– معضلة الدولة والدستور الضامنة للمواطنة، ليست بمشكلة مسيحية فحسب، إنها مشكلة مسلمي لبنان وجميع العرب. (اليوم الثالث)
لربما لم يكن معنى “الرئيس القوي” قد توضَّح تماماً، حتى اللحظة التي أطلَّ فيها رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون ليعلن قراره تأجيل انعقاد جلسة للمجلس النيابي كانت مقررة لتمديد ثالث، ويفتح الطريق أمام إعادة البحث في قانون الإنتخاب.
إنها المرة الأولى منذ تأسيس لبنان الكبير، التي يستخدم فيها رئيس للجمهورية المادة 59 التي تخوله تأجيل انعقاد المجلس لمرة واحدة خلال عقد المجلس. للقرار صداه الذي تردد في أرجاء لبنان قاطبةً. إنها قوة الرئيس وليس فقط صلاحيات الرئاسة، يقول مؤيدو عون وأركانه، وهذا هو المقصود بمعنى الرئيس “القوي”، أي ذلك الذي يحافظ على الدستور، لكن بالإستناد إلى قوة شعبية في مكونه، وفي المذاهب اللبنانية.
فهل عاد الإنتظام إلى عمل المؤسسات الدستورية، من بوابة عودة الدور المسيحي الفاعل في النظام اللبناني؟
منذ التحولات الدولية والإقليمية في نهاية الثمانينات واقتتال القوى المسيحية فيما بينها، دخل مسيحيو لبنان في نفق من انعدام الدور الفاعل في ظل السيطرة السورية. كانوا يراهنون على أن انسحاب الجيش السوري ومخابراته ستؤدي إلى عودة تلقائية لدورهم السياسي، في نظام المشاركة الطائفية. ويتذكر شباب التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية نقاشاتهم في الجامعات عن الأولوية، هل هي لرفع الهيمنة السورية على لبنان، أم هي للبحث في شكل النظام السياسي، خاصةً وأنَّ القوات كانت تعتبر تاريخياً من مؤيدي النظام الفدرالي/الإتحادي.
لكن الأحلام التي رفعتها التجمعات الوطنية في 14 آذار 2005، قضت عليها ممارسات القوى السياسية التي رعتها منظومة الطائف، من خلال المسارعة إلى “تحالف رباعي” في وجه الزعيم الأكثر شعبية آنذاك ميشال عون العائد من المنفى. اتضح أن “التحرير” لا يكفي لاستعادة “الدور”، حيث كان الهدف الصريح ابقاء على حجم زعامات إسلامية من خلال “الجيبة” المسيحية للمقاعد النيابية. ومنذ ذلك الحين، وعلى وقع انقسامات حادة وخاصة سنية – شيعية، بقي المسيحيون اللبنانيون يطالبون ب”المناصفة” و”الميثاقية”، أي بمنى آخر، مشاركة حقيقية في النظام السياسي لا مجرد ديكور كما كان معظم رؤساء الجمهورية والنواب والوزراء المسيحيون بعد الطائف.
إلى أن وصل ميشال عون بعد تمسكه الطويل بما يعتبره حقه الطبيعي كممثل للأكثرية المسيحية وفي ظل تحالفاته وتفاهماته العابرة للطوائف. يومها احتفل مسيحيو لبنان، في فرح حقيقي لم يشهدوه منذ عقود. كان يمكن للمراقب أن يلاحظ دموع الفرح النابعة من أعماقهم ومن وجدانهم الذي يريد أن يصل ممثلوه الحقيقيون إلى المواقع الدستورية التي يحق لهم بها.
لكن الجميع كان مقتنعاً أن ترسيخ الدور المسيحي السياسي في نظام مشاركة المجموعات الطائفية في السلطة، لا يمكن أن يستكمل إلا عبر قانون انتخابات عادل وتمثيلي. ودون هذا القانون المنشود طموحات ومشاريع القوى السياسية الرامية إلى الحفاظ على مواقعها، أو توسيعها. لكن الطموحات كبيرة وساحة المواقع صغيرة في بلد متعدد كلبنان، ما يجعل البلد بعد قرار عون أمام المحطة الأخيرة قبل إنجاز قانون جديد، يقولون إنه سيجمع القواسم المشتركة لكل الطروحات، بين النسبية والأكثرية، والتأهيل الطائفي للمرشحين.
والحقيقة أن واقع المسيحيين اللبنانيين هو واقع المشرق والعالم العربي ومرآته، عبر معضلتين:
الأولى، هي أن الدور الفاعل في المواطنة والنظام السياسي وتكريسه دستورياً، هو الضامن الأول لاستمرارية هذا الدور. ففي العراق اضمحلوا، في سوريا يقاومون الإرهاب التكفيري، في الأردن باقون بحماية العرش الهاشمي، أما في مصر فيتعرضون مع الشعب المصري كله لمؤامرة التهجير وتدمير الدولة.
المعضلة الثانية، هي معضلة الدولة والدستور الضامنين لحقوق جميع المواطنين. وهذه ليست بمشكلة مسيحية فحسب، بل إنها مشكلة مسلمي لبنان وجميع العرب. وبالتالي ما يجب أن يكون عليه معنى عودة الدور المسيحي الفاعل في النظام، هو حمل مشروع جامع لبناء الدولة الدستورية الناظمة لحقوق جميع المواطنين وواجباتهم، ضامنة الحريات وتنوع المجتمع والإعتراف بالآخر المختلف، الدولة العلمانية، كما سبق وأن رفع لواءه الرئيس عون.
واستطراداً، من دون هذا المشروع الحامي، سيبقى جحيم العرب والمسلمين مستعرّاً، والفتن تمزق مجتمعاتهم، وتبقى طريق الجلجلة طويلة…
فهل تكون خطوة “الرئيس القوي” في زمن الآلام، مؤشراً لقيامة المسيحيين وقيامة لبنان، وعنوان أملٍ للمشرق المصلوب؟
- رئيس تحرير موقع “اليوم الثالث”، صحافي ومنسق الأبحاث في “معهد الدراسات المستقبلية”.
المصدر: اليوم الثالث
لقراءة الخبر من الصدر (إضغط هنا)