أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


خاص – العولمة الثقافية: الرابط الديني بين الأصولية المسيحية واليهودية العالمية (الجزء 1)

– عن نقد الفكر الديني والعلمنة والفردنة.. (مايكل هاردت – أنطونيو نيغري – هارولد لاسكي – جورج قرم – تيودور هرتزل – صادق جلال العظم – فلنكشتاين – جورجي كنعان

المقدمة

إنّ الخط الفاصل ما بين العولمة والإمبريالية من الناحية الزمنية لم يتبلور كليّاً في عالمنا اليوم، إذ نرى في سلوك الدول الكبرى خليط من الإثنين، رغم اقتناعنا بأن العولمة لعبت دوراً أساساً في وضع حد للنظام القديم المتمثّل بالكولونيالية (Colonialisation) والإمبريالية، إلاّ أنّها تسعى إلى بناء علاقات القوة الخاصّة بها والقائمة على الإستغلال، التي قد تكون أقسى وأكثر وحشية من تلك التي دمّرتها، ونقطة الإرتكاز لبناء هذه العلاقات هي في عنصر العولمة الثقافية( النظرية لمايكل هاردت وأنطونيو نيغري- كتاب الإمبراطورية[1]).

empire

لا يعني ذلك أنّنا ضد مبدأ العولمة بالمطلق، لكننا بالتأكيد سنرفض الناحية الثقافية منها باعتبارها وجه من أوجه الإستهدافات الرامية إلى استغلالنا وإلغاء ثقافتنا لصالح ثقافة مستوردة ودخيلة على منطقتنا العربية؛ فالتراث الثقافي المشترك الذي تملكه شعوب هذه المنطقة وما ينتجه هذا التراث من تضامن وتفاعل وتكامل إجتماعي في ما بينها، يساهم في تقوية مناعتنا في وجه العولمة الثقافية الزاحفة على عاداتنا وتقاليدنا المشرقية؛ فمعظم الجيل الجديد من الشباب العربي لا يعرف تاريخ المنطقة ورجالاتها، وما عاناه أجدادنا ليوصلوا إلينا هذا التراث الفكري الذي بواسطته تنطبع هويّتنا وذاتيّتنا، فننطلق منه لبناء وتطوير شخصيّتنا.

سنتناول في هذا البحث الأصولية المسيحية كونها كانت المحرّك الأساسي للإمبريالية في العالم كما هي اليوم الموجّه الأوّل للعولمة الجديدة؛

أمّا عرضنا لليهودية العالمية، فهو من باب تسليط الضوء على العامل الديني المشترك بينها وبين الأصولية المسيحية؛ فهم يتبنون إيديولوجية واحدة كما أنّهم يلتقون على الأهداف نفسها، والتعاون  الحاصل على الساحة الدولية يستند إلى إستراتيجية واحدة، وهم يحاولون اليوم  تسخير العولمة بهدف فرض ثقافة عالمية واحدة على الشعوب كافة.

إنطلاقاً من هنا، سنحاول من خلال هذا البحث، دحض النظريّة الرامية الى الإعتقاد بأنّ المسيحيين واليهود يشكلون ثقافة واحدة من الناحية الإجتماعية (بما يُعرف بالحضارة اليهودية- المسيحية).

الأصولية المسيحية

للأفكار الدينية والميثولوجية دور أساسي في حياة الإنسان المعاصر، كما كان لها الدور الرئيسي في حياة الإنسان البدائي وتصرّفاته ؛ ففي كتابه ” تأملات في ثورات العصر” وفي معرض حديثه عن إضمحلال الروح الدينية كروح مسيّرة للأحداث التاريخية وحلول العقلانية والعبقرية وثورة العلم والتكنولوجيا فضلاً عن ثورة الإتصالات مكانها في توجيه المجتمعات البشرية نحو العصرنة: يقول هارولد لاسكي[2]:{ إذا كانت الروح الدينية التي نعنيها هي النداء الملحّ بأن يكرّس المرء نفسه لهدف أبعد من مجرّد إرضاء شخصه، فإن الجواب هو أنه ما من حركة عظيمة في عصرنا إلاّ وكانت لديها القدرة على أن تجنّد في خدمتها نوعاً من الجهود جوهره الروح الدينية…} فالدين إذاً هو من أكثر المفاهيم الانسانية ترسّخاً في أعماق النفس البشرية.

يخطئ من يظن أنّ في العالم الغربي اليوم، في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، يوجد علمانيّة بالمعنى الصحيح للكلمة، بل هناك ما يُعرف بالمجتمع المدني(Société Séculière)، ففي كتابه “الشرخ الأسطوري بين الشرق والغرب”[3] يعتبر الدكتور جورج قرم أنّ فصل الدين عن الدولة في الغرب هو فصل نظري لا عملي ويبرز في البلدان الأوروبية المتقدمة والولايات المتحدة الأميركية أكثر من غيرها، وهم في أدبياتهم وخطابهم السياسي ينطلقون من خلفية دينية تعتمد على نظرية عنصرية تقول بتفوق الغرب في مختلف المجالات، نتيجة إنتمائه إلى الحضارة المسيحية التي يعتبرونها إمتداداً للحضارة الهللينية- الرومانية المعتمِدة على المنطق العلمي- الفلسفي، متجاهلين بذلك مساهمة الحضارة الإسلامية وحضارات الشرق الأقصى والأدنى الضاربة في التاريخ، في تقدم العلوم الفلسفية ومختلف العلوم في وقتٍ كانت أوروبا تتخبط في الظلامية على مدى عصور.

georges-corm

ليس هناك من تعريف موحّد للعلمانية، فللنظام العلماني ثلاثة أوجه: الوجه الأوّل هو النظام الشيوعي الذي يطبّق العلمانية الشاملة على المستوى الإقتصادي بتبنّيه الإشتراكية (Socialisme) بالإضافة الى تدخّله على المستوى الفردي(من الناحية الإيديولوجية) كما كان الوضع في الإتحاد السوفياتي سابقاً وكما هو حالياً في الصين، أمّا الوجه الثاني للعلمانية فيتمثل في الإقتصاد شبه الإشتراكي الذي تعتمده الكثير من الدول الكبرى ومن بينهم فرنسا بما يعرف بال(Semi-Socialisme) والذي لا يعطي أي أهمية للعامل الديني في العلاقات الإجتماعية، لكنّه لا يحاربه كما تفعل الشيوعية، أمّا الوجه الثالث فهو النظام الأنغلوساكسوني(في بريطانيا ودول الكومنويلث) والذي يعترف بسلطة الدين على الإنسان وضرورة وجوده على مستوى الجماعة، لكنه في الوقت نفسه يعلي شأن الفرد على ما عداه بما يعرف بنظريّة “الفردية” (Individualisme).

 هناك رأي سائد وشائع عند الأغلبيّة الساحقة من الناس، أنّ المسيحية تدعو الى فصل الدين عن الدولة، أمّا الأديان الأخرى بشكل عام والدين الإسلامي بشكل خاص فهو دين ودولة، لكن الواقع يخالف هذه

المزاعم إذا ما راجعنا تاريخ الكنيسة ومحاكم التفتيش التي أنشأتها، هذه المؤسّسة قاومت لفترة طويلة من الزمن القوى العلمانية في أوروبا بغية الحفاظ على إمتيازات الكنيسة الكاثوليكية بما كان يعرف “بنظام مسيحية القرون الوسطى”، إلى أن جاء الإصلاحيون البروتستانت في القرن السادس عشر وفرضوا التغيير بالقوة فيما عرف لاحقاً “بعصر النهضة والإصلاح الديني”، عن طريق الثورة اللوثرية في ألمانيا(مارتن لوثر).

في هذا الموضوع بالذات يقول الدكتور صادق جلال العظم[4] في كتابه ” نقد الفكر الديني” :

}{ إنّ الكنائس المسيحية في العالم الغربي المعاصر تشعر أنها لا تزال في موقف الدفاع عن النفس في وجه القوى العلمانية التي اجتاحت مجتمعاتهم بعنف، وهم يوحون بوجود تسوية سلمية بين المسيحية والقوى التي صارعتها صراعاً مريراً لقرون عدّة، والإنطباع الذي يعطونه كان أساسه تنازل المؤسسات المسيحية تنازل شبه تام عن كل ما يمت” لقيصر” بصلة، كما كان تحريراً كبيراً للكنيسة جعلتها قادرة على اغتنام فرصة جديدة للتعبير عن جوهرها الحقيقي ورسالتها الحق وهي أن تكون شاهدة على إنجيلها…أما الحقيقة فهي أنّ الفكر المسيحي في الغرب ليس مطمئناً في أعماقه لهذه التسوية}.

sadek-jalal-azem

جاءت الأصولية المسيحية كردّة، في النصف الثاني من القرن العشرين على الموجة العلمانية التي اجتاحت دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، في أعقاب قرنين من سيادة العقلانية والتقدّم التقني؛ يعرّفها الدكتور جورجي كنعان[5] في كتابه “الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي”بالآتي:{من الضروري البحث بالأصولية المسيحية باعتبارها نمطاً من الأعمال السياسية والإجتماعية، تعبّر عن علاقة وثيقة بين عقائد المرء الأصولية وبين سلوكه في الحقلين السياسي والإجتماعي من أجل تحقيق غرض ما، إشاعة فكرة أو مفهوم، غرس عقيدة في الأذهان أو التضحية من أجل تحقيق غايات هي باعتبار الدعاة جليلة ومطلقة لا تقبل المساومة…}

لكنّ الأهم من الردّة الأصولية، هو المناخ الفكري والحضاري الذي هيّأه المذهب البروتستانتي في الدول الأنجلوساكسونية من جهة، في ترسيخ فكرة الكيان اليهودي في عقول الغربيين؛ والفعل الذي مارسته الكنائس الأميركية الأصولية في الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، لوضع هذه الأفكار موضع التنفيذ؛ فالدعوات البروتستانتية بإعادة اليهود الى أرض فلسطين انتعشت في أواخر القرن التاسع عشر

وتسارعت خلال الحرب العالمية الثانية مع ظهور وقائع المحرقة اليهودية (فعلت الحملة الدعائية الصهيونية فعلها في تضخيم أحداثها) وأصبحت هذه الدعوات جزءاً لا يتجزأ من القناعات التي تفرض نفسها في عملية إتخاذ القرار السياسي في الدوائر الحكومية الغربية، في حين أنّ البروتستانت قبل هذا التاريخ ومنذ القرن السابع عشر، متّهمون “بمعاداة الساميّة” كما بمعاداة الكاثوليك بطبيعة الحال( نظريات البروتستانت المتعلّقة باليهود والكاثوليك تستحق الدرس)؛

فقد قام الأصوليون المسيحيون(الممثلين بمجلس الكنائس القومي الأميركي) بالترويج لنظرية الواجب المقدس بأن يمتلك اليهود الأرض الفلسطينية كي تصبح عودة المسيح ممكنة، {وإعادة بناء هيكل سليمان الذي لا يمكن رفعه إلاّ على أساسات المسجد الأقصى، وعند تحقيق هذا المخطّط  يقيم اليهود عرشاً لداوود يتبوّؤه أمير من نسله في أورشليم }؛ فاليهود إذاً هم شعب ينبغي توطينه في فلسطين لإنشاء دولة قومية يهودية إستناداً الى نبوءات التوراة المتعدّدة عن العودة الى أرض الميعاد،{ والقدس هي العمود الفقري لكل المشاريع السياسية التي خطّط لها اليهود منذ مئات السنين} ، وقد وصل مجلس الكنائس القومي في الولايات المتحدة الأميركية إلى هذه النتيجة مستخدماً تفسيرات خاصّة لنصوص التوراة قامت بها اليهودية العالمية، هذه التفسيرات نجدها في كتاب التلمود وتحديداً في كتاب الميشنا(معناه تكرار الشريعة)،…{هذا العامل الديني الذي بشّرت به هذه الكنائس أيقظ الوعي القومي اليهودي، أساس الإيديولوجية الصهيونية}… على حدّ تعبير جورجي كنعان.

هذا رغم أنّ المفكّر الصهيوني تيودور هرتزل[6] قال بعد زيارته للقدس:{ لم أجد رابطاً ولا أثراً يربط تاريخ اليهود بهذه المدينة، حتّى إسمها}، وكان المؤرّخ اللبناني كمال الصليبي كشف في كتابه: التوراة جاءت من جزيرة العرب[7] الذي نشره في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي: {…وما التوراة الموجودة حالياً إلا مجموعة كتابات أدبية وتاريخية لشعب من شعوب العرب البائدة إسمه بنو إسرائيل}…،

herzl

مؤكداً في هذا البحث أنّ البيئة التاريخية للتوراة لم تكن في فلسطين بل في غرب شبه الجزيرة العربية بمحاذاة البحر الاحمر، وتحديدا في بلاد السراة بين الطائف ومشارف اليمن؛أما عالم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فلنكشتاين فشكك بدوره بوجود أي صلة لليهود بالقدس، وفي تقرير نشرته مجلة “جيروزاليم ريبورت الإسرائيلية أوضح فيها فلنكشتاين أنّ الإسرائيليين القدماء تطوروا من الحضارة الكنعانية في العصر البرونزي المتأخر في المنطقة، ولم يكن هناك أي غزو عسكري كما هو مكتوب في التوراة، وأشار الى أنّ شخصية داوود كزعيم يحظى بتكريم كبير على خلفية توحيده مملكتي يهودا وإسرائيل هو مجرد وهم وخيال مضيفاً أنّ قدس داوود لم تكن أكثر من قرية فقيرة بائسة، أما وجود سليمان بن داوود كباني الهيكل مشكوك فيه أيضا، وعلماء الاثار لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تدعم وجود هيكل سليمان، وبعض القصص الواردة في التوراة بما في ذلك قصص الخروج والتيه في سيناء وانتصار يوشع بن نون على كنعان بالإضافة الى قصص وجود امبراطورية يهودية مترامية الأطراف تمتد من مصر حتى نهر الفرات لم تثبت ايضاً تاريخياً وإن كان لهذه المملكة وجود فعلي فقد كانت مجرد قبائل وكانت معاركها مجرد حروب قبلية صغيرة، على ما جاء في التقرير.

 

لقد بات معروفاً أنّ الأصولية المسيحيّة هي إنحراف عن الدين كما كل الأصوليات في مختلف الأديان، والأصولية المسيحيّة كما اليهودية العالمية بالإضافة إلى السلفيّة التكفيرية، هي حركاتٍ ايديولوجية تسعى لتدمير المجتمعات المتواجدة فيها، بغية إعادة بنائها على المبادئ المتطرفة، وتستخدم الإرهاب كوسيلة لتحقيق أهدافها السياسية، وهي تستظِلّ بالدين لتبرير أفعالها الغير دينية، ونقدنا لها يندرج فقط في هذا الإطار ونحن لا ننوي من خلال هذا البحث المناقشة في أي فلسفة فكرية أو عقيدة دينية، بل يهمّنا الكشف عن النزعات القومية والعنصرية والسياسية التي تحملها تلك المعتقدات.

***

[1] إمبراطورية العولمة الجديدة: يعرض الإطار الذي يستند عليه النظام العالمي الجديد والذي يعتبر على نقيض من النظام الإمبريالي القديم ومن أسسه عولمة الإنتاج والتبادل الرأسماليين، بمعنى أنّ العلاقات الإقتصادية أصبحت أكثر تمتعاً بالإستقلال عن سيادة الدولة القومية

[2]  هارولد لاسكي قضى القسم الأكبر من حياته منذ العام 1914 حتى وفاته في العام 1950 يعالج أهم قضايا العصر- طبيعة الدولة الحديثة وعلاقتها بالفرد والجماعة

[3]  يسعى جورج قرم من خلال هذا الكتاب الى  دحض المنهج التفكيري الدائر حول تقسيم العالم الى ثنائي شرق وغرب ويعتبر ان هذا التقسيم جاء نتيجة الأفكار المسبقة والسطحية التي تأسر المجتمعات وتؤدي بها الى الانغلاق على الذات

[4]  يقوم الكاتب بالتصدي بالنقد العلمي والمناقشة العلمانية والمراجعة العصرية لبعض نواحي الفكر الديني السائد حالياً في الوطن العربي

[5] جورجي كنعان: إنّ أي شخص يتقبل نصوص التوراة هو في منتصف الطريق الى الصهيونية، أما من يؤمن بها إيماناً قاطعاً فهو صهيوني خالص

[6]  الدكتور تيودور هرتزل: هو من مؤسسي الحركة الصهيونية أو اليهودية العالمية

[7]  تقول نظرية كمال الصليبي بأن أسماء الأماكن المذكورة في التوراة تقع في الجزيرة العربية وأسقطت هذه الأسماء لاحقاً على فلسطين في عهد مملكة الهسمونيين التي أسسها سيمون المكابي في القرن الثاني قبل المسيح

***

karam-el-diyafi