أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


التاريخ لا يعيد نفسه بل نحن لا نتعلم منه.. (ميشال غنيم)


الدويلات في دولة لبنان.. حل جدلي مطروح بين فيدرالية وتقسيم منظّم. فلبنان هو مقسّم على جميع الأصعدة وتغيير هذا الإختلاف الموجود عبر إلغاء الآخر أصبح من الأمور المستحيلة..


هناك الكثير من الدول التي تتميز بتنوع شعبي وثقافي داخل حدودها، فيكون حينها هذا التنوع إمّا نعمة أو نقمة. وإذا أخذنا على سبيل المثال ألمانيا أو سويسرا، فالتنوع تحوّل إلى تقسيم حدودي منظّم أزال معه جميع التوترات العرقية وعزز ثقافة المواطنة في المقابل. أمّا في حالة لبنان، فمنذ احتلال السلطنة العثمانية يعاني من تقسيم مناطقي بحسب الطائفة والعرق والتبعية السياسية، ولكن المشكلة ليست بالتقسيم الموجود، بل بسوء إدارة هذا التقسيم. ففي لبنان تنوّع كبير لا يزال موجود إلى يومنا هذا، وهو جزء لا يتجزأ من طبيعة لبنان الإجتماعية حيث يتوجب علينا تقبّله والتعايش معه. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: “ما هو سبب الطائفية في لبنان؟ وما هي الحلول المتاحة أمامنا للتخلص من هذه الظاهرة؟”

سبب الطائفية والتقسيم:

إذا أردنا أن نطرح هذه الإشكالية من زاوية الجمهورية الثانية، أي لبنان ما بعد الطائف، فهناك ٣ أسباب رئيسية وراء الطائفية المتجذرة عند اللبنانيين.

أوّلًا، فنظام الطائف بحد ذاته هو سبب من أسباب هذه المشكلة، فهو بالإسم ديمقراطي ومدني، ولكن بالفعل هو توافقي طائفي، أي بعيد كل البعد عن الدولة المدنية التي يتمتع بها النص الدستوري. وإذا رأينا تقسيم الأدوار في هذا النظام، نرى أن لكل طائفة في لبنان منصب رئاسي في الجمهورية اللبنانية بدءًا من رئاسة الجمهورية مرورًا برئاسة المجلس النيابي ووصولًا إلى مجلس الوزراء. فهذا التقسيم بحد ذاته ينسف أي نية للتقدم والتحرر من الفكر الطائفي ويحرم أحيانًا كثيرًا الكفوء من الوصول إلى مركز صنع القرار وذلك بسبب مذهبه. إضافةً إلى الرئاسات الثلاث، فهناك أيضًا تقسيم موجود في المجالس التنفيذية والتشريعية وصولًا إلى أصغر دائرة رسمية أو مؤسسة حكومية.

ثانيًا، تلعب التبعية السياسية دورًا كبيرًا في خلق تقسيم في البلاد غير منظّم مبني على أسس تحريضية وتهديمية. فإذا أخذنا المسيحيين في لبنان (وهنا نقصد من هم داخل المنظومة وليس جميع المواطنين)، هناك من يريد وصاية مباشرة من الأميركيين والبعض الآخر من الفرنسيين، وإذا رأينا إخوتنا من الطائفة السنية الكريمة، فالبعض يريد السعودية والبعض الآخر تركيا، أما فيما يتعلق بإخوتنا من الطائفة الشيعية الكريمة، فهناك تعلّق مباشر وواضح بالجمهورية الإيرانية. ولكن أين لبنان من كل هذه التقسيمات؟

من المؤكد أن هناك عدد كبير من اللبنانيين من يضعون لبنان أوّلًا، وهنا نقصد جميع الطوائف، ولكن المنظومة السياسية التي تنتعش وتتجدد من الطائفية ونشر الخوف لا تضع لبنان أوّلًا، بل هي مرهونة لدول تدعمها بالمال لتكون رهينة عندها في المفاوضات الإقليمية والدولية.

ثالثًا، إن غياب ثقافة المواطنة في معظم الأحزاب التقليدية هو سبب رئيسي لنشوء الدويلات داخل لبنان. فولاء الفرد أصبح للحزب والزعيم والطائفة إلى أن أصبحت المصلحة الذاتية تتغلب على المصلحة الوطنية والتي تصب في مصلحة المجتمع ككل دون تفرقة. فإذا عدنا قليلًا إلى الوراء ورأينا جميع الإنتخابات التي حصلت في لبنان ما بعد الطائف، فنرى وضوح الشمس أن نشر “الخوف من الآخر” كان من الأسباب الأساسية التي بنت عليها أحزاب المنظومة حملاتها الإنتخابية، ما يدفع إلى تقوقع الجماعة حول الطائفة والتصويت إلى نفس المنظومة بحجة الخوف من الآخر.

ما الحل؟

من الحلول البديهية التي بنبغي طرحها هي تعزيز ثقافة المواطنة، فيصبح حينها الولاء للبنان وللأرض قبل أي دولة أو مجموعة أخرى. وإن هذا المنطق لا يتعارض أبدًا مع سياسة مد الجسور والإنفتاح على الدول الشقيقة والتي دعمت لبنان في السنوات الماضية، ولكن تحويل العلاقة إلى تبعية، فهذا يتعارض تمامًا مع اتفاق فيينا وكل المبادئ الدبلوماسية والأخلاقية. فتعزيز المواطنة لا يحدث بين ليلة وضحاها، بل هو مسار زمني على الأحزاب والجهات المستقلة في المجتمع المدني الإهتمام بها عبر ندوات حوارية وإنشاء أكاديميات للتلاقي ونشر التوعية عن أهمية المواطنة وخطورة الطائفية وتداعياتها على الفرد والمجتمع ككل.


أما النقطة الثانية والأخيرة، فهي الحل الجدلي المطروح للبنان، وهي الفيدرالية أو التقسيم المنظّم. فلبنان هو مقسّم على جميع الأصعدة وتغيير هذا الإختلاف الموجود عبر إلغاء الآخر أصبح من الأمور المستحيلة وذلك بعد تجارب التاريخ، ولكن المشكلة هي عدم الإعتراف بالإختلاف والبقاء على سياسة إنكار الواقع والعيش بوهم غير موجود. فمطالب الإنتفاضة الشعبية بعد ١٧ تشرين خير دليل على انقسام الشعب اللبناني، فالمطالب الشعبية اختلفت من منطقة إلى أخرى ومن مواطن إلى آخر في نفس البقعة الجغرافية. فمن الطبيعي أن كل مواطن يريد حقوقه الأساسية لعيش حياة كريمة، ولكن هناك الكثير من الإختلافات الجوهرية التي اختلف عليها المواطنون مما أضاع البوصلة وشتت الأفكار بعيدًا عن الأهداف الأساسية. إن هذه الظواهر أدت إلى مطالبة البعض بتقسيم لبنان والإعتراف بتنوّعه مما يلغي بدوره الخوف من الآخر، ولكن تكون هناك سلطة مركزية تهتم بالأوضاع السياسة العامة وموقف الدولة الرسمي ويكون هناك جيش واحد وموحد يلتف حوله الشعب اللبناني بكامله.

أخيرًا، لا بد من أخذ التاريخ كأكبر معلّم لحاضرنا، فالتاريخ لا يعيد نفسه بل نحن لا نتعلم منه. لبنان يغرق يوميًا بالفساد الفكري والثقافي، وطالما أن الشعب لم يأخذ قرار التحرر من الطائفية، فسنكون على شفير الزوال والأخطر من ذلك أن في حال خسرنا لبنان، سنخسر مستقبلنا وتنوعنا. يكفي كذب على أنفسنا، ولنعترف أن في لبنان اختلاف ثقافي وفكري واستراتيجي علينا تنظيمه وإلّا سيتغلب علينا. ولكن ما إذا غيّرنا النظام والدستور والقوانين، وبقيت العقلية هي نفسها؟