-الرئيس عون لن يألوا جهدا للضغط خارجيا للإفراج عن الحريري لأن المس برئيس حكومتنا هو مس بسيادتنا وبكرامتنا الوطنية
لا مجال للتشكيك والاجتهاد بأن الحريري موجود في واقع ملتبس وغامض والتواصل لا يحصل معه من أقرب المقربين اليه، والصورة التي ظهر فيها تعزز الشكوك التي يتم التداول بها وهي الأقرب الى الحقيقة، مفادها أن الحريري لم يكن في وارد الاستقالة قبل ذهابه الى السعودية ولا فكر بها، إلا انه في مطلق الأحوال ومهما كان الاطار الذي يحيط بوضع الحريري، فالمفاعيل القانونية والدستورية للإستقالة لا تأخذ مسارها القانوني إلا حين تقدم في السياق الطبيعي، لرئيس الجمهورية في قصر بعبدا.
في الشكل لا يختلف اثنان على ان سيناريو الاستقالة تم بإخراج سيئ ويفضح الجهة التي أجبرت الحريري على القيام بذلك، في حين ان مضمون البيان الذي تلاه، حصل خارج المنطق وبعكس المسار الذي سلكه الحريري نفسه منذ عشرة أشهر في ترؤسه الحكومة اللبنانية، ففي سرد سريع لمضمون البيان، جاءت مصطلحات رئيس الحكومة سعد الحريري، بعدما وصفه الاعلام السعودي بالرئيس السابق في حين ان الاستقالة لم تأخذ مفاعيلها القانونية حتى الآن، وهذه المفاعيل يحدثها رئيس الجمهورية فقط، فقد جاءت هذه المصطلحات التي استعملها الحريري، كما التعابير المستخدمة، غريبة عن ادبيات الحريري وركيكة ومربكة وتذكرنا بالكتاب السعوديين في جريدة “عكاظ”.
فالرئيس الحريري هو نفسه الذي كان ينبض بالحيوية ويبعث مساره ومواقفه علئ التفاؤل والايجابية وبخاصة منذ ترؤسه للحكومة بعد التسوية الرئاسية التي حصلت في عهد الرئيس عون، فساد التفاهم والوئام في علاقة الرئاستين، حتى وصفها المراقبون بالعلاقة الصحية التي فقدها لبنان في العقدين الأخيرين والتي نقلت لبنان من الخطر الى بر الأمان ومن الفتنة المذهبية الى الوحدة الوطنية، فالعلاقة بين رئاستي الجمهورية والحكومة، في مرحلة ما بعد الطائف، وتغير النظام فيه من رئاسي الى برلماني، شابها دائما التوتر وشد الحبال، في حين ان مع الرئيس عون اختلف الأمر وأنجز التعاون والتفاهم مع الحريري، نقلة نوعية في أداء الحكومة وانتاجيتها، أما أداء الحريري وقناعاته فكانت واضحة طوال هذه الفترة، فمنذ اسبوعين فقط على سبيل المثال، أعلن الحريري في الجلسة النيابية، بانه لن يفرط بالحكومة ولا بالوحدة والوطنية وحكومته هي من اكثر الحكومات نجاحاً على مر تاريخ الحكومات، مضيفا “ان صحيح ان الخلاف كبير واستراتيجي ولكن اتفق في التسوية الرئاسية على وضع هذه الخلافات جانبا لنتمكن من بناء البلد وحل مشاكله المزمنة، وبخاصة الاقتصادية منها والحياتية، حتى تسنح الظروف لحل الامور العالقة”، فيما لم ينتظر بقايا صقور 14 اذار اتضاح الموقف بعد اعلان الحريري استقالته، فخرجوا لتبرير الاستقالة على عكس ما هي عليه.
ولكن لا بد في هذا السياق من تفسير ما حصل، بعدما فاجأ الحريري جميع اللبنانيين وبالتأكيد فاجأ نفسه بهذه الاستقالة التي أجبر عليها، وخلفياتها كما بات واضحا خارجية وليست داخلية، وقد أفشلت حكمة الرئيس ميشال عون أهدافها، وامتص لبنان الصدمة الأولى بعد روح المسؤولية التي تحلى بها كل من الرئيس عون والرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله، ففضلا عن تريث رئيس الجمهورية في اتخاذ موقف من الاستقالة قبل حصوله على توضيح شخصي من الحريري، واعتباره ان الحريري ما زال رئيسا للحكومة، عقد الرئيس عون أمس اجتماعات امنية ومالية واليوم خصص مشاورات سياسية واسعة شملت جميع الشخصيات السياسية ورؤساء أحزاب، بهدف تحصين الوحدة الوطنية أمام الهجمة على لبنان، ويتضح ان أحد ابرز اهداف إجبار السعودية الحريري على الاستقالة هي إحداث فتنة مذهبية سنية- شيعية، ولكن السؤال الأبرز يبقى: أين الولايات المتحدة من كل المستجدات في اليومين الماضيين في لبنان، والجواب بحسب المحللين ان لا يمكن لولي العهد السعودي محمد بن سلمان ان يأخذ القرار بتفجير الساحة اللبنانية من دون موافقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبات واضحا استنادا الى التطورات الأخيرة في المنطقة، أن أميركا بدلت قرارها في شأن تحييد لبنان عن الوضع المتفجر بالدول المحيطة به، وقررت ادخاله في صلبها، وذلك بسبب اقتراب التسوية في المنطقة بعد الانجازات التي حققها محور المقاومة وفشل مخططات التقسيم والتفتيت التي سعت اليها الولايات المتحدة الأميركية، ما أدى الى تحول كبير على الساحة المشرقية الذي يتعارض مع التوجه الأميركي، وهذا ما دفع الولايات المتحدة الى تغيير موقفها تجاه لبنان بسبب الدور الكبير الذي قام به حزب الله في الانجازات التي تحققت، وفي سياق متابعة الخطاب الأميركي- الاسرائيلي في الفترة الأخيرة، نرى انه كان تصاعديا وموجها ضد ايران وحزب الله فاتهمهما بالارهاب وبأن الدور سيصل اليهما بعد القضاء على داعش، وما حصل باستقالة الحريري هو جزء من هذه المعركة التي تخوضها أميركا ضد ايران.
في المحصلة، الحريري الموضوع تحت الاقامة الجبرية او المعتقل في السعودية مطالب بتوضيح التباسات إعلان استقالته، وهذا ما يضغط باتجاهه خارجيا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ما يضع السعودية امام خيارين، إما السماح للحريري بمغادرة الرياض فيأتي الى لبنان ويقدم استقالته بحسب الأعراف والدستور الى رئيس الجمهورية، وإما الاستمرار في الغموض وفي حال طالت المدة ستكون السعودية التي تمر بحالة انقلاب معلنة، امام وضع دولي لا يحسد عليه، لأن الرئيس عون لن يألوا جهدا للضغط عليها للإفراج عن رئيس حكومتنا سعد الحريري لأن المس بالحريري هو مس بسيادتنا وبكرامتنا الوطنية.