة تردّ بها على معلّمكَ؟… هل ضيقكَ ثقيل حتّى إنّه يقطع عليكَ الكلام؟ هل تخشى أن أشي بكَ؟ لا تخشَ مِن ذلك! منذ زمن بعيد وأنا أريد التحدّث إليكَ هكذا، أنتَ على صدري كتوأمين في مهد واحد، مولودين معاً، يكادان يكونان جسداً واحداً، ولدين يتبادلان فيما بينهما الصدر الدافئ ويذوقان طعم لعاب الأخ ولذّة الحليب الوالديّ في الوقت نفسه. الآن أنا أمتلككَ ولا أترككَ حتّى تقول لي إنّي شَفَيتُكَ. لا تخف، يا يهوذا. إنّ البوح هو ما أريده. ولكنّ رفاقكَ سيظنّونه حوار حبّ، لشدّة ما سيشعّ وجهانا بسلام متبادل وحبّ متبادل بعد هذا الحوار. وسأفعل بشكل يعتقدون ذلك معه أكثر فأكثر، بجعلك على صدري أثناء العشاء هذا المساء، وبغمس الخبز حصّتي وتقديمه لكَ كما للمفضَّل، ولكَ سأقدّم الكأس أوّلاً بعد شكر الله. ستكون مَلِك الوليمة، يا يهوذا، وستكونه بحقّ. عروسة العروس ما ستكونه، أيا أيّها النَّفْس التي أُحبّ، إذا ما أصبَحتَ طاهراً وحرّاً، بإفراغ غباركَ في صدري المطهِّر.

أما زلتَ لا تتكلّم لتبوح لي بما يحزنكَ؟»

«لقد حدَّثتَني بكثير من العذوبة… عن الأُمّ… عن البيت… عن حبّكَ… لحظة الضعف… أنا تَعِب للغاية!… وكان يبدو لي أنّكَ لم تكن لتحبّني هكذا منذ بعض الوقت…»

«لا. ليس هذا. فليس في كلامكَ سوى حقيقة واحدة، وهي أنّكَ تَعِب. ليس مِن الطريق، مِن الغبار، مِن الشمس، مِن الوحل ومِن الجمع. أنتَ تَعِب منكَ. نفسكَ تَعِبة مِن جسدكَ ومِن روحكَ. تَعِبة لدرجة أنّها ستنتهي بالانطفاء مِن التعب المميت. يا للنَّفْس المسكينة التي أدعوها أنا إلى المجد الأبديّ! يا للنَّفْس المسكينة التي تعرف أنّني أحبّكَ، والتي تقرّعكَ على انتزاعها مِن حبّي! يا للنَّفْس المسكينة التي تقرّعكَ عَبَثاً كما عَبَثاً ألاطفكَ بحبّي، على تصرّفكَ مع معلّمكَ بمراءاة. ولكن لستَ أنتَ الذي تتصرّف. إنّه الذي يبغضكَ ويبغضني. لأجل ذلك كنتُ أقول لكَ: “لا تبقَ وحيداً.” حسناً، اسمع. لياليّ، أنتَ تعرف أنّني أُمضي معظمها بالصلاة. إذا ما أحسستَ يوماً بالشجاعة لأن تكون رجلاً وبإرادة أن تكون لي، تعال إليّ بينما يكون رفاقكَ نياماً. فالنجوم، والزهور، والعصافير شهود حذرة وصالحة ومفعمة رحمة. ولقد انتاب النجوم الهلع أمام الجريمة التي تحصل تحت نورها، ولكن ليس لها صوت لتقول للناس: “هذا هو قايين أخيه.” هل أدركتَ يا يهوذا؟»

«نعم، يا معلّم. ولكن صدّقني: ليس بي سوى التعب والتأثّر. أنا أحبّكَ مِن كلّ قلبي و…»

«حسناً. يكفي.»

«هل تعطيني قُبلة، يا معلّم؟»

«نعم، يا يهوذا، وسأعطيكَ أخرى…»

يتنهّد يسوع بعمق، بعناء. ولكنّه يُقبّل يهوذا مِن خدّه. ثمّ يمسك بالرأس بين يديه ويضغط عليه على بعد عشرات السنتيمترات مِن وجهه، ويثبّته، يدرسه، ويخترقه بنظرته الساحرة. ويهوذا، هذا البائس، لا يهتزّ. يظلّ في الظاهر رابط الجأش تحت هذا الاختبار. يَشحب قليلاً فقط، ويُغلِق عينيه للحظة.

ويُقبّل يسوع جفنيه المنسدلين، ثمّ فمه، ثمّ قلبه، خافضاً رأسه ليجد قلب التلميذ… ويقول: «هاك: لطرد الغيوم، لجعلكَ تشعر بعذوبة يسوع، ولتقوية قلبكَ.» ثمّ يتركه ويتوجّه صوب البيت، يتبعه يهوذا.

«وصلتَ في الوقت المناسب، يا معلّم! كلّ شيء جاهز، لم نكن ننتظر غيركَ.» يقول بطرس.

«حسناً. كنتُ أتحدّث إلى يهوذا عن أمور كثيرة… أليس كذلك يا يهوذا؟ يجب الاهتمام بذاك العجوز المسكين الذي قُتِل ابنه.»

«آه!» يلتقط يهوذا المناسبة على الطاير ليُنجز الهدوء وتحويل ارتياب الآخرين، إذا ما وُجِد. «آه! هل تعلم يا معلّم؟ لقد أوقَفَنا اليوم جمع مِن الوثنيّين مُختلطين بيهود مِن مستعمرة رومانيّة مِن اليونان. كانوا يريدون معرفة أمور كثيرة. أجبنا بحسب إمكانيّاتنا. ولكنّنا لم نقنعهم بالتأكيد. ومع ذلك كانوا طيّبين وأعطونا مالاً كثيراً. ها هو، يا معلّم. سنتمكّن مِن فعل خير كثير.» ويضع يهوذا كيساً مِن جلد فاخر على الطاولة وبسقوطه يُصدِر صوتاً فضيّاً. إنّه كبير بحجم رأس طفل.

«حسناً، يا يهوذا. ستوزّع المال بعدل. ما الذي كان الوثنيّون يريدون معرفته؟»

«أشياء عن الحياة المستقبليّة… إذا كان للإنسان نَفْس، وإذا كانت خالدة. كانوا يعطوننا أسماء معلّميهم. أمّا نحن… فما الذي كان بإمكاننا قوله؟»

«كان عليكم القول لهم بأن يأتوا.»

«لقد قلنا لهم ذلك. وقد يأتون.» ويستمرّ الطعام.

يسوع وإلى جانبه يهوذا يُناوله الخبز المغمَّس في الصلصة الموجودة في طبق اللحم المشويّ. أثناء تناولهم الزيتون الأسود الصغير، يَسمَعون طرقاً على الباب. بعد قليل تَدخل ربّة البيت وتقول: «يا معلّم، يريدونكَ أنتَ.»

«مَن يكونون؟»

«غرباء.»

«ولكن مستحيل!» «المعلّم تَعِب!» «لقد قضى النهار كلّه في المسير والتحدّث!» «ومن ثمّ وثنيّون في البيت! كفى!» الاثنا عشر في هياج كسرب مِن النحل بعد إزعاجه.

«صه! هدوءاً! الاستماع إلى الذين يبحثون عنّي ليس تَعَباً بالنسبة إليّ. في ذلك راحتي

«قد يكون فخّاً في هذه الساعة!…»

«لا. ليس فخّاً. كونوا في سكون وارتاحوا. أنا قد استرحت أثناء انتظاركم. أنا ماضٍ إليهم. لا أطلب منكم المجيء معي… رغم أنّ… رغم أنّني أقولها لكم: بالضبط وسط الوثنيّين عليكم حمل يهوديّتكم التي ستصبح أكثر مِن مسيحيّة. انتظروني هنا.»

«هل ستذهب إليهم وحدكَ؟ آه! أبداً لن يكون هذا!» يقول بطرس الذي ينهض.

«ابقَ مكانكَ. أذهب وحدي.»

يَخرُج. يَحضُر إلى الباب المؤدّي إلى الشارع. في الشفق، مجموعة مِن الرجال ينتظرون.

«ليكن السلام معكم. هل تريدون رؤيتي؟»

«سلاماً، يا معلّم!» الذي يتكلّم عجوز مهيب يتدثّر رداء رومانيّاً يتجاوز معطفاً قصيراً مدوّراً مع قبّعة مرفوعة على الرأس. «لقد تحدّثنا اليوم إلى تلاميذك، ولكنّهم لم يتمكّنوا من إعطائنا إجابات كثيرة. فنودّ التحدّث إليكَ.»

«أأنتم الذين تبرّعتم بصدقة غنيّة؟ شكراً بالنيابة عن فقراء الله.» ويتوجّه يسوع إلى ربّة البيت بالقول: «يا امرأة، أنا خارج معهم. قولي لأصدقائي أن يأتوا للقائي قرب النهر، ذلك أنّي أرى جيّداً أنّهم تجّار المخازن…»…

ويَخرُج الجميع معاً إلى الطريق المضاءة بنور جميل مِن القمر.

«أأنتم آتون مِن بعيد؟» يسوع في وسط الجمع، وإلى جانبه العجوز الذي تكلّم أوّلاً، عجوز جميل ذو مظهر لاتينيّ صاف. وفي الجانب الآخر عجوز آخر معمّر إلى حدّ ما، بوجه عبرانيّ صرف، ثم حولهم اثنان أو ثلاثة نحيلو القامة زيتونيّو الصبغة، ذوو عيون متيقّظة وساخرة قليلاً، وآخرون أكثر صلابة بأعمار متفاوتة. حوالي العشرة أشخاص.

«نحن مِن مستعمرات رومانيّة في اليونان وآسيا. قسم منّا يهود والقسم الآخر وثنيّون… وبسبب ذلك لم نكن نجرؤ على المجيء… ولكن تأكَّدَ لنا أنّكَ لا تحتقر الوثنيّين… كما يفعل الآخرون… أقصد اليهود الموَسْوَسين، الإسرائيليّين، فهناك يهود في أماكن أخرى كذلك… أقلّ صرامة. فأنا زوجتي يهوديّة مِن ليقونيا، بينما هو زوجته رومانيّة وهو يهوديّ مِن أفسس.»

«أنا لا أحتقر أحداً، إنّما يجب التسامح مع الذين لا يعلمون بعد أن يفكّروا بأنّ: كون الخالق واحداً، فكلّ الناس مِن الدم ذاته

«نحن نعلم أنّك عظيم بين الفلاسفة. وما تقوله يؤكّد أنّكَ عظيم وصالح.»

«الصالح هو مَن يفعل الخير، وليس مَن يجيد الكلام

«تجيد الكلام وتجيد التصرّف. فأنتَ إذن صالح.»

«ما الذي تودّون معرفته عنّي؟»

«اليوم، يا معلّم، اعذرنا إذا ما كنّا نُتعِبكَ بفضولنا. إنّما هناك فضول جيّد لأنّه يبحث عن الحقيقة… كنّا نرغب اليوم أن نعرف مِن أصحابكَ الحقيقة عن مذهب وَضَعَ صيغته الأوّلية فلاسفة مِن اليونان القديمة، وأنتَ، كما قيل لنا، عُدتَ تُعلّمه بصيغة أرحب وأحلى. لقد تحدَّثَت زوجتي أونيك مع يهود سمعوكَ، وقد ردَّدَت لي ذاك الكلام. وكما تعلم، فإنّ أونيك اليونانيّة مثقّفة، وهي تعرف كلام حكماء وطنها. لقد وَجَدَت تقابلات بين كلامكَ وكلام فيلسوف يونانيّ عظيم، بل حتّى إنّ كلامكَ الذي قلتَه وَصَلَ إلى أفسس. كذلك بوصول البعض إلى هذا المرفأ للتجارة وآخرين للطقوس، فقد عدنا لنلتقي كأصدقاء ونتحدّث. الأعمال لا تمنع مِن التفكير كذلك بأمور أسمى. وبعد ملء المخازن وتحميل المراكب، لدينا الوقت لحلّ هذا الشكّ. أنتَ تقول إنّ النَّفْس خالدة. سقراط قال إنّها لا تموت. فهل معرفتك بهذا الكلام مِن المعلّم اليونانيّ؟»

«لا. لم أدرس في مدارس روما وأثينا، إنّما تكلّم. أفهمكَ مع ذلك. لست أجهل فِكر الفيلسوف اليونانيّ.»

«سقراط، على خلاف ما نؤمن به، نحن الذين مِن روما، وكذلك على خلاف ما يؤمن به صدّوقيّوكم، يَقبَل ويَدعَم فكرة أنّ للإنسان نفساً وهي لا تموت. وهو يقول، بما أنّ النَّفْس هي هكذا، فما الموت بالنسبة إليها سوى تحرّر وعبور مِن سجن إلى مكان حرّية، حيث تلتقي بالذين أحبّتهم، وهناك تتعرّف على الحكماء، من خلال الفكر الذي سَمِعَته عنهم، والعظماء والأبطال والشعراء، ولا تجد هناك ظلماً ولا ألماً، بل سعادة أبديّة في مقام سلام، منفتحة على نفوس غير قابلة الموت عاشت باستقامة. وأنتَ، يا معلّم ماذا تقول؟»

«الحقّ أقول لك إنّ المعلّم اليونانيّ، رغم كونه في ضلال ديانة ليست حقيقيّة، كان محقّاً في قوله إنّ النَّفْس لا تموت. وبسعيه وراء الحقيقة وممارسته الفضيلة، كان يشعر في قرارة روحه بصوت الإله المجهول يهمس، صوت الإله الحقّ، الإله الواحد: الله تعالى، مِن حيث أنا آت لأقود الناس إلى الحقّ. للإنسان نَفْس، نَفْس حقيقيّة، خالدة، مولاة، قادرة على استحقاق المكافأة أو العقاب. خاصّة به وحده، خَلَقَها الله، ومُعدَّة في فِكر الخالق للعودة إلى الله. أنتم، الوثنيّين، تنصرفون كثيراً إلى عبادة الجسد، وهو في الحقيقة عمل رائع، عليه علامة الإبهام الأزليّ. أنتم تُعجَبون كثيراً بالفكر، الجوهرة المخبّأة في علبة المجوهرات التي هي رأسكم وتتدفّق منه إشعاعات سنيّة. عطيّة عظيمة، عطيّة سامية مِن الله الخالق الذي كوَّنَكم بحسب فكره وبما يتلاءم معه، وإذن هو عمل كامل أعضاء وأجهزة، ومَنَحَكم الشَّبَه بفكره وروحه. وأمّا كمال الشَّبَه فهو في الروح. ذلك أنّ الله لا أعضاء ولا عتمة الجسد له، كما لا أحاسيس ولا بؤرة الفسق له، ولكنه روح كلّيّ الطهر، أزليّ، كامل، غير متبدّل، لا يعرف التعب في أدائه، متجدّد بغير انقطاع في أعماله التي يكيّفها أبويّاً مع طريق ارتقاء خليقته. الروح، المخلوق لكلّ الناس مِن منبع واحد للقدرة والصلاح، لا اختلاف فيه في الكمال الأصليّ. ليس هناك سوى روح واحد غير مخلوق، كامل ودائم الكمال. وهناك أرواح ثلاثة مخلوقة كاملة…»

«أنتَ أحدها، يا معلّم.»

«لست أنا. فأنا، في جسدي، لي الروح الذي لم يُخلَق، إنّما الذي وُلِد مِن الآب، بفيض مِن الحب

«مَن إذن؟»

«الأبوان الأوّلان مِن حيث أتت السُّلالة، وقد خُلِقا كامِلَين ومن ثمّ سقطا، بإرادتهما، في النقيصة. والثالث، هو المخلوق لفرح الله والكون، أرفع كثيراً من إمكانيّات الفكر وإيمان عالم اليوم حتّى أشير به لكم. الأرواح، كما كنتُ أقول، المخلوقة، المنبعثة مِن منبع واحد بمستوى كمال متساوٍ، يطرأ عليها بعدئذ، بحسب إرادتها واستحقاقها، تحوّل مضاعف.»

«إذاً فأنتَ تُسلّم بحياة ثانية؟»

«ليس هناك سوى حياة واحدة. فيها، النَّفْس التي حازت على التشبّه المبدئيّ بالله، تنتقل، بفضل العدل الممارَس بأمانة في كلّ شيء، إلى تشبّه أكمل، أقول إلى خلق ثان بذاتها، به تَنتَقِل إلى تشبّه مضاعف بالخالق، بأن تصبح أهلاً لامتلاك القداسة التي هي كمال الاستقامة وتَشبّه الابن بابيه. وهذه هي لدى المغبوطين، أي الذين يقول عنهم سقراط إنّهم يسكنون الهادس. ولكنّي أقول لكم إنّ الحكمة ستكون قد قالت كلامها وأيّدته بالدم، فسيكونون مغبوطي الجنّة، الملكوت، أي مغبوطي الله.»

«وأين هم الآن؟»

«في الانتظار.»

«انتظار ماذا؟»

«التضحية، الغفران، والتحرير

«يقال إنّ ماسيّا سيكون الفادي، وإنّه أنتَ… صحيح؟»

«حقّاً. أنا هو، أنا الذي أكلّمكم.»

«إذن، ينبغي لكَ أن تموت؟ لماذا يا معلّم؟ العالم بأمسّ الحاجة إلى النور، وتريد أن تتركه؟»

«أأنتَ، اليونانيّ، تسألني عن ذلك؟ أنتَ، الذي تتملّككَ كلمات سقراط؟»

«يا معلّم، لقد كان سقراط إنساناً مستقيماً. أمّا أنتَ فقدّيس. انظر إلى حاجة الأرض إلى القداسة.»

«ستتضاعف قدرتها إلى عشرة آلاف مرّة في كلّ ألم، في كلّ جرح، في كلّ قطرة دم.»

«بحقّ جوبيتير! ما مِن شديد عزم أعظم منكَ، أنتَ الذي لا تقتصر على احتقار الحياة، بل أنتَ على استعداد للتخلّص منها.»

«أنا لا أحتقر الحياة. بل أنا أحبّها كأكثر الأشياء نفعاً لشراء خلاص العالم.»

«ولكنّكَ، يا معلّم، ما زلتَ صغيراً على الموت.»

«فيلسوفك قال إنّ القدّيس عزيز على قلب الآلهة، وأنتَ دعوتني قدّيساً. إذا كنتُ قدّيساً، فينبغي لي أن أتعطّش للعودة إلى القداسة التي أتيتُ منها. وبالنتيجة، فالمرء ليس أبداً صغيراً كفاية كي لا يكون له هذا التعطّش. يقول سقراط كذلك إنّ القدّيس يحبّ فعل الأمور التي تطيب للآلهة. وأيّ أمر أحبُّ إلى الآب مِن عودة الأبناء الـمُبعَدين بسبب الخطيئة إلى أحضانه، ومنح الإنسان السلام مع الله، نبع كلّ خير؟»

«أنتَ تقول بأنّكَ لا تعرف أقوال سقراط. فكيف إذن تعرف ما تقوله؟»

«أنا أعرف كلّ شيء. ففكر الناس، طالما هو فِكر صالح، فهو ليس سوى انعكاس لواحدة مِن أفكاري. وما هو غير صالح فهو ليس منّي، ولكنّني قرأتُه في توالي الأزمنة، وقد عرفتُ، أعرف، وسأعرف متى قيل ذلك، يقال، وسيقال. أنا، أعلم.»

«يا سيّد، تعال إلى روما، منارة العالم. هنا الحقد يحيط بكَ. أمّا هناك فسيحيط بكَ الإجلال.»

هذا سيحيط بالإنسان، وليس بمعلّم ما هو فائق الطبيعة. وأنا أتيتُ لما هو فائق الطبيعة. ينبغي لي حمله إلى أبناء شعب الله، حتّى ولو كانوا الأقسى مع الكلمة.»

«روما وأثينا لن يحصلا عليكَ إذن؟»

«سيحصلان عليّ، لا تخافوا. سيحصلان عليّ. فكلّ الذين سيريدونني سيحصلون عليّ

«ولكنّهم سيقتلونكَ…»

«الروح غير قابل للموت. روح كلّ إنسان، أفلا يكون ذلك لروحي، روح ابن الله؟ سآتي بروحي الذي يعمل… سآتي… أرى الجموع التي لا تُعَدّ، والبيوت التي ستشاد على اسمي… أنا في كلّ مكان… سأتكلّم في الكنائس وفي القلوب… فكرازتي لن تعرف الراحة… الإنجيل سيجوب الأرض… كلّ الصالحين إليّ… وأعبر إلى رأس جيش قدّيسيّ وأقودهم إلى السماء. تعالوا إلى الحقّ…»

«آه! يا سيّد! نفسنا مغلّفة بالصيغ والأخطاء. فكيف العمل لنفتح لها الأبواب؟»

«أنا، سأحلّ أبواب الجحيم. وسأفتح أبواب هادسكم ويمبسي. وألن أستطيع فتح أبوابكم؟ قولوا: “أريد” وكمزلاج مصنوع مِن أجنحة فراشة، ستتحوّل إلى غبار بمرور شعاعي.»

«مَن سيأتي باسمكَ؟»

«أترون هذا الرجل القادم مع آخر يكبر المراهق قليلاً؟ سيأتيان إلى روما وإلى الأرض كلّها. ومعهما كثيرون. مُسارِعين، كما الآن، بسبب حبّي الذي يدفعهم ويجعلهم لا يعرفون الراحة إلاّ إلى جانبي، سيأتون، بحبّ الذين افتُدوا بتضحيتي، للبحث عنكم، وجمعكم، وقيادكم إلى النور. بطرس! يوحنّا! تعاليا. لقد انتهيتُ، على ما أظنّ، وأنا لكم. هل لديكم ما تقولونه لي؟»

«ما مِن شيء آخر، يا معلّم. نمضي مُصطَحِبين معنا كلامكَ.»

«فلتنبت فيكم وتنمو بجذور أبديّة. امضوا وليكن السلام معكم.»

وتنتهي الرؤيا…

***

ولكنّ يسوع يقول أيضاً: «أأنتِ مُنهَكة؟ إملاء ثقيل، إملاء أكثر منه رؤيا. ولكنّه عَرض يرغبه الكثيرون. مَن؟ ستعرفين ذلك في يومي. الآن اذهبي بسلام أنتِ كذلك.»

أُضيف من عندي أنّ حوار يسوع مع الوثنيّين حَصَلَ على طول رصيف بلدة ساحليّة. جليّة هي على ضوء القمر الأمواج الساكنة التي كانت تأتي لتموت مع ارتدادها على أرصفة العقبة التي تتقدّم مرفأ كبيراً مليئاً بالمراكب. لم أتمكّن مِن الحديث عنه سابقاً لأن الجمع لم يكفّ عن الكلام، ولو كنتُ لأصف المكان لكنتُ فقدتُ مجرى الكلام. كانوا يتكلّمون ذهاباً وإياباً على جزء من الشاطئ، جانب المرفأ. الطريق منعزلة، ذلك أنّ لا مارّة فيها، والبحّارة قد عادوا جميعهم إلى مراكبهم التي تُرى مصابيحها الحمراء تشعّ في الليل كنجوم مِن ياقوت. لست أدري أيّة بلدة هي. هي بالتأكيد جميلة وهامّة.

***

قصيدة الإنسان – الإله / ماريا فالتورتا
Il Poema Dell’ Uomo-Dio / Maria Valtorta
The Poem Of The Man-God

بالفرنسية: (الإنجيل كما أوحي به إليّ) L’Évangile tel qu’il m’a été révélé

ترجمه إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح… 

شكر خاص من موقع “Agoraleaks.ocm” لِ فيكتور مصلح.. يمكن قراءة كتب ماريا فاتورتا مجاناً بالضغط على الرابط (هنا)