أخيراً، وجد رئيس حزب القوات سمير جعجع فرصةً سانحة في التصعيد السعودي ــ الإسرائيلي الأخير ضد لبنان، لتحقيق «منامات» لم تتحقّق في الحرب اللبنانية، ولا بعد 2005. عَرْض جعجع الجديد/ القديم: 10 آلاف قواتي جاهزون لقتال حزب الله، في مواجهة جبهة لبنانية متماسكة، يقودها الرئيسان ميشال عون ونبيه برّي، ويحميها الجيش اللبناني
فراس الشوفي-
لعقود مضت، بقيت قصة الواوي «أبو زهرة» و«عظمة اليَدَس» تراثاً شعبيّاً تنقله الجدّات لأحفادهنّ في بلاد جبيل والبترون. الحكاية عن واوٍ جرديّ كهل قرّر «التوبة» عن أكل الدجاج، بعد أن لَوَّع قرى الفلّاحين بغزواته «للأقنان»، فعلّق في رقبته سلسلةً من الجلد، تتدلّى منها «عظمة يَدَس» (الترقوة، تشبه الحرف اللاتيني «V») تعود لإحدى ضحاياه، علامةً على توبته.
وبعد مدّة نجح «أبو زهرة» في إقناع مجموعة من الدجاجات بتوبته، حتى عطفت عليه وأدخلته معها إلى القنّ كي ينعم بالدفء. امتحانٌ صعب لقاتل محترف أن ينام قرب ضحاياه. بين رائحة الدجاج والريش التي تزكم أنفه، وتوبته، غلب طبع الواوي على تطبّعه. انهال على الدجاجات وفراخها خنقاً، ضحيّةً تلو الأخرى، حتى وقعت الدجاجة الأكبر بين يديه. «أيها الكذوب الجبان»، صرخت المخدوعة، فردّ أبو زهرة فاتحاً فاه وأنيابه ظاهرة: «أنا لم أصدّق توبتي، فكيف صدّقتم؟!».
بالطبع، لا اللبنانيون دجاجات في قنّ، ولا رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع «أبو زهرة». إلّا أن الأمثال تُضرب ولا تقاس، وبعض «التوّابين» تنتهي صلاحية توبتهم مع أوّل بابٍ لـ«الخطيئة».
منذ خروجه من السجن في 2005 بعفوٍ عام، وجعجع ينتظر فرصةً مناسبة لتحقيق أحلامٍ هي أقرب إلى «منامات»، لم تتحّقق منذ عام 1979. انتظرها «الحكيم» في حرب تمّوز 2006، ولم تأتِ. ثمّ قَعَدَ يستعدّ لها بعد عامين في أيار 2008، عدّةً وعديداً. لكنّ زَبَد الانقلاب تلاشى. ومع ذلك، لم يتردّد جعجع في إبلاغ السفيرة الأميركية في بيروت في ذلك الحين، ميشال سيسون، عن استعداده لتحريك 7000 إلى 10000 مقاتل مدرّب من القوات اللبنانية لمواجهة حزب الله وحلفائه، طالباً من الأميركيين مدّه بالسلاح عن طريق البحر، على ما أكّدت سيسون في برقية رفعتها إلى إدارتها بتاريخ 9 أيار 2008 (تحمل الرقم «08BEIRUT642»، موجودة على موقع «ويكيليكس»). وتختم سيسون برقيتها بالاشارة الى تأكيد جعجع قدرته على تأمين 5000 مقاتل إضافي، مع طلب تأمين السلاح اللازم. «خطيئة» عَلِقَت في روح «الحكيم» لم تجد طريقها إلى الواقع، ربّما بسبب شفاعة القديسين بالمسيحيين واللبنانيين، أو لأن الأميركيين يعملون وفق المصالح لا الأهواء. فلا السلاح أتى من البحر، ولا كان بالإمكان قلب المعادلة.
يعوّل جعجع على تعرّض حزب الله وعون لضغوط كبرى قد تصل حدّ العمل العسكري الإسرائيلي ضد لبنان
مرّت السنوات وتكرّرت «المنامات» في كل ليلٍ من ليالي الحرب السورية، فكرّر جعجع عروضه لمدير المخابرات السعودي السابق بندر بن سلطان، وصَدَّق بندر الرواية. لكنّ جنود جعجع تخلّفوا عن الميدان، ولم يقم أحدٌ بقلب المعادلة العسكرية في الداخل اللبناني على وقع الحرب السورية، بل حصل العكس.
ثمّ أتى التصعيد السعودي الأخير، وتُوِّجَ بإجبار الرئيس سعد الحريري على إعلان استقالته من الرياض، فرأى جعجع «المنام» نفسه مجدّداً؛ الفرصة سانحة، وباب «الخطيئة» فُتح.
وللأمانة، جعجع محقّ، فالظروف «النظريّة» لقلب المعادلة اللبنانية جاهزة: سوريا أنهكتها الحرب، تقارب علني إسرائيلي ــ سعودي أشبه بالحلف (قال جعجع إنه قطع علاقاته مع إسرائيل، عام 1986، واستعاض عنها بعلاقة مع الأمير مقرن بن عبد العزيز)، النزعات الطائفية والمذهبية في المنطقة على أشدّها. رأى جعجع في «المنام» الأخير الحريري يقدّم استقالته بذريعة تعاظم نفوذ إيران وحزب الله، فينتفض شارع «تيار المستقبل» وجزء من النازحين السوريين لينجرّ حزب الله إلى الداخل، وتكون الفتنة. ثم تبدأ إسرائيل عدواناً جويّاً وبريّاً على لبنان، وينهمك حزب الله بالحرب على أكثر من جبهة. يسيطر بعدها متطرّفو «ربطات العنق» على طرابلس، وتتحرّك جحافل «الحكيم» لفصل جبل لبنان الشمالي عن البقاع وبيروت والشمال، للسيطرة على المناطق المسيحيّة. والأخيرة خطّتها جاهزة ودائمة، وسبق أن نُفِّذَت «بروفات» فاشلة منها (إحداها يوم قال جعجع للعماد ميشال عون، في 1989، «الجنرال بيمون»، وكانت النتيجة أن شنّ حرباً على الجيش)، وهي تبدأ بقطع الطريق البحرية لجبل لبنان عن الشمال، ولا تنتهي بحملة «تحييد» لمجموعات «المزعجين» في ساحل المتن والكورة.
قبيل زيارته الأخيرة للمملكة السعودية، عاد «الحكيم» بانطباعات مهمّة، وضع المقرّبين منه في جزء منها، لا سيّما مستشاره الأمني ويده اليمنى إ. ب.، وهي أن السعودية وإسرائيل ذاهبتان إلى تصعيد كبير في لبنان، ولن تقبلا بأن يبقى الوضع على ما هو عليه. و بحسب «أجواء» جعجع، فإن حزب الله والرئيس عون سيواجهان ضغوطاً كبيرة، اقتصادية وأمنية وسياسية، تدفع بالحريري إلى الاستقالة، على أن تتصاعد الضغوط على وقع التفاعل مع التطوّرات، وصولاً إلى قيام إسرائيل بعملٍ عسكري مموّل سعودياً لضرب أهداف حزب الله في الجنوب السوري والقلمون وأهداف رئيسية في لبنان، وقد تتدحرج الحرب لتشمل اجتياحاً بريّاً. إلّا أن عرض «جعجع» الدائم، للتحرك العسكري والأمني مقابل الدعم المالي واللوجستي والتسليحي، كان حاضراً أيضاً، حتى قبل زيارته السعودية بنحو شهر. وهو بالفعل كرّر عروضه للسعوديين بجاهزية 10 آلاف مقاتل من القوّات للتحرّك ضد حزب الله، على ما يؤكّد مصدر أمني لبناني رفيع المستوى. غير أن حديث جعجع عشيّة استقالة الحريري أمام حلقته الضيّقة، عن معرفته المسبقة بموعد الاستقالة، مبالغٌ فيه، إذ إن محمد بن سلمان، ولو أنه يعوّل على دورٍ ما لقائد القوات، لن يضع سرّاً من هذا النوع بين يديه. تماماً كما يستحيل على ابن سلمان، إذا كان لديه الحدّ الأدنى من المعرفة العسكرية بالواقع اللبناني، أن يقتنع بقدرة جعجع على جمع 10 آلاف قواتي جاهزين لحمل السلاح، ليصطدموا أوّلاً بالجيش اللبناني والأجهزة الأمنية، بعيداً عن حزب الله، علماً بأن ب. ج.، الملقّب بـ«بيار»، يعمل بتوجيهات الحكيم على تدريب عددٍ من طلاب القوات في معراب على حمل السلاح.
و«بيار»، إلى جانب زملائه د. ع.، وش. أ. ع.، وف. أ. ر. في الجهاز الأمني القواتي، زادوا من نشاطهم في الأشهر الأخيرة، لناحية التدريب وجمع الذخائر من سوق السلاح السوداء، بالتوازي مع إعادة «الحكيم» التواصل مع عددٍ من كوادر «الصدم»، ولو أن بين هؤلاء من يراه جعجع «مخروقاً»، لعلاقتهم المستمرة مع حنا عتيق.
ويمكن القول إن «منام» جعجع سينتهي في أفضل أحواله على «كابوس»، اسمه قرار بحماية الاستقرار يقوده الجيش اللبناني، وتضامن لبناني كبير عبّر عنه عون والرئيس نبيه برّي ووعي قيادة المستقبل. انفراد جعجع، إلى جانب اللواء أشرف ريفي، بالمطالبة بالقبول باستقالة الحريري، التي بدا الحريري نفسه في مقابلته أول من أمس جاهزاً للعودة عنها، شكّلت ضربة قاصمة لتحالف المستقبل ــ القوات مع شعور المستقبليين بالتآمر عليهم (بصرف النظر عمّا إذا كانت السعودية ستفرض على الحريري هذا التحالف مستقبلاً)، كما هي الحال مع «ورقة إعلان النوايا» مع التيار الوطني الحرّ، الذي يحرص مع الآخرين في البلاد على منع هدر دم اللبنانيين، والمسيحيين تحديداً، كرمى لعيون أحد.
في أوائل صيف عام 1991، اتصل الرئيس الياس الهراوي بجعجع، «موبّخاً إياه بقسوة زحلاوية»، كما يقول فارس خشّان في كتابه «عمود الملح» (الصفحة 83، الطبعة الأولى كانون الثاني 1999)، بعد أن علم الهراوي بأن غسان توما (رئيس جهاز الأمن السابق في القوات) يجمع معلومات أمنية عن المقرّ الرئاسي المؤقت في الرملة البيضاء وعن مكتب الرئيس وقاعة مجلس الوزراء (تعود ملكية البناء للرئيس رفيق الحريري). وحين ردّ جعجع باتصال لاحق بأن توما قام بمبادرة شخصيّة منه لاستطلاع المقرّ من ضمن إجراءات حماية جعجع الذي ينوي زيارة المقرّ، استمر الهراوي على قسوته وقال ما حرفيّته: «هنا مقرّ الرئيس وليس ملعباً بلديّاً. وبدل التلهّي بتجميع المعلومات الأمنية، تفضّل والتحق جديّاً بالشرعية، فهذا أفضل لك ولشبابك وللبنان، وإيّاك أن تنجرف إلى المحظور».
-الأخبار-