أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


وداعاً فرنسا.. المستقبل هو روسيا

الميادين – غسان سعود***

لم يكد وفد رجال الأعمال الروسي يغادر لبنان حتى أُعلِن عن زيارة وفد رجال أعمال فرنسي ليبحث بدوره مع المعنيين في إعادة إعمار مرفأ بيروت، ما يوحي بوجود سباق هادئ فرنسيّ- روسيّ في لبنان، ويفتح باب المفاضلة بين هاتين الدولتين، وهو ما يشغل أكثر من غرفة رسمية معنية بهذه المفاضلة وكل ما يستتبعها في السياسة.

وفي هذا السياق، ترسم المعطيات 3 نقاط قوة للفرنسي:

أولها، وجود شركاته القديمة في لبنان، وخبرته الكبيرة في التعامل مع البيروقراطية اللبنانية؛ فمن القطاع المصرفي، إلى المشتقات النفطية، إلى التعهدات، إلى كارتيلات الغذاء والدواء، تنتشر التوأمة بين الشركات الفرنسية واللبنانية وتتعمق الشراكات. ورغم محاضرة الفرنسيين هذه الأيام بمحاربة الفساد، فإن تجربتهم في لبنان تؤكد عمل شركاتهم جنباً إلى جنب الشركات اللبنانية بالتكافل والتضامن مع الفساد.

ثانيها، شعور الرسميين اللبنانيين من جميع الطوائف، والمسلمين قبل المسيحيين، بالضعف تجاه الفرنسي مع “انسحار” وانبهار، في ظل تدافع رسمي واضح اليوم للاتفاق مع الفرنسيين في ما يخصّ إعادة إعمار المرفأ على حساب المصلحة اللبنانية التي يمكن أن تتحقّق أكثر مع الألماني أو الروسي أو الصيني أو غيرهم حتى.

ولا شك هنا في أنَّ الاستخبارات الفرنسية أكثر فعالية وقدماً في البلد من جميع الاستخبارات الأخرى، وهي تحيط غالبية المراجع الرسمية وغير الرسمية بعدد كبير من المستشارين والأصدقاء والأقرباء الذين يحضرون في الوقت المناسب ليهمسوا في بعض الآذان تحذيرات من مغبة التعاون مع غير الفرنسيين.

ثالثها، الغطاء الدولي بكل أدواته الإعلامية والسياسية والقضائية والأمنية الداخلية، والَّذي يحمي الطموحات الفرنسيَّة، ويضع العصي في دواليب الدول الأخرى، باعتبار أنَّ لبنان “صندوق الفرجة” للفرنسيين الّذين ينهلون منه كلّ ما يشاؤونه.

في المقابل، إنّ نقاط قوة المستثمر الروسيّ ٥:

1. يريد الفرنسيون للبنان أن يكون جزيرة معزولة عن المنطقة، بحكم الأبواب المقفلة في وجههم نتيجة خياراتهم السياسية والعسكرية والأمنية الخاطئة في سوريا والعراق، وهم حين يقاربون ملفاً حيوياً كملف مرفأ بيروت، يتعاملون معه كمجرد محطة لتفريغ البضائع الفرنسية في السوق اللبنانية. أما الروس، فيريدونه مرفأ للبنان وسوريا والعراق والأردن والخليج؛ يستورد إليهم جميعاً من كل دول العالم، ويصدّر منهم جميعاً إلى كل دول العالم.

ولا شكّ في أنّ الروسي يفكّر في الاستفادة من علاقته الوطيدة جداً بالسوري والعراقي، كما بالسّعودي والإماراتي والإيراني والتركي، بعكس الفرنسي، الذي آثر الانحياز إلى التخريب والحصار في غالبية هذه الدول. والمؤكد هنا أن الروسي يقارب الملف الاقتصادي اللبناني كجزء من المنطقة ليكون اقتصاداً حقيقياً، لا مجرد فقاعة أخرى تعتاش على الدين والاستيراد. أما الفرنسي، فيواصل التمسك بنظرية لبنان الصغير المنعزل عن كل شيء، على نحو يخالف كل تفكير اقتصادي جغرافي تاريخي سليم.

٢  مقابل الانحياز الفرنسي الفاضح إلى فريق لبنانيّ ضد فريق آخر، يبدو الروسي اليوم الفريق الدولي شبه الوحيد الذي تجمعه علاقة وطيدة بغالبية الأفرقاء اللبنانيين، وخصوصاً “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” والنائب السابق وليد جنبلاط ورئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري. المؤكد هنا أن انحياز الفرنسيين سيكثر المطبات أمامهم، بعكس الروسي الَّذي يستفيد من علاقاته القوية بغالبية الأفرقاء لتذليل جميع العقبات.

٣. في ملفّ الغاز اللبناني، أكد الفرنسيّ لجميع اللبنانيين أنّ الأجندة السياسية تتقدم لديه حتى على أجندة شركاته، إذ جمّد العمل في كلّ الملف النفطي بناءً على أوامر سياسية، وهو ما يفترض أن يدفع الدولة اللبنانية إلى الانتفاض لكرامتها والتعامل مع المستثمرين الفرنسيين في جميع المناسبات المالية والاقتصادية المقبلة بكثير من التشدد. أما الروس، فقد أصرّوا على الاستثمار في خزانات الوقود في الشمال اللبناني ومتابعة العمل بالمشروع، رغم ظروف “كوفيد 19” وتراجع الاستثمارات النفطية في العالم.

وهنا، لا بدّ من الإشارة مراراً وتكراراً إلى أهمّية هذه الخزانات الاستراتيجية الكبيرة جداً، إذ شكَّل تلزيمها للروس امتحاناً كبيراً لقدرة وزارة الطاقة على التحرك بعيداً عن الإملاءات الأميركية.

وقد فعلت ذلك بكل شجاعة، ولم يعد مجدياً السؤال بالتالي عما ستفعله الوزارة في حال قرَّر الروس التقدم نحو استثمارات أخرى، فلا شيء أكثر أهمية استراتيجية من الخزانات، وقد لُزمت للروس، الذين سيحصلون على أية تلزيمات إضافية شرط تقدمهم طبعاً إليها، مع العلم أن وزارة الطاقة التي تتعاون مع الروس في موضوع الخزانات، وهي على كامل الاستعداد للتعاون أيضاً في موضوع المصافي، اتجهت نحو العراق لتأمين النفط، لكن التأخير أتى من العراق.

٤. الاستثمار الفرنسي ينطلق من مبدأ القروض، فلا ينتج على المديين المتوسط والبعيد غير الديون. أما الروسي، فينطلق في استثماراته المحتملة في لبنان من مبدأ البناء والتشغيل، إذ لا تتكبَّد الدولة اللبناية أية مصاريف، سواء مباشرة أو غير مباشرة، سواء على المدى القريب أو المتوسط أو البعيد، فيبني الروسي المنشأة ويديرها بداية مع إعطاء الدولة نسبة من الأرباح. وحين تنتهي مدة العقد الأول، يبحث في تعديله لتتضاعف نسبة أرباح الدولة وتجديده، أو ينتهي العقد وتستعيد الدولة الملكية والإدارة وكامل الأرباح.

٥. بالنسبة إلى فرنسا، إنَّ قرار الاستثمار أو عدمه يرتبط بالجدوى الاقتصادية بالنسبة إلى الشركات، فيما القرار بالنسبة إلى روسيا سياسي بامتياز. وبينما تنتظر الخارجية الفرنسية دراسات الشركات الفرنسية غير المهتمة عموماً بعد الانهيار المالي، تشير جميع المعطيات إلى أن القرار السياسي الروسي متخذ.

المؤكّد أنَّ الفرنسي يتعامل بمبدأ استعلائي جداً يغلب عليه التهديد والوعيد، وهو يعادي ثلثي المنطقة وثلثي الأفرقاء السياسيين اللبنانيين، ويتشاطر ويتذاكى ويتدخل في الشأن اللبناني، عبر تمويل مجموعات سياسية تهدف إلى خوض الانتخابات والفوز بها، وهو في هذه الأمور جميعها لا يراعي مصالحه كمستثمر، لكن الأهم في هذه المقاربة كلّها هو حقيقة الموقف الروسي، فالمشكلة منذ عقود تتمثل في غياب قرار مزاحمة الفرنسيين والأميركيين في لبنان، لأن الاقتصاد اللبناني صغير، ولا يستحق إقلاق راحة الأميركيين أو استفزاز الفرنسيين أو غيره.

الواضح هنا أن ثمة تغييراً روسياً كبيراً بهذا الشأن من العراق إلى لبنان، مروراً بسوريا طبعاً. وفي موسكو كلام واضح اليوم عن الارتباط العضوي بين أمن لبنان وأمن سوريا، واقتصاد لبنان واقتصاد سوريا، وعملة لبنان وعملة سوريا، والبنزين في لبنان والبنزين في سوريا، ومربى المشمش في لبنان ومربى المشمش في سوريا؛ إذ لا يمكن التّفكير في أن يستثمر الروس بشرياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً بكلّ هذا الشكل في سوريا، فيما يتركون الفوضى والأميركيين والفرنسيين يسرحون ويمرحون في الحديقة الأمامية لهذه البلاد، وهو ما يسمح بالقول عملياً إن الفرنسيين استثمروا بالفساد أكثر من نصف قرن في لبنان، وغالبية هذه الطبقة السياسية – الاقتصادية – المالية الفاسدة ما هي إلا طبقتهم، لكن هذا هو الماضي البشع. المستقبل هو روسيا.