بنت الأرض-
من يشاهد وثائقي الرئيس إيميل لحود على قناة الميادين، لا بدّ أن يشعر برغبةٍ أكيدة أن يطّلع على كلّ تاريخنا، من شاهد وراوٍ ومؤرّخ يسردون لنا الأحداث كما جرت تماماً بكلّ شفافية وجرأة كما هو الحال عليه في هذا الوثائقي. ولا بدّ أن يسترجع أيضاً العديد من محطاتنا التاريخية، ويتساءل كم من الحقيقة نمتلك عن تلك المحطات، وكم حجم الزيف الذي شكّل جزءاً قد لا يُستهان به مما كنّا نظنّ أنه معرفة أكيدة بماضينا، والأحداث التي عاصرها أو صنعها أسلافنا. لا شكّ أن الوقت ملائم جداً لمثل هذه السابقة المشكورة في تناول تاريخنا المعاصر؛ إذ بعد كلّ الذي جرى لهذه الأمة من ويلات الحروب الأجنبية التي يشنّها الأعداء مباشرة بجيوشهم الغازية أو بالوكالة، عن طريق العملاء والخونة من حكام وأعوان ومرتزقة وجهاديين وهابيين.. وبعد كلّ ذلك يتردّد السؤال على ألسنة أبناء الضاد: لماذا كلّ هذا الاستهداف لأمتنا؟ ولماذا كلّ هذا القتل والعدوان؟ ولماذا كلّ هذا اللجوء والنزوح من أبناء الضاد إلى أصقاع الأرض المختلفة؟ ولماذا نعيش الأحداث ذاتها عقداً بعد عقد، وربما قرناً بعد قرن، من دون أن نتمكن من إحداث تغيير جوهري وجذري ودائم في واقع الحال؟ علّ بعض الأجوبة التي يمكن لنا استنتاجها من وثائقي الرئيس إيميل لحّود هي أن هناك مشكلة في بعض الذين من المفترض أنهم حماة ورعاة لمصالح الشعب؛ إذ إنهم لا يرون في المسؤولية الوطنية سوى فرصة لمضاعفة الثروات للأولاد والأحفاد، وهم لا يرون تلك الجماهير المحتشدة التي تعلّق عليهم الآمال وتنتظر الفرج وتحسين الأوضاع من خلال السياسات الحكيمة والحريصة التي يتوقّعونها منهم. في المقابل هناك من يحمل آمال وأحلام وآمال الناس بين رموش عينيه، ويسهر عليها، كما فعل الرئيس إيميل لحّود، ولكنّه وبدلاً من أن يركّز على كيفية تحقيق هذه الآمال والأحلام، ما زال يخوض المعركة تلوَ الأخرى كي يدرأ الأخطار الجسيمة المحدقة بمصالح شعبه إذا ما تمكّن التيار المعادي لأمته أن يمضي بسياساته التي تخدم مصالح العدو المتربّص والغازي والمحتلّ عبر مصالحه الخاصة الضيقة مثل تراكم ثرواته على حساب لقمة العيش والصحة والتعليم لعامة الناس. وبغضّ النظر عن حجم الإنجاز الكبير الذي حقّقه الرئيس إيميل لحّود خلال تولّيه مسؤولية الرئاسة، والمكاسب التي تمكن من صيانتها للشعب اللبناني، فإن الأهمّ الذي ينغرس في ضمير ووجدان المشاهد هو هذا الموقف الحرّ الشريف غير القابل للبيع والشراء بأي ثمن كان، الذي تميّز به عن غيره. وهنا هي نقطة اللقاء التي أراها بين الرئيس إيميل لحوّد والسيدة ريما خلف؛ أي نقطة لقاء الموقف المتميّز بالصدق والجرأة بغضّ النظر عن الأثمان المترتبة على مثل هذا الموقف. وهنا هي النقطة الجوهرية في استعادة أحداث تاريخنا؛ إذ إن السؤال هو كم هي نسبة المسؤولين الرفيعي المستوى في هذا التاريخ والذين اتخذوا مواقف نبيلة لمصلحة شعوبهم، بغضّ النظر عن المعاناة الشخصية والأثمان التي يجب عليهم أن يدفعوها نتيجة هذا الموقف؟
لن أدخل هنا في سرد الأسماء أبداً، ولكن ما أودّ تسطيره هنا هو أن الموقف الصادق والجريء هو الوحيد الذي يضمن التطوّر والتقدّم والإبداع والتميّز، وأنّ الجبن والمداهنة والصمت عن الأخطاء والتبرؤ من المسؤولية لا تقلّ خطورة كمسبّبات لمواقع العجز والهوان التي ابتليت بها هذه الأمة. والكلام هنا ليس عن السياسيين فقط أبداً، ولكنه عن كلّ إنسان في أي موقع ذي أثر على الشأن العام، وعلى حياة الآخرين. لأن قول كلمة الحقّ، والتمسّك بالصواب، والدفاع عنه ليس ترفاً، بل هو من أصل المسؤولية الأخلاقية الملقاة على عاتق كلّ إنسان يعمل بالشأن العام. لأن المصائب التي كابدتها هذه الأمة كانت من صنع بعض الفاسدين الانتهازيين والأنانيين الطغاة، ولكن ما كان لها أن تمرّ لولا صمت الكثرة الباقية، التي لم ترفع صوتاً ولم تتخذ إجراء، ولم تبذل أي مجهود على الأقل لوضع حدّ لمسار الأحداث المأساوية. لنتذكر بأن المظاهرات المناهضة للحرب على العراق خرجت في كلّ بلدان العالم، على حين تواطأ بعض الحكام العرب مع العدوّ لغزو بلد عربي وسط صمت شعبي شبه مطلق. ولا أعلم كيف يغفل الكثيرون عن تذكّر حقيقة بسيطة مهمة؛ وهي أن الحياة قصيرة جداً وعابرة، وأنّ الإنسان هو موقف وذكر، وأنّ معظم العظماء الذين نتذكّرهم اتخذوا موقفاً مبدئياً وأخلاقياً من الأحداث، وغالباً دفعوا أثمان مواقفهم، ولكنهم سطّروا تجربتهم وذكراهم في سجلّ الخالدين. تحيّة إلى ريما خلف، صاحبة الموقف من أجل القضية، ومن أجل فلسطين، ومن أجلنا جميعاً. وتحية خاصة جداً إلى الرئيس إيميل لحّود، الذي عبّر عن ضمير شعبه وأمّته، ومارس قناعاته وأدى واجباته من دون أن يخضع للابتزاز أو للإغراء. وتحية إلى قناة الميادين على هذه المساهمة القيّمة في إعادة قراءة التاريخ، وإعادة كتابته بنسخته الشفافة الصادقة لأجيال المستقبل.
-الوطن السورية-