– حكاية واحدة من مئات عمليات الصرف الجماعي (البروفيسور جاسم عجاقة)
***
…أعوام مرّت على بدء الأزمة السورية وبدء النزوح السوري إلى لبنان. في البدء لم يتوقع أحد، باستثناء صانعيها، مدى خطورة وإمتداد هذه الأزمة في الوقت.
كذلك الأمر بالنسبة إلى المسؤولين اللبنانيين الذين لا يعون مدى الخطر الإقتصادي للنزوح السوري، على أساس أن العمّال السوريين موجودون في لبنان منذ زمن، وبالتالي لم يخطر في بال أحد أن الأعداد الهائلة من النازحين ستكون كارثية على سوق العمل في إقتصاد لا يخلق إلا بضعة آلالاف من الوظائف سنوياً مقارنة مع ما لا يقل عن مليون نازح سوري ذكر، جاهزون للعمل في السوق اللبناني.
وأخطأ المسؤولون اللبنانييون في تقدير تداعيات النزوح السوري على سوق العمل اللبناني إلى حد أنه لا يوجد تقريباً أي إجراء للتخفيف من التداعيات السلبية إلا بعودة النازحين السوريين إلى سوريا.
قد يجد البعض في كلامنا هذا عنصرية تجاه السوريين، لكن ما يلي سيوضح موقعنا من هذه المُشكلة.
- قامت إحدى الشركات اللبنانية الموجودة في كفرشيما بصرف 30 عاملاً لبنانياً منذ سنة ونصف تقريباً (المقالة نُشرت في 17 نيسان 2016). معظم هؤلاء من المُتقدمين في العمر ومن شبه المُستحيل أن يجدوا عملاً في مجال إختصاصهم بإعتبار أن الشركة هي الوحيدة من نوعها في لبنان، وهؤلاء العمّال غير مؤهلين للعمل في مجال آخر نظراً لأنهم قضوا سنين عمرهم في هذا المعمل.
هذه الحكاية هي واحدة من مئات عمليات الصرف الجماعي التي تقوم بها الشركات اللبنانية لتوظيف عمّال سوريين مكان العمّال اللبنانيين. والملاحظ من معطيات السوق، أن الشركات الخدماتية هي التي تقوم بهذا العمل بالدرجة الأولى تليها الشركات الزراعية وفي المرتبة الأخيرة الصناعية. وإذا كانت الوظائف التي يحتلها السوريون في لبنان كانت تقتصر على الوظائف التي تتطلب مجهوداً جسدياً بدون مهارات عالية، إلا أنه ومنذ العام الماضي إستفحل بعض اللبنانيين بإسناد وظائف تتطلب مهارات عالية إلى سوريين، وتقوم بذلك بعض الشركات اللبنانية التي تعمل في مجال البناء والتي أصبحت تُسند أعمالاً هندسية إلى سوريين، أو صيدليات تُسند عملية البيع إلى سوريين.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالعامل السوري والأجنبي عامة لا يُنفق مدخوله في لبنان بل يعمد إلى إرسال الأساس منه إلى ذويه في الخارج. وعلى هذا الصعيد، تقول أرقام البنك الدولي إن التحاويل التي قام بها العمّال العرب العاملين في لبنان إلى الخارج إنحصرت بشكل أساسي بثلاثة جنسيات:
- مصر،
- فلسطين،
- وسوريا.
ويأتي العمال المصريون على رأس اللائحة مع 502 مليون دولار، يليهم الفلسطنيون بـ300 مليون دولار، وفي المرتبة الثالثة يأتي السوريون مع 282 مليون $. إلا أن هذه الأرقام لا تعكس الواقع بدقّة وخصوصاً في حالة السوريين من ناحية أن التحاويل لا تمرّ بالضرورة بالأقنية المصرفية بحكم القرب الجغرافي مع سوريا، وبالتالي فإن هذا الرقم لا يعكس إلا نسبة صغيرة من الأموال التي يُحوّلها العمال السوريين إلى سوريا. هذه الأموال تخرج من الماكينة الإقتصادية اللبنانية من دون أي إستفادة بحكم أن إستهلاكها في لبنان كان ليكون له تداعيات إيجابية على الإقتصاد اللبناني، خصوصاً أنها كانت لتزيد الإستثمارات. لكن للأسف الوضع مغاير.
نموذج إعلامي عنصري موجهّ ضدّ اللبنانيين.. فكّر بغيرك يا أناني
في المقابل، يتخرّج من الجامعات اللبنانية كل عام ما يزيد عن 16000 طالب ليجدوا أمامهم سوق عمل لا يستوعب إلا 3000 فرصة عمل. هذا الواقع يدفع إلى الهجرة نحو الدول العربية والغربية بحثاً عن لقمة العيش وسعياً وراء تجميع رأس مال يسمح لهم بشراء شقة سكنية والزواج. هذا الواقع الأليم ما هو إلا نتيجة ضعف الماكينة الإقتصادية اللبنانية التي ولضعف الإسثمارات لا تستطيع توفير فرص عمل لـ16000 خرّيج بحكم أن الوظائف بقسم كبير منها لا يتطلبّ مهارات عالية، وبالتالي من السهل إستبدال العامل اللبناني بآخر سوري وبكلفة أقلّ.
وبالنظر إلى البيانات التاريخية لعدد النازحين السوريين ونسبة البطالة في لبنان، نرى أن النزوح السوري الكثيف أرخى بثقله على سوق العمل في لبنان، وبالتالي زادت البطالة بشكل نوعي، خصوصاً في العام 2014 و2015 و2016… بعد موجة النزوح الكبيرة بين 2013 و2014.
وللتذكير، فإن تداعيات النزوح تظهر بفارق في الوقت بحكم أن النازح لا يبدأ العمل مباشرة عند وصوله إلى لبنان وقد يضطر إلى التنقل داخل لبنان ليجد فرصة عمل. وهنا، لا بد من القول إن العمال السوريين يتنافسون في ما بينهم على الوظائف خصوصاً المؤقتة.
أما حكومياً، فنرى أن دعوة وزير العمل (السابق) سجعان قزّي إلى مقاطعة الشركات التي توظف عمالاً أجانب أكثر من اللبنانيين، مُحقّة، لكنها غير قابلة للتطبيق. فاللبناني متواطئ في قضية العمالة الأجنبية ويوظّف سوري لأي عمل يحتاج إلى القيام به مع الحجّة الدائمة بأن العامل السوري أقلّ كلفة. وفعلياً نرى أنه بإستثناء القرار الذي إتخذه قزّي، لا يوجد أي إجراء حكومي يسمح بلجم العمالة الأجنبية التي في مُعظمها غير مُصرّح عنها، وتدخل تهريباً عن طريق سوريا وتعمل على الأرض اللبنانية من دون حسيب أو رقيب.
إن عمل اللبناني هو أساسي للماكينة الإقتصادية اللبنانية لأنه قسم منها. وعدم عمل اللبناني يضرب الإستهلاك والإستثمار، وبالتالي يمنع النمو. لذا، آن الآوان أن تعمد الحكومة إلى القيام بإجراءات دراستية أكثر.
المصدر: المدن
لقراءة المصدر (إضغط هنا)