أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


الأب يوحنا جحا عن بيت القربان الأول..

– ما نظنّ إذا قسنا حياة شربل على معايير مبشّري الشاشات…

***

لن أعتبر كلامي نبويًّا إذا قلتُ أنّ مجرّد استعمال عبارة عبادة مع اسم مريم سيجلبُ ليَ المتاعب وربّما الإهانة. وما أنا في الواقع سوى مردّد بأمانة لما شاعَ في كنيسة الموارنة منذ مئات السنين وتحت نظر البطاركة القدّيسين والأحبار الأعظمين.

حتّى العام 1990 تجدُ، في الكتب الممهورة بختم السيّد البطريك أو رئيس مجمع العقيدة والإيمان في روما، تعابير صريحة وعناوين رئيسيّة مثل عبادة أمّ الله وعبادة أولياء الله وعبادة الصليب المقدّس.

لا أحد من المسيحيّين اعترضَ حتّى الآن على عبارة “عبادة الصليب المقدّس” أو “السجود للصليب المقدّس” علمًا أنّ عبارتي عبادة وسجود هما ترجمتان لعبارة سريانيّة واحدة هي “سِغدتُا” لأنّ المعنى الحقيقيّ للعبادة في الفكر السريانيّ النسكيّ هو ممارسة فعل السجود باطنًا وظاهرًا من دون انفصال.

أحيانًا تأتي عبارة عبادة بالعربيّة كترجمة لعبارة فرنسيّة هي Culte.

هذه العبارة تعني مجوعة الصلوات والشعائر الّتي ترفع إكرامًا لله أو لأحد القدّيسين!

كما أنّ عبارة عبادة تأتي أحيانًا كترجمة لعبارة Adoration.

هذه العبارة غالبًا ما تُخصّص للّه لتوضيح الفرق الكيانيّ بين عبادة الله وعبادات القدّيسين أو ما اعتدنا منذ زمن قليل على تسميته إكرامًا أو تكريمًا.

في الواقع إنّ البحث الألسنيّ في أصول العبارتين يجعَلُهما نُلاحظ أن اختلاف جدّيّ بين مفهوم العبارتين، فكلتاهم مختصّة بالأمور الدينيّة أو الإلهيّة.

منذ بضعِ سنوات، عندَما صارَ الإيمانُ مجرّد تحليلات منطقيّة وسفسطات كلاميّة عظّمنا الفارق بينَ العبارتين، وحكمنا على كلّ من يستعمل عبارة “عبادة” لغير الله بالكفر أو الهرطقة أو الجهل.

العبادة الحقّة لا تقوم على الكلام واللسان، بل على العمل والحقّ.

فكثيرون يدّعونَ عبادة الله وحدَه وهم منزّهونَ عن العبادة، وكثيرونَ يتعبّدون للعذراء والقدّيسين وهم في عمق أعماقِهم قدّيسون عاشقون لله خاضعون طائعون بانسحاق القلبِ وصفاء النيّة.

أن نكفّر الناس ونتّهمهم بالجهل ونسخر من إيمانِهم وممارساتِهم التقويّة لمجرّد استعمال تعابير مثل “عبادة أمّ الله” و”وساطة مَريَم” و”شفاعة القدّيسين” فهذا غايةُ الظُلم. بل إنّه تضليلٌ للمؤمنين البسطاء وتعكيرٌ لصفاءِ إيمانِ ورثوه عن القدّيسين وحافظوا عليه بأمانة.

إذا خيّرتُ بين تعاليم لاهوتيّي المكاتب والمقاهي والمجالس الحواريّة ومكتبات الجامعات، وبينَ تعاليم القدّيسين رجالِ الصلاة، لما تحيّرت لحظَةً واحدة.

فالحقائق اللاهوتيّة لا يُمكِنُ أن تكونَ ثمرة الجهدِ العقليّ والمنطقيّ، ولا ثمرة قراءة نقديّة علميّة لنصّ كتابيّ روحيّ، بل هيَ عطيّة إلهيّة ننالُها مجّانًا عبر الوحيِ الإلهيّ.

هذه خلاصة فكر توما الأكوينيّ:
Aussi, pour Thomas, Dieu permet aux hommes d’avancer vers la connaissance, par la raison et l’expérience. Mais la connaissance de Dieu, de l’Incarnation, et de la Trinité ne peuvent être atteintes que par la révélation.

بالنسبة إلى توما الأكوينيّ، يسمح الله للإنسان بالتقدّم نحو المعرفة بواسطة العقل والاختبار. ولكنّ معرفةَ الله والتجسّد والثالوث فلا يمكنُ بلوغُها إلّا بواسطة الوحي.

كلامُ توما العالم والقدّيس يؤكّد أنّ تعاليمَ القدّيسين هي وحدَها تعبّر عن الحقائق الإلهيّة، لأَنّ تعاليمَهم ليست نتيجَة بحثٍ عقليّ ولا اختبارات عمليّة بل هي ثمرة وحيِ إلهيّ أتاهم كعطيّة من الله.

“فالله، كما يقول المزمور، قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ، الَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِالْحَقِّ” (مز 145: 18).

في كنيستنا المارونيّة نحتفل برتبة السجود الصليب المقدّس (والسجود يعني العبادة). الغربيّون يمارسون ما يسمّونه: Adoration de la sainte croix.

لا مشكلة عندهم في استعمال هذا التعبير مع أنّه مخصّص لله. كذلك نحنُ لا نعترض على السجود للصليب المقدّس في طقوسِنا الشرقيّة.

هذه ترجمة حرفيّة لبعض ما تقوله ليتورجيّتنا عن الصليب:

هو ينبوع الحياة ومتمّم كلّ الأسرار”.

“أيّها الصليب المقدّس الّذي حنوتَ على الخاطئة ووهبتَ اللصّ مفاتيح جنّة عدن، احفظ بقوّتك بيعتكَ الّتي تعبدك تصرُخُ كلّ حين: لكَ المجدُ يا ربّ”.

“هللويا، أليوم في البيع والأديار يصير السجود للصليب المقدّس…”

“ألصليبُ خلّصني صاحت بيعةُ الإيمان…”

“يا صليبَ النور يا من خلّصت العام من الضلال هب النور لعيني عقلي حتّى أشاهِدَ مجدَك”.

“أيّها الصليب المقدّس… احفظ رعيّتك الّتي تزيّحُك مع أولادِها وتسجُدُ أمامَك في كلّ حين…”

“ألصليب الّذي رآه قسطنطين في السماء وخلّصه في كلّ حروبه هو يكون سورًا للكنائس والأديار الّتي تسجد له في كلّ حين…”

“يا ديّانَ الديّانين لا تُحنِ رأسي في الدينونة بسبب ذنوبي لأنّني أخطأت وأغظتُكَ. وإن كنت لا أستحقُّ الغفران أشفق عليّ لأجل جسدكَ ودمكَ المطمورَينِ فيّ. إيّاكَ أحببتُ ولصليبِكَ سَجدتُ وبجسدك ودمك تنعّمتُ، فارضَ بهذا واغفر لي خطاياي وذنوبي”…

لا!
لم يكُن أجدادُنا وقدّيسونا كفّارًا ولا هراطقَةً ولا جُهّالاً ولا قاصرين. كانوا مؤمنين حتّى الشهادة. وقد أحبّوا الصليبَ حتّى العبادة.

لقد أحبّوا الصليب غايةَ الحبّ حتّى صارَ رديفًا للمسيح نفسهِ الّذي صُلِبَ عليه. لا هم لا يعبدون صنمًا خشبيًّا ولا آلةً للموت. بل يعبدونَ صليبًا صارَ اداةَ المسيح بها خلّص العالم.

لا فرقَ عندَ الموارنة بين الصليب والمسيح الّذي صُلبَ عليه. فمسيحُنا سيبقى للأبدِ المصلوبَ القائم حيًّا. المصلوبُ والصليبُ أصبحا حقيقةً واحدة. عندما نسجدُ للصليب – ولو كانَ بغير صلبوت – فنحنُ نسجُدُ بالفعلِ ذاتِهِ للمسيحِ الّذي صُلِبَ عليَهِ.

ما يصحّ على الصليبِ يصحّ على مريم.
فإذا كان الصليب وهو آلةُ للموتِ مصنوعةٌ من خشبتينِ يابستين، قد استحقّ سجودَنا وعبادَتنا لأنّه حمل يسوع المخلّص لمدّة ثلاث ساعات، فصارَ اسمه رديفًا لاسم المخلّص والسجود له رديفًا للسجود للمخلّص، أفلا تستحقُّ مريمُ الّتي هي شجرة الحياةِ الّتي أعطتنا الثمرة المباركة وقد حملتها في بطنها لا ثلاث ساعات بل تسعة أشهر، أن تتلقّى عبادَتنا وسجودَنا شأنّها شأنَ الصليب؟ ألا تستحقُّ أنّ نُماهيَ بينَها وبينَ ابنِها، هي الّتي صارت السماء الجديدة وتابوتَ العهد الجديد وقد دعاها البابا يوحنّا بولس الثاني ببيت القربان الأوّل.

ما بالُنا نستميتُ في تشويهِ إيمانِ آبائنا القدّيسين وندّعي أنّنا نحنُ اليومَ أعلَمُ مِنهُم بسرّ الله؟ أتُرانا نصلّي مثلهم كلّ يوم سبع مرّات ونصوم ونجاهدُ ونُطيعُ ونعبُدُ ونتواضعُ كما فعلوا في زمان الحبّ الأوّل، قبل أنّ تصيرَ الشهرةُ والنجوميّة والأضواء آلهةً فوقَ الله؟

ما بالُنا نترُكُ جواهرَنا ودرَرنا ونستبدلُها بِـ “فو بيجو” رخيصة تتلألأُ على الشاشات ولكنّها كالطبل الفارغ تصدر ضجيجًا ولكن بغير إفصاح؟

لا!
ليسَت سَفسَطاتُنا العصريّة في هذا الزمن الـمُغرِق بحبّ الأنوار الاصطناعيّة أفضلُ من عبادات أجدادنا الممزوجة بالصوم والجوع والدموع والألم والضيق والخوف، هذه العبادات التّي غسلوها وبيضوها بدم الحمل ودم شهداء الإيمان.
كيفَ تريدونَنا أن نثِقَ بكلامٍ يصدرُ عن شاشات مشبوهة أو على لسان أشخاصٍ لا ننكِرُ صلاحَهُم، ولكنّنا نعرفُ أنّ مصدرَ معارِفِهم هو البحثُ العلميّ والعقليّ، ثمّ تطلبونَ منّا أن نتخلّى عن تعابيرَ وممارسات وصلواتِ ورثناها عن أبطالِ القداسة وقد نالوها بنعمة الوحي الإلهيّ الّذي صدّقت عليه الكنيسة طوال أجيال؟

بينَ شاشة فلانة وكلام شربل أنا لا أتحيّر. خياري هو شربل.
إذا قارنّا صلوات شربل وعباداتِهِ بِما يعلّمنا إيّاه نجوم الشاشات الدينيّة، لأعلنّا القدّيسَ شربلَ زعيمَ الهراطقة وقائدَ الكفّار.

دعونا نتأمّل “بالهرطقات والخزعبلات الّتي كانَ يُصلّيها شربِل يوميًّا، ساهيًا عن أنّ المسيح هو المخلّص الحقيقيّ”:
“يا أمّ الرحمان ورحمة بارينا. إشفعي في عبيدك مريم وارحمينا”

(شربل يهرطق إذ ينسب الرحمة إلى مريم، ثمّ يجعل مريم إلهًا ونحنُ نعبدُها دونَ الله)!!!

“يا قدّيسة مريم تضرّعي لأجلنا”.
(يجعل شربل بوقاحة مريم وسيطة بينه وبين الله متجاهلًا أن يسوع هو الوسيط الأوحد)…

“تضرّعي إلى الّذي من نقاوتِكِ كصبحٍ قد أضا
ليرحمَ شعبًا لتكريم ذكرِك وافى وارتضى
ويقبلَ منّا بتوسُّطِكَ قربانَ الرضى
عن انفسنا ما دامَ البقا وفي يوم القضا”
(هنا المصيبَةُ الكُبرى: شربِل يطلبُ ضراعة مريَم لأنّه يرى في المسيح ديّانًا قاسيًا وظالِـمًا، ويعتبر أنّ وساطة مريم “المذمومة” هي ضروريّة ليقبل الله ذبيحة القدّاس الإلهي من الآنَ حتّى يوم الدينونة وهي بدعةٌ اخترعها الكهنة لإرهاب المؤمنين)!!!

وهذا غيضٌ من فيضِ ضلالات شربل وهرطقاتِه وقد عفَفنا عن ذكر ممارساتِه السادو-مازوشيّة كالصوم وليس المسح والحديد الشائك والنوم على الحطب وعدم الاستدفاء أيّام البردِ القارس والامتناع عن أكل اللحوم والألبان…

كلّ هذا برهانٌ أنّ شربلَ هرطوقيٌّ ضالّ…
هذا ما نظنّهُ إذا قسنا حياة شربل على معايير مبشّري الشاشات.

ولكنّ الحقَّ هو في مكانٍ آخر.
فالكنيسة بمجمعها الفاتيكانيّ الثاني، بحبرها الأعظم وبطاركتِها وأساقفتِها وكهنتها وشمامستِها ورهبانِها وراهِباتِها ومكرّسيها ومؤمنيها قد شهِدت لعظمة قداسةِ هذا الراهب المتواضعِ السكرانِ بالله عاشِق المسيح المتمَسِّك بأهدابِ مريم المتعبّد لها في السرّ والعلن.

لا للمعلّمينَ بحسَبِ روحِ العالم.
نعم لشربل ورفقا والحرديني وبيو وفرنسيس ويعقوب وتريزيا وكلّ قدّيس معلّمٍ حقيقيّ للإيمانِ ينقُلُ لنا نحن الضعفاءِ، بأمانة كاملة، إلهاماتِ الروحِ القدسِ، وَحيَ الله الصادقِ الأمين.