شكل حوض الفرات حاضناً للتاريخ المسيحي منذ بدايات الوجود المسيحي في المنطقة الشرقية، وخاصة أنها تقع في منطقة جغرافية تشكل معبراً للقوافل التجارية والحملات العسكرية وانتشارا لمختلف الاديان، ومع اشتداد الحرب في سورية أصبح الوجود المسيحي مهدداً الزوال في شكل كامل، في البشر والحجر، فإما أن يكون هناك تنظيم لعودة المسيحيين إلى دير الزور والرقة بعد انتهاء المعارك، أو يكون وجودهم مجرد تاريخ على وجه مياه الفرات من دون أي فاعلية.
العلاقة الوجدانية بين الأرمن ودير الزور
يتوجه الارمن من كل عام لإحياء ذكرى المجزرة العثمانية بحقهم إلى دير الزور، حيث شكلت الوجهة النهائية للهاربين من المذبحة، وتعتبر وجهة حج لوجود كنيسة شهداء الارمن التي تحوي رفات العديد من شهداء تلك المرحلة. فقد بني داخل الكنيسة عامودٌ يخترق منتصف الكنيسة وهو عامود الانبعاث الذي يضم تحته رفات العديد من الشهداء من مختلف المناطق في المنطقة الشرقية، وبعد أن تتم زيارة الكنيسة يتوجه الحجاج إلى جبل مرقدة، اي الرقود السرمدي، والجبل هو عبارة عن هضبة يصفها الارمن بأنك حيثما حركت يديك سوف تجد عظاماً، وهي تعود إلى أجدادهم منذ المجزرة حيث تم تصفية المئات منهم.
توزع المسيحيون في المدينة في أحياء القصور والرشدية بشكل أساسي وهم من طوائف السريان والارمن والكلدان، ويوجد في المدينة مقراً للبعثة الدبلوماسية الأرمنية الثالثة في سوريا وتوجد فيها القنصلية الفخرية لجمهورية أرمينيا، وتضم اربع كنائس: كنيسة يسوع الملك للآباء الكبوشيين وكنيسة السيدة مريم العذراء للسريان الارثوذكس وكنيسة شهداء الارمن للارمن الارثوذكس وكنيسة الارمن الكاثوليك.
هذه الرمزية لدير الزور على المستوى المسيحي لها أهميتها على المستوى التاريخي. لكن في الحاضر أيضاً كان لنصيب المدينة التي احتضنت الهاربين من المذابح، أن تتحول إلى منطلق للهروب منها وخاصة بعد الحصار المفروض من تنظيم “داعش”، والذي قام بتغيير اسمها إلى ولاية الخير، حيث أصبح المسيحيون فيها مهددين بوجودهم، خاصةً وأنهم هم لا يشكلون 1% من عدد السكان. ومع تمادي التنظيم في استهدافه للمدينة كان للمسيحيين نصيبهم من تدمير كنائسهم، فتبنى التنظيم تدمير كنيسة شهداء الارمن في حي الرشدية، كما تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي فيديو لمجموعة مسلحة قامت بسرقة مقتنيات من إحدى الكنائس.
وتوجه معظم الهاربين من دير الزور إلى محافظة الحسكة وحلب، نتيجة القرب الجغرافي منها، ومنهم من توجه إلى دمشق، بحيث أصبح الوجود المسيحي نادراً داخل الاحياء مما يشكل مؤشراً لزوال الوجود المسيحي فيها إن لم يتم العمل على عودة من هاجروا منها، ويعد السبب الرئيسي للهجرة هو التهديد من قبل تنظيم داعش، وبعد البدء بعودة سيطرة الدولة السورية عليها يبقى الامر مرتبط بعودة الحياة الإقتصادية والإجتماعية والأمنية إلى حالتها المستقرة.
الرقة: عودة الجزية على المسيحيين
يكفي أن تكون الرقة عاصمة تنظيم داعش في سورية حتى يدرك المتابع الاوضاع المأساوية التي يتعرض له المسيحيون فيها. فقد قام التنظيم بإصدار أحكام وقوانين بحق المسيحيين، وقد عرفت هذه القوانين باسم “عقد الذمة في الشام بين الدولة الإسلامية ونصارى ولاية الرقة “، ويضم هذا العقد سلسلة من القوانين والاحكام اصدرها في شهر شباط من العام 2014، يفرض على المسيحيين الالتزام بها، أو يتم إنزال العقوبة عليهم، وجاءت هذه الوثيقة في شكل سبعة بنودٍ على الشكل التالي:
اولاً- يلتزم النصارى بدفع جزية عن كل ذكرٍ منهم، مقدارها أربعة دنانير من الذهب على أهل الغنى، ونصف ذلك على متوسطي الحال، ونصفها على الفقراء.
ثانياً- ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب منها.
ثالثاً- ألا يظهروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين او أسواقهم، ولا يستعملوا مكبرات الصوت عند أداء صلواتهم وكذلك سائر عبادهم.
رابعاً- ألا يُسمِعوا المسلمين تلاوة كتبهم وأصوات نواقيسهم، ويضربونها داخل كنائسهم.
خامساً- ألا يقوموا بأي أعمال عدوانية تجاه الدولة الاسلامية.
سادساً- ألا يمنعوا أحداً من النصارى من اعتناق الاسلام اذا هو أراد ذلك.
سابعاً- ألا يتاجروا ببيع الخنازير أو الخمور مع المسلمين أو في اسواقهم، ولا يشربوها علانيةً.
وعاد التنظيم بأسلوب إدارته إلى العصور الاولى، حيث عاد وفرض الجزية على المسيحين في المدينة على الذكور، من كان عاطلا عن العمل يدفع مبلغ 25 ألف ليرة سورية، و50 ألفاً للعامل، ومئة ألف لأصحاب الأملاك والمحال التجارية، وفي حال تخلفت إحدى العائلات عن الدفع سيتم طردها خارج المدينة والاستيلاء على ممتلكاتها.
المحافظة كانت تضم أربعة كنائس، اثنتان في المدينة هما سيدة البشارة والشهداء، واثنتان في الريف وهما، كنيسة القديسين الشهيدين سرجيوس وباخوس في مدينة الطبقة، وكنيسةٌ في مدينة تلّ أبيض. وحين قام عدد من عناصر التنظيم بالدخول إلى كنيسة البشارة وكنيسة الشهداء في مدينة الرقة، وكسروا الصلبان والمحتويات ورفعوا فوقها رايات التنظيم وقاموا بإغلاق النوافذ بالوشاح الاسواد كدليل على امتلاكها من قبل عائلات التنظيم.
أما الآن فالأنظار تتجه إلى الرقة التي تشكل وجهة سباق بين الجيش السوري وحلفاءه الروس والايرانيين من جهة، وقوات التحالف الدولي وحليفتها على الارض قوات سورية الديمقراطية من جهة ثانية.
وهنا الترقب عما إذا كان الوجود المسيحي سيزول نهائياً من تلك المنطقة أم أنه سيزول أيضاً، والأشهر القادمة ستكون مؤشراً إلى هذا الأمر.
صحافي سوري
المصدر: اليوم الثالث
لقراءة الخبر من المصدر (إضغط هنا)