أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


ميلادٌ بين القهر والاستشهاد (الخوري أنطوان القزي)

سابقًا كنت أغرق في حزني أيّام العيد، خاصّة عندما أنظر الناس يعيشون العيد وصاحبُ العيد لا مكان له بينهم.

أمّا اليوم، أسأل نفسي، مع مَن أعيش العيد غدًا؟ بالتأكيد سأجيب وأقول: مع أولئك الذين يحبّهم يسوع… مع كلّ الأطفال الذين لا هم عارفون بالسياسة ولا هم من صنّاعها… مع جميع الأطفال أعيش العيد ولا أستثني أطفال هاتيك الأمم التي تزرع الخوف والحرب والقتل والدّمار في شرقنا وأرضنا. أشاركهم العيد لأنّه يصعب على أمثالهم أن يفهموا أنّ حكّامهم ليسوا بطراوة وبراءة ذاك المتجسّد في مذود بيت لحم.

أعيش فرحة ميلادك غدًا سيّدي، مع أولئك الذين تماهيت معهم وصرت هم وصاروا أنت، أطفال آسيا وأفريقيا الذين يقضون جوعًا، لأنّ الأكياس التي ترميها لهم الدول الغنيّة، لم تصل إليهم بعد.

استوقفني وأنا أتأمّل بالأمس نصّ العيد مبتغيًا تحضير كلمةٍ روحيّة في المناسبة، حدث استشهاد أطفال بيت لحم. فعلُ قتلٍ وحشيّ في ظلّ الميلاد. هؤلاء الأطفال هم أوائل الشهداء، قتلهم هيرودس، علّه بذلك يقتل يسوع.

فالميلاد هو عيد الفرح والبهجة والسلام دون شكّ، ولكنّه عيد دامي (من كلمة دم) أيضًا.

لذا، فإنّه عيد أولئك الأبرياء في القدس، وسوريا، واليمن… الذين يقتلهم حكّام الأرض باسم العدالة.

لمَ على العدالة أن تمرّ بالموت؟
لماذا قتل هيرودس الأطفال؟ لأنه خاف على نفسه وعلى مُلكه وسلطته من طفلٍ مولودٍ في أصغر مدن يهوذا. خاف ولدًا أتى المجوس من المشرق ليسجدوا له، وسيـعلنه الشعب يومًا ملكًا عليهم، والفقراء لا يصيرون ملوكًا. يجب أن يبقى في الأرض جياع فإن زالت كلّ حاجة فكيف تُحسن أنت إلى المساكين؟ لولا الفقراء كيف تعرف أنّ الثروة بركة ونعمة نلتها من الله، فتُنفقها للحصول على ملذّاتِك وإشباع شهواتِك، وأمّا الفتات فللمساكين والمحتاجين؟

حكّام العالم، أقوياؤه وأثرياؤه، مدعووّن بإلحاحٍ، ليتوسّلوا الفقراء والمظلومون غفرانًا ويشاركوهم مالهم. المجوس أتوا وسجدوا للطفل دون شكّ، لكن يغيب عن بالنا أنّهم فتحوا أكياسهم وقدّموا له من كنوزهم: ذهبًا ومرًّا ولبانا. فلا تبرير لمن لم يسأل الضعيف مغفرةً، ولمن لا يسعى رفعه إلى أعلى مستويات الرقيّ والراحة.

أمّا أن يستقوي الضعيف على القويّ لإسقاطه وكسره، فهذا باطل ولا نفع منه، لا بل من هنا يبدأ الإرهاب الفعلي… لا يُلغى الشرّ بالشرّ ولا يُواجه السلاح بالسلاح ولا يُنتقم ممّن ظلموا وقهروا.

هذا كلّه يزيد الشرّ شرًّا، والقتل قتلاً والظلم ظلما. من هنا أتت رسالة قداسة البابا الطوباويّ يوحنا بولس الثاني في يوم السلام العالمي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، صرخةً مدويّة بوجه الجميع، فأعلن جهارًا أنّه لن يكون سلام إن لم يتّبع المسلّطون سياسة أكثر عدالة ومساواة. أمّا وأنّ عدالة الأرض منقوصة بسببٍ من محدوديّة من اؤتمن عليها، فلا مفرّ من المسامحة والغفران، وإلاّ قتل، وإرهابٌ، وجوعٌ وتدميرُ. قالها قداسته بالفم الملآن: “لا سلام من دون عدالة ولا عدالة من غفران”.

أعيش فرحة العيد غدًا مع شعب فلسطين، أرفعه على المذبح، راجيًا له النعمة والبركة، متضرّعًا للربّ ليُقيمه في سلامه والعافية.

الميلاد عيدٌ لميلاد عالمٍ جديد يمرّ بالقدس أو لا يكون. عندئذٍ تبلغ البشريّة جمعاء العظمة والكِبَر واللطافة، وطفل المغارة معلّمه الكبير.

(الخوري أنطوان القزي)

* تُنشر في مجلّة “سلام وخير” التي توزّع في الأراضي المقدّسة