كان مُتوقّعًا أَن تنهض بيروت مُجدّدًا، بعد ما عاجلها الموت في 4 آب 2020، لتترحّم على مئات الشُّهداء الّذين سقطوا مُنضمّين إِلى الآلف المُؤَلّفة من المُترفّعين إِلى رُتبة المجد والخُلود!.
فبيروت المُتجدّدةُ الولادة بعد كُلّ موتٍ، عصيّةٌ على “سُنّة الحياة” في هذا المجال، حتّى أَنّها في كُلّ مرّةٍ كانت تتأَلّق في حياةٍ مُتجدّدةٍ أَكثر رونقًا من ذي قبل… لتحمل إِلينا “رسالة القيامة”، غير أَنّنا كلُبنانيّين لم نقرأ رسالة ستّ الدّنيا كما يجب، منذ نُشوء لُبنان الكبير لعقدٍ من الزّمن ولّى ولغاية يومنا الحاضر.
ولطالما كانت رسالة بيروت رسالة مدّ الجُسور ونشر ثقافة الحوار والتّواصل، كما وأَنّها رسالة العدالة الّتي علّمتْها “أُمّ الشّرائع” للكون الفسيح منذ القرن الميلاديّ الثّاني، وقد بات على أَبناء بيروت أَن يُطبّقوا هذه العدالة، بعيدًا من غوغائيّة “الهيلاهو”، وفي منأًى عن ناشري ثقافتها المشبوهة والغريبة في آنٍ، عن الأَصالة البيروتيّة وأَعرافها ومبادئها…
هذه المرّة سقطت “الهيلاهو”، الّتي كانت تُتلى قُبيل بدء حملة القضاء على ما تبقّى من الوطن وإِحراقه… وتُمهّد لحفلات الهرج والمرج و”الهستيريا المُمنهجة” تحت مُسمّى المُطالبة بمحاكمة الفاسدين، وهي –على فكرةٍ- قضيّة حقٍّ بات يُراد منها باطلاً… فيما اللُّبنانيّون المفجوعون بسقوط أَبنائهم شهداء في سبيل الوطن، يلتزمون الصّمت في منازلهم، بين صورٍ عُلّقت على الجدران مُكلّلةً بمجد الشّهادة!
هذه المرّة تودّع بيروت “الهيلاهو”، لتستقبل “أَكاديميّة الإِنسان”، مُعيدةً الاعتبار إِلى هُويّتها وميزة وجودها، كنُقطة وصلٍ بين الشّرق والغرب.
تعود بيروت إِلى الحياة، لتستقبل “المركز الدّائم للحوار بين مُخْتلف الحَضارات والدِّيانات والأَعْراق”، بعدما بقي الرَّئيس العماد ميشال عون، ولسَنَتين (بين 2017 و2019)، مُتشبِّثًا بإِنْشاء “أَكاديميَّة الإِنْسان للتَّلاقي والحِوار”.
قد يعمد البعض إِلى “تسخيف” الأَكاديميّة، والتّشكيك بجدوى إِعادة ضخّ الحياة فيها، غير أَنّ بيروت القائمة من الموت، قد ضخّت دم الحياة في هذه الأَكاديميّة، لكونها تُشكّل مشهدًا مُشرقًا وفصلاً حقيقيًّا أَصيلاً، من تاريخ لبنان الأَبديّ ورسالته ومستقبله الموعود.
ومن هُنا قد يكون الأَجدى بنا والأَجدر، أَن نفهم ما أَطلق عليه البطريرك المارونيّ مار بشارة الرّاعي، عُنوان “الحياد الإِيجابيّ”، فيما شوّهت الزّواريب السّياسيّة النّداء البطريركيّ.
لطالما تباكى المُندسّون في صفوف الحراك الشّعبيّ، وانتحلوا صفة اللّبنانيّ المُنتفِض على كُلِّ شيءٍ إِلاّ على زعيمه، ومُوجّهه السرّيِّ إِلى السّاحات، لغايةٍ في نفْس أَصحاب الزّواريب السّياسيّة المُلتوية، دون أَن يعلم هؤُلاء أَنّهم قتلوا، مرّتين اثنتَين، آلاف الشُّهداء الّذين سقطوا على أَرض القضيّة الوجوديّة الصّافية، منذ 13 نيسان 1975، ولغاية 4 آب 2020، وما بعد 4 آب مع الأَسف!.
وستسْتقطب “الأَكاديميَّة” باحثين ومُفكِّرين… ومُشاركين في المُؤْتمرات والنَّدوات والمُحاضرات وطلاَّبًا من مُختلف أَنحاء العالم، كما وسيكون مقرُّها كأيِّ مقرٍّ لأيِّ مُنظَّمةٍ عالميَّةٍ في إِحدى العواصم… وقد سارعت بلديَّة الدَّامور – كما بات معلومًا – وأَكَّدت استعدادَها تقديم قطعة الأَرض اللازمة لإِنشاء “الأَكاديميَّة”.
غير أَنَّ “الأَكاديميَّة” لن تكون عبارةً عن مركز مُحاضراتٍ أَو صالة ندواتٍ فحسب، بل وستتَّخذ أَيْضًا طابعًا تعليميًّا جامعيًّا دوليًّا، يضع الأُمناء والخبراء والاختصاصيُّون نظامَها وأساليبَ التَّعليم فيها ومستوى شهاداتها وطريقة الدِّراسة وعدد السَّنوات… لكي تكون مثل “أَكاديميَّة لاهاي للقانون الدَّوليِّ” أو “أَكاديميَّة السَّلام في كوستاريكا”…
وتستهدف “أَكاديميَّة الإِنسان للتَّلاقي والحوار” أيَّ إِنسانٍ يجد أَنَّه في حاجةٍ إِلى التَّعرُّف إِلى حضارة الآخر. كذلك، فإِنَّ بابها مفتوحٌ للمحاضرين والأَساتذة والمفكِّرين من الدُّول العشر المؤسِسة ومن كلِّ حضارات العالم العريقة، فمجالاتُها متعدِّدةٌ وآفاقها واسعةٌ.
وكان الرَّئيس عون أَمل في أَن يُوقَّع الاتِّفاق قبل انْعقاد الدَّورة الـخامسة وسبعين، للجمعيَّة العُموميَّة للأُمم المتَّحدة في أَيلول المُقبل، لكي يتمَّ إِيداع نصّ الاتِّفاق الدَّوليِّ رسميًّا لدى الأُمم المتَّحدة، ويتحوَّل وثيقةً من وَثائقها، على أَن يَكون الانْضِمام إِليها مُتاحًا لأيِّ دولةٍ، إِضافةً إِلى الدُّول المُؤَسِّسة. لكنّ الظُّروف الرّاهنة قد تفرض التّمهُّل في هذه الخُطوة، بيد أَنّ القرار في هذا الشّأْن يعود إِلى الرّئيس عون.
صحيحٌ أَنَّ “أَكاديميَّة الإِنسان” ليسَت الوحيدة عالميًّا، فثمَة أَكاديميَّاتٌ كثيرةٌ… غير أَنَّ هذه الأَكاديميَّة تفتح الآفاق نحو عالمٍ أَكثر أَمْنًا وسلامًا، يعتمد ثقافة الحِوار والتَّواصل وتقبُّل الآخر وحلِّ النِّزاعات قبل اسْتِفحالها… ومَن أَجدر من بيروت –أُمِّ الشَّرائع– في تأْدية هذا الدَّور؟
إِنَّه عالم اليوم الحافل بالتَّحدِّيات الَّتي تستوجب تعاونًا دوليًّا حثيثًا، علَّنا نصل إِلى عالمٍ أَفضل!. وهي رسالة تلك القائمة من الموت، علّنا نُدركها هذه المرّة!
المصدر: النشرة